عبدالحميد كشك.. شيخ كفيف أزعج السلطان وبصّر المصريين بالسياسة

القاهرة- الاستقلال | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في ستينيات القرن الماضي، حين كان الخطباء يتحدثون عن أحكام الطهارة والوضوء، جاء إلى القاهرة قادما من محافظة البحيرة، شيخ كفيف طرق أبواب السياسة وأزعج الحكام والنخب والمشاهير.

إنه الشيخ الأزهري المولود في العاشر من مارس/آذار عام 1933، عبد الحميد بن عبد العزيز كشك، والذي ظل منذ نعومة أظفاره يحلم بأن يعتلي المنبر، حتى ألقى أول خطبة وهو في السادسة عشرة من عمره، وانتقد فيها سوء إدارة مستشفى بلدته شبرا خيت، حيث كانت الرشوة منتشرة في ذلك الوقت.

قُدم فيه أول بلاغ من مدير المستشفى إلى مأمور المركز، ليكون هذا إيذانا بميلاد خطيب عظيم عرف نفسه قائلا: "أما أنا فخادم الإسلام ومُبلّغ رسالات الله، عبد الحميد بن عبد العزيز كشك".

استحوذ على قلوب الناس بصوته القوي وأسلوبه البليغ، وجعل من المنبر جهازا إعلاميا يغطي شؤون حياة الناس اليومية، ويصف لهم شعائر الإسلام ووقائعه الهامة والخالدة كأنهم يرونها رأي العين أو يشاركون فيها بأنفسهم، من خلال ربطه بين الماضي والحاضر، ومزجه بين الفصحى والعامية.

لم يستطع أحد أن يجاري الشيخ كشك في طلاقته وجرأته، ونجح في أن يكون من أشهر خطباء القرن العشرين على مستوى العالم الإسلامي.

الشيخ الكفيف أشعل الأحداث وألهب المشاعر، وطاف العالم شرقا وغربا من فوق منبره، وأسس مدرسة خطابية دعوية شعارها "المجتمع مسجدا، والمسجد مجتمعا"، وتحدث في السياسة حتى ضُيق عليه ومُنع وسُجن، لكن صوته ظل مدويا رغم المحن.

مدرسة متفردة

أظهر الداعية الإسلامي المصري، الشيخ عبد الحميد كشك (1933م - 1996م) نبوغا مبكرا، إذ حفظ القرآن وهو دون العاشرة من عمره، وجاء ترتيبه الأول على الجمهورية في الثانوية الأزهرية، ثم تخرج في كلية أصول الدين بتقدير امتياز، وكُرّم في حفل عيد العلم الذي حضره الرئيس المصري جمال عبد الناصر في عام 1961.

كان أكثر ما يميزه في رحلة تفوقه تلك، موهبته في الخطابة وتمكنه من الأداء ونبرة الصوت وقوة الحضور، فهو يولي اهتماما بالمقدمة التي تلفت الانتباه وتخطف القلوب وتهز الوجدان.

وعرف عنه افتتاح خطبته بصوت جهوري بالقول: "الحمد لله رب العالمين.. يااااا رب"، ليتبعها بالدعاء وذكر أسماء الله الحسنى، متسائلا محفزا: "من الملك؟ من الماجد؟ من الواجد؟ من الواحد؟"، فيشعل حماس المصلين الذين يتجاوبون معه ويرددون خلفه "الله.. الله".

ثم يتوقف الخطيب المفوه هنيهة حتى تهدأ المشاعر، قبل أن يعود إلى القائد الأول والقدوة الكبرى، محمد صلى الله عليه وسلم، قائلا: "سيدي يا رسول الله"، ويبث الثقة في نفوس المصلين فيخاطبهم بلهجة حاسمة: "أما بعد، فيا حماة الإسلام وحراس العقيدة"، ثم يصحبهم بقدرته المبدعة على التصوير الفني لما يتناوله من وقائع وقضايا وموضوعات، هاتفا: "هنا مدرسة محمد".

وبين الشحن النفسي والتهدئة الروحية، يُحلّق الشيخ بمستمعيه الذين استكانت على رؤوسهم الطير، بطلاقة وتمكن، معتمدا على ثقافة موسوعية وثروة لغوية، جعلته جديرا بلقب "فارس المنابر".

مصارعة الاستبداد

في الخامس من مايو/أيار عام 1964، وفي مسجد "عين الحياة" بحي دير الملاك، شرق القاهرة، اعتلى الشيخ المنبر ليجعل منه حلبة لمصارعة المستبدين بالنقد الصريح اللاذع، دون أن يستثني من نزاله أحدا، بدءا من جمال عبد الناصر الذي كرمه بنفسه في عيد العلم.

فالشيخ لم يخف من بطش عبد الناصر وقد سرد في خطبه الكثير من الفظائع التي شهدتها المعتقلات إبان حكمه، بالأسماء والتواريخ والأماكن وكأنه يسجل مذكرات للتاريخ، يدافع فيها عن المظلومين بجسارة منقطعة النظير.

أما في حقبة السبعينيات، فقد سبق عصره باختراع نهج في الخطابة يشبه برامج "التوك شو" بنقله الأحداث السياسية والاجتماعية اليومية إلى المنبر.

فلم يترك شاردة ولا واردة تتعلق بأحوال المسلمين في مصر والعالم، إلا وتعرض لها بالرد والتعليق والنقد، من الرئيس أنور السادات إلى كافة أطياف القوة الناعمة للدولة حينها، من صحفيين وكتاب وأدباء وشعراء ومثقفين. أما أهل الفن فكان لهم النصيب الأكبر من سخرية الشيخ ونقده، دون أن يفت هجومهم المضاد في عضده.

حتى شيخ الأزهر نفسه، هاجمه كشك بضراوة قائلا: "يالا المهزلة ويالا العار يا شيخ الأزهر، يا من نمتم وتركتم الإسلام نهبا لكل من هب ودب".

وشمل هجومه علماء كبار كالشيخ محمد الشعراوي الذي ناله حظ من سهام النقد، عندما قال عن الرئيس المصري محمد أنور السادات: "لو أن الأمر بيدي لوضعته في مقام من لا يُسال عما يفعل".

كما هاجم أنيس منصور بسبب انتقاده لتوقف شركة مصر الطيران عن تقديم الخمور على رحلاتها. ولم يفلت من نقد كشك رئيس حكومة أو وزير داخلية أو مدير مخابرات في عز جبروتهم، رغم استدعائه إلى الأمن عقب كل خطبة، وحبسه في السجون.

الشعبية الجارفة

أبدى الشيخ حرصا شديدا منذ البداية على أن يكون مستقلا تماما في مشواره الدعوي، فلم يرتبط بحزب أو ينضوي تحت لواء جماعة، ولا انحاز لأي اتجاه فكري أو سياسي محدد، وبقي محتفظا بمسافة من الود والتعاطف والدعم والاحترام لكل فصيل يرفع راية الإسلام.

فكان بمثابة الصوت الهادر الذي يدافع عن الإسلام والمسلمين ويتفاعل مع التطورات اليومية الجارية، مما ساهم في اقترابه الشديد من الجماهير وصنع له شعبية كبيرة، بالتوازي مع الفكر الدعوي العلمي الهادئ الذي مثله في هذا الوقت علماء كبار كالشيخين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي. 

يقول عنه المفكر الإسلامي الراحل محمد عمارة: "كان الشيخ كشك من ألسنة الحق في مجتمع غابت عنه الكلمة الشجاعة، وكان له تأثير غير عادي في الجمهور، إن مزيته أنه كان يمزج الكلمة الأصولية بفقه الواقع المُعاش، ولم يخش في الله لومة لائم، فقد كان فارسا مغوارا".

وبالتزامن مع هامش الحريات الذي سمح به السادت في عام 1972، كثف كشك من اشتباكه الحاد الجريء مع الأحداث الجارية ونقده اللاذع لكبار المشاهير.

وحضر الصلاة معه حشود هائلة من المصلين، كانوا يزحفون نحو المسجد قبل الصلاة بأربع ساعات على الأقل، بل يوجد بعضهم في المكان من وقت صلاة الفجر، حتى يمتد المسجد رأسيا ليصبح أربعة طوابق، وأفقيا ليشمل كافة الشوارع والحارات المحيطة.

وشهدت دعوته طفرة هائلة وتصاعدت شعبيته بوتيرة ملحوظة، وطافت شهرته الآفاق وأصبحت خطبه تُسمع في الشوارع عبر المحلات ووسائل المواصلات، وحظيت عباراته ومقولاته بقبول واسع لدى المسلمين داخل مصر وخارجها، لبلاغته وما يتميز به من حس فكاهي.

وانتشرت تسجيلات خطبه في أنحاء العالم بانتشار تقنية "شرائط الكاسيت" التي كانت تعبر حدود مصر مهربة إلى الخارج حيث تنتظرها الشعوب المسلمة بشغف، حتى شكر ربه قائلا: "أقول لرب العزة، كان علينا الأذان وعليك الإبلاغ".

آخر شيوخ السياسة

قضى الشيخ عمره ناقما على الأوضاع السياسية في القاهرة خاصة فيما يتعلق بالظلم الاجتماعي، وكان يردد دائما "لو وزع الظلم إلى 100 جزء لكان في مصر 99 جزءا، وجزء واحد لبقية الدنيا، ومع ذلك يأتي هذا الجزء مساء ليبيت في مصر".

وانتقد إعدام نظام عبد الناصر المفكر الإسلامي سيد قطب بقوله: "يشنقون الرقاب التي قالت لا إله إلا الله، وعبد الوهاب يغني له تسلم يا غالي"، في إشارة إلى أغنية للمطرب والملحن المصري محمد عبد الوهاب تزامنت مع إعدام الرجل.

وفي عهد السادات واصل كشك انتقاد السلطة السياسية خاصة فيما يراه مناقضا للدين والأخلاق، ونالت جيهان السادات انتقادات واسعة منه بسبب تدخلها في قوانين المرأة والأسرة، واحتد هجومه على الرئيس نفسه بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979 وزيارته للكنيست الإسرائيلي.

 كما اشتعل صدامه مع الحكومة واتهمها بخيانة الإسلام وواصل فضح صور الفساد في مصر. وتصاعد الاحتقان بعد أحداث الزاوية الحمراء أو ما سمي حينها بالفتنة الطائفية في يونيو/ حزيران من عام 1981، ومهاجمة الشيخ للأنبا شنودة محذرا إياه من أوهام الزعامة ومن التفكير في إقامة دولة مسيحية على أرض مصر.

وتحدى كشك النظام والكنيسة هاتفا: "لا وعيد ولا تهديد، لن أقدم استقالتي وسأظل أدعو إلى الله، فلست من الذين يخافون التحقيق والتهديد، إنني وأنا أرقى هذا المنبر في كل مرة أقول اللهم أحسن ختامي".

وقبل إلقاء القبض عليه مع عدد من المعارضين السياسيين ضمن قرارات سبتمبر/ أيلول الشهيرة التي أصدرها السادات في عام 1981، صرخ بها بأعلى صوته من فوق المنبر في يوم الجمعة 28 أغسطس/آب من نفس العام، موجها رسالة تحذير للرئيس السادات، نصها: "اتق الله أيها الظالم، واعمل ما شئت فالموعد بيننا محكمة قاضيها هو الله".

ثم أفرج عنه عام 1982، في عهد الرئيس حسني مبارك، دون أن يُسمح له بارتقاء المنبر حتى وفاته، لتطوى بغيابه صفحة الخطباء الجماهيريين، إيذانا ببدء صعود دعاة الفضائيات وموالاة ولي الأمر.

زهد وثبات

عاش كشك حياة زاهدة متقشفة بسيطة، لم يأخذ فيها من الدنيا شيء، بل ترك الدنيا لتأخذ منه، حتى اضطر في أحد الأيام أن يبيع ساعة حائط في بيته ليقتات من ثمنها الزهيد.

وكان يقول: "لو عرضت عليَّ مناصب الدنيا لأغلقت الباب دونها جميعا، فأنا لا أرضى بمنبر رسول الله بديلا". ورفض إغراءات السفر إلى الخليج لتحسين وضعه المادي والخلاص من حصار النظام المصري له، فقد كان يعتبر الخروج من مصر فرارا من الزحف. وظل يتحدى كل الرؤساء وأثار جدلا واسعا واختلف حوله الكثيرون، ودفع ثمن جرأته مرات عديدة.

فقد حكى في مذكراته أن المشير عبد الحكيم عامر - الرجل الثاني في عهد عبد الناصر- طلب منه في عام 1965، أن يهاجم سيد قطب ويحل دمه، لكنه رفض.

بعد ذلك، سيق كشك إلى سجن القلعة سيئ السمعة وظل يتنقل بين معتقلات طرة وأبو زعبل والحربي ما يقرب من ثلاث سنوات، تعرض فيها للتعذيب الذي ترك آثاره على كل جسده رغم إعاقته.

ورغم ذلك عاد إلى الخطابة في مسجد عين الحياة بعد الإفراج عنه، وواصل انتقاد الحكومة ومطالبتها بإنصاف المواطنين والتوقف عن ظلمهم ومحاربة الفساد، وألح على تطبيق الشريعة الإسلامية بدل القوانين الوضعية، وعارض نظام السادات بضراوة.

وبعد أن فرض عليه نظام مبارك أن يقضي بقية حياته في منزله، لم يتوقف عن نقد الحكومة في كل مناسبة أو فرصة تسنح له للحديث أو الخطابة، في إصرار عجيب على توصيل رسالته.

وكان يقول: "قضيتي الخاصة ألا يقبض الله روحي حتى أتم تفسير كتابه الكريم، أما قضيتي العامة فهي أن أرى الإسلام وقد طبقت شريعته، وليس لي غاية أسمى ولا أعظم من ذلك".

وفي يوم الجمعة 6 ديسمبر/ كانون الأول عام 1996، حقق الله له أمنيته التي طالما تمناها بأن "يقبضه إليه وهو ساجد بين يديه".

فبعد أن توضأ استعدادا للصلاة، وأخذ يتنفل بركعات قبل الذهاب إلى المسجد، ختم حياته بالسجدة الثانية وهو بين يدي ربه، مخلفا وراءه أكثر من ألفي خطبة، وتفسيرا للقرآن الكريم في تسع مجلدات، وأكثر من مائة كتاب وسيرة ذاتية مليئة بالمواقف المثيرة للجدل، على مدى 40 عاما زاخرة بالمواقف التاريخية والأحداث الساخنة.