من داخل الحجر الصحي.. فلسطيني يروي لـ"الاستقلال" رحلته مع كورونا

أحمد طلبة | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

رائحة مُطهِّر قوية لم نشتمها، بل رأيناها في غرفة "محمد"، إلى جانب لفافات من ورق معقم، وبعض زجاجات ماء، وسترة من قماش مخملي، وأغطية بيضاء اللون.

هذه الأشياء لا تفارق الشاب الفلسطيني "محمد سرحان"، المحجور صحيا منذ أسبوعين داخل فندق "آنجل" بمدينة بيت لحم، بعد تأكيد إصابته بفيروس "كورونا" (كوفيد-19).

"محمد" الذي لا يرى أحدا إلا نفسه عبر مرآة موضوعة أمام سريره الذي بات رفيقه في فترة الرقابة الصحية، يستقبل يوميا طبيبا داوم على زيارته بين وقت وآخر لفحصه والاطمئنان على صحته.

وكما أنه لا يرى أحدا، فإنه لا يسمع سوى صوت أنفاسه التي يحاول الفيروس النيل منها عبثا، وأصوات تتسلل من تحت الباب، جاءت من غرف مجاورة محكمة الإقفال تضم بين جدرانها 30 شخصا، كل منهم معزول بشكل منفرد.

هذا الوصف الدقيق لم يكن لولا هاتف صغير متصل بالإنترنت؛ استطاع من خلاله الشاب المصاب كسر الحصار المفروض عليه عنوة منذ نحو أسبوعين، في بقعة تتجه إليها أنظار ملايين الفلسطينيين.

تلك البقعة نالت نصيبها من الفيروس الذي قلب رأس العالم على عقبه، نقله وفد سياحي يوناني دخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، واتخذ من الفندق محل إقامة له، بينما كان يزور المدينة التي يحج إليها مسيحيو العالم.

الطبّاخ المصاب

كأي يوم عادي، انطلق "محمد" من بيته متوجها إلى مكان عمله في الفندق الذي يخدم فيه كطاه يقدم الوجبات لزواره، لكنه لم يكن يعلم أن تاريخ الرابع من مارس/آذار 2020، سيكون خالدا في ذاكرته.

"محمد" الذي كسر حجره عبر الإنترنت، تحدث لـ "الاستقلال" عن إصابته بالفيروس الخطير الذي لم يبدُ كذلك من خلال كلماته التي أكدت علو معنوياته وإرادته في تجاوز المحنة.

في التاريخ المذكور كان يمارس عمله بشكل روتيني، إلى أن جاءت أخبار من إدارة الفندق تتحدث عن أن أفراد الوفد اليوناني كانوا حاملين للفيروس.

على وجه السرعة انطلقت تعليمات صارمة من الجهات المتخصصة تقضي بإخضاع كل العاملين في المكان إلى فحوصات عبر فريق طبي. أجرى "محمد" الفحص وعاد إلى بيته.

لم تمضِ ساعات قليلة حتى أُخبر مجددا بضرورة العودة إلى مكان عمله، بعد تأكيد إصابة أربعة أشخاص بـ "كورونا المستجد"، فنفذ الأمر وانطلق إلى الفندق مسرعا.

كان "محمد" من بين المصابين الذين ارتفع عددهم لاحقا إلى 16 شخصا، فيما يرافقهم هناك 14 فردا يشتبه بحملهم للفيروس، وكلهم أُخضعوا للحجر الصحي بشكل فوري.

اللحظة الأولى

وكما أن التاريخ المذكور لن يمحى من ذاكرته، فإن اللحظة الأولى لإخباره بالإصابة، ظلت ترافقه حتى بعد أسبوعين في الحجر بين جدران الغرفة الأربعة.

وعن تلك اللحظة يقول: "عندما تلقينا الخبر وعرفت أنني من المصابين بالفيروس، كان الأمر صعبا للغاية، وحالتي النفسية انهارت تماما، وذلك بحسب مقاطع الفيديو التي كانت تخرج من الدول الموبوءة كإيران".

كان "محمد" يظن -كما ملايين الأشخاص في العالم- أن "كل مصاب بالفيروس سيموت"، لكن الاعتقاد الخاطئ تبدد بتصحيح من الأطباء المتخصصين والنفسيين الذين يزورنه ورفاقه باستمرار.

ينقل الشاب الفلسطيني عند الأطباء توصياتهم التي تلخصت في جملة واحدة، أن "الإرادة القوية والإيمان بالشفاء أولى مراحل تجاوز المرض".

تصحيح الاعتقاد دعمته مساندات من العائلة ورسائل طمأنة لم تنقطع منذ اللحظة الأولى، وهو ما ساعد "محمد" على تجاوز تلك المرحلة النفسية التي وصفها بالأصعب.

يوم الحجر

منذ إعلان حجره صحيا، اختلف يوم "محمد" الروتيني بتفاصيله، فبعد اليوم لن يغادر الفندق، بل إنه تحول من شخص يعمل فيه لساعات إلى نزيل يقضي فيه كل يومه.

الاستحمام كان حصة عادية في حياته، لكنه أصبح بعد الآن فرضا يؤديه صباح كل يوم قبل تناول فطوره الذي يصل إليه من بين ثنايا الباب المقفل على مدار الساعة.

بعد تناول الفطور ليس هناك ما يفعله الشاب المصاب سوى تقليب صفحات الإنترنت للتواصل مع العالم والاطلاع على أخباره التي تصدر الفيروس عناوينها.

عبر الشاشة الصغيرة التي لا تفارق يديه، يواصل "محمد" تلقي مزيدا من رسائل الدعم التي أصبحت جزءا مهما من يومه، إذ أنها تساعده على شحن معنوياته بطاقة إيجابية، كما يقول.

"هذا يومنا باختصار. أكثره نقضيه على الهاتف. نحن ممنوعون من الخروج بتاتا لأي سبب كان، ومحظور عنا استقبال الأشخاص. لا يوجد شيء آخر يمكن فعله، فقط نرد على أسئلة العائلة"، يضيف "محمد".

"أبي سيموت"

أربعة أمتار هي مساحة الغرفة التي يسكنها محمد، يعدوها عشرات المرات يوميا وهو يفكر في ابنه صاحب الأعوام الستة، وعائلته وأصدقائه الذين لم يدخروا جهدا في دعمه.

ولابنه موقف يعتبره "محمد" الأصعب منذ بدء فترة الحجر، فطفله تكون لديه نفس الهاجس الذي ولدته المعتقدات الخاطئة والشائعات المتداولة عند الأب حول الفيروس.

ينقل الأب المصاب عن ابنه شعور القلق الذي بات يراوده منذ إعلان إصابته، ومحاولاته التهدئة من روعه على الرغم من المسافات التي باتت تفصل بينهما.

"عندما وصل الخبر لابني أن والده سيموت، استوعب الخطر على الرغم من صغر سنه. جلس يبكي وأصبحت لديه حالة نفسية صعبة من جراء الموقف، لكنها تبددت من خلال حديثي المتواصل معه"، يقول "محمد".

وإلى جانب أخبار طفله تتوارد أحوال العائلة تباعا إلى غرفة الحجر عبر الهاتف المحمول الذي استطاع بالصورة والصوت أن يوصل ما قطعه "كورونا".

"محمد" وأصدقاؤه لم يتشاركوا الإصابة بالفيروس فقط، بل جمعهم "جروب" محادثة جماعية عبر تطبيق "واتسآب" الذي خصص لهم مساحة للترفيه تعينهم على تجاوز شعورهم بالعزلة.

وفي داخل المجموعة تدور حوارات ومحادثات حول قضايا مختلفة، ويتم تداول الأخبار فيما بينهم، كما أنهم يتراسلون النكات ومقاطع الفيديو التي يغلب عليها طابع الضحك.

هذا داخل الفندق، أما خارجه وفي محيطه فليس هناك صوت ولا حركة لأي بشر باستثناء رجال الأمن الذي يوجدون على مدار الساعة لمنع الاقتراب.