طبق "الكسكس".. هل يصلح ما أفسدته السياسة بين المغرب والجزائر؟

12

طباعة

مشاركة

وضعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" ملف طلب إدراج "الكسكس" المغاربي، بقائمة التراث غير المادي، ضمن الملفات التي سيتم دراستها، والمنتظر الإعلان عنها في 2020.

في مارس/ آذار 2019، تقدمت تونس وموريتانيا بطلب إلى اليونسكو، لتسجيل طبق الكسكس على قائمة "التراث اللا مادي" للمنظمة، فيما انضمت الجزائر والمغرب لاحقا إلى الجارتين المغاربيتين بعد صراع طويل بينهما بشأن موطن الطبق الأصلي.

سفير تونس الدائم لدى اليونسكو، غازي الغرايري، أعلن أن تونس والمغرب وموريتانيا والجزائر اتفقوا أخيرا على تقديم الطلب باسمهم جميعا، لتسجيل الوجبة الأكثر شعبية في شمال إفريقيا، على قائمة التراث العالمي اللامادي.

لم يغب عن الغرايري في حديث مع صحافة بلده، الإشارة إلى أن غياب ليبيا عن تحالف الدول المغاربية التي تعتزم تقديم الملف راجع لعدم توقيعها معاهدة اليونسكو للتراث اللامادي، مضيفا أنه سيتم إضافتها لملف المطالبة في حال التحاقها بالمعاهدة.

من جهتها تحدثت سفيرة المغرب لدى اليونسكو، زهور العلوي، بحماس عن الطلب، قائلة: "هذه هي المرة الأولى التي تتفق فيها الدول الأربع على إرسال طلب مشترك".

انضمام المغرب والجزائر للملف، سبقه تراشق بالتصريحات بين مسؤولي البلدين وأزمة دبلوماسية، تعود إلى تعنت كل من الطرفين لنسب الطبق إلى بلده، فهل يصلح طبق الكسكس ما أفسدته السياسة بين الجارتين؟.

أزمة دبلوماسية

في عام 2016 أعلنت الجزائر عن نيتها ضم أغاني الراي (لون موسيقي مغاربي) والكسكس إلى قائمة التراث العالمي غير المادي، ما أشعل حرب تصريحات بينها وبين المغرب.

وزير الثقافة في حكومة عبد المالك سلال، عز الدين ميهوبي، قال آنذاك: إن "الخطوة المذكورة تأتي في سياق قلق الجزائريين على تراثهم ومن محاولة السطو عليه. من حق الجزائريين أن يكونوا غيورين على تراثهم وتاريخهم وذاكرتهم من أي محاولة للمساس به والسطو عليه أو تحريفه".

بينما رأى المغرب أن جوهر الصراع حول الكسكس هو وجود صراع على التراث اللا مادي، تحركه نزعة سياسية بين البلدين.

عاد الصراع للاشتعال عام 2018، عندما دعا الوزير الأول الجزائري السابق أحمد أويحيى، المنتجين في مجال الصناعات الغذائية إلى تطوير إنتاج "الكسكس"، من أجل الرد على المغرب، قائلا: "هناك دولة شقيقة وجارة (في إشارة إلى المغرب) جعلت الكسكس منتوجها هي فقط في الدنيا، أثبتوا العكس وأظهروا الكسكس الجزائري".

وبعد مرور أيام خرج الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية - آنذاك - مصطفى الخلفي، قائلا: "لا أعتبر أن هذه القضية ينبغي أن تكون موضوع تعليق في الندوة الصحافية". وأضاف: "لأن الواقع قائم لا يرتفع"، في تأكيد على أن طبق الكسكس مغربي.

بعد دخول تونس على الخط، أشعل الكسكس حربا بين الدول الثلاث، حيث عكف خبراء من هذه البلدان لدراسة مشروع موحد لضم الطبق التقليدي لقائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة اليونسكو.

أستاذة علم الاجتماع والأنثربولوجيا بجامعة القاضي عياض في مدينة مراكش، الدكتورة نعيمة المدني، اعتبرت الكسكس من الأطباق التقليدية الأساسية في المغرب العربي، وترجح بعض الدراسات التاريخية بداية تحضيره واستهلاكه منذ القرن السابع الميلادي بهذه المناطق.

أصول أمازيغية

"كْسْكْسُو" هكذا ينطقها الأمازيغ والمغاربة وسكان شرق ليبيا، حيث ارتبط الطبق بالمناسبات الدينية وأيضا في الأفراح والأحزان.

وفي كتابه "تاريخ إفريقيا الشمالية"، يقول المؤرخ والصحفي الفرنسي المختص في شؤون المغرب العربي، شارل أندري جوليان: "اشتهر الأمازيغ بقوة بنيتهم وطول أعمارهم، إنهم كانوا قنوعين ونباتيين في غالب الأحيان، وكان الفلاحون منهم يتناولون الكسكس وذلك في العهد الروماني. أما مربو المواشي فقليلا ما كانوا يذبحون حيواناتهم وكانوا يشربون الماء كثيرا". 

ويعتقد الكاتب أن الطبق يعود أصله إلى أمازيغ الشمال الإفريقي، إذ ظلت تميزهم حتى بعد دخول العرب في القرن السابع. كما يوجد الطبق في سيوة المصرية أيضا وسكانها أمازيغ، ويؤكد المتخصصون في اللسانيات أن الكلمة أمازيغية لانتشارها في الرقعة الجغرافية حيث يوجد الأمازيغ.

يأكل المغاربة الكسكس يوم الجمعة بعد صلاة الظهر، وهي عادة مستمرة إلى الآن في كل البيوت، إذ يرتبط الطبق بالطقس الديني في ذلك اليوم. ويأكله الأمازيغ ليلة الاحتفال برأس السنة الأمازيغية في 13 من يناير/ كانون الثاني من كل عام، ولا يغسل الإناء الذي طبخ فيه ولا الذي أكل فيه لمدة 3 أيام لإبقاء البركة.

يرتبط الكسكس لدى المغاربة أيضا بالمناسبات الحزينة، إذ يعتبر هو الطبق الرئيسي في الجنازات مباشرة بعد دفن الميت. وأيضا بالصدقة، إذ تعد أطباق منه وترسل إلى أبواب المساجد من أجل الفقراء والمساكين، وينتشر هذا الطقس بشكل كبير جدا في 27 رمضان (ليلة القدر). 

أفاد المؤرخون بأن تاريخ طبق الكسكس يعود إلى الفترة 202-148 قبل الميلاد حيث تم العثور على أواني طبخ تشبه تلك المستخدمة في تحضير الكسكس في مقابر تعود إلى فترة الملك ماسينيسا البربري، الذي وحد مملكة نوميديا التي كانت تضم شمال الجزائر ومناطق من تونس وليبيا.

كما سمحت عملية تنقيب بمنطقة تيارت في الجزائر بالعثور على بعض الأواني من بينها القدر المستعمل في تحضير الكسكس يعود تاريخها للقرن التاسع.

يعد الطبق من حبات السميد التي يضاف عليها الدقيق والماء والملح، ثم اللحم أو الدجاج و7 أنواع من الخضر، وتختلف طريقته من بلد ومن منطقة إلى أخرى، إذ يعده التونسيون بالسمك والجزائريون بالحليب.

هوية تاريخية

الدكتورة نعيمة المدني كشفت لـ"الاستقلال" كيف ارتبط وجود هذا الطبق في البداية بنشاط الرحل قائلة: "كان يتم تحضير حبات الكسكس باستعمال المهارات التقليدية اليدوية، اعتمادا على دقيق معد بواسطة نوع واحد من الحبوب أو عدة أنواع (الكسكس الخماسي بالمغرب)، كوسيلة من أجل تصبير الدقيق والاحتفاظ به أطول وقت ممكن، كما كان يتم إضافة أعشاب طبية أحيانا كوصفة للعلاج ومقاومة الأمراض والظروف الطبيعية".

لم تكن اللحوم مدرجة ضمن مكونات الوصفة في البداية، بحسب المتخصصة، قائلة: "في المغرب يشير إدوارد ميشو بلير (أحد أعلام السوسيولوجيا الكولونيالية بالمغرب) بداية القرن العشرين إلى استعمال ساكنة شمال المغرب للكسكس المعد بالحليب والخضر كاللفت والجزر، وهي وصفة لازالت موجودة في سجل التراث الغذائي لهذه المناطق، لذلك ظلت ميزة الكسكس أنه يمكن استهلاكه كطبق يومي واحتفالي، لهذا فهو يلائم إمكانيات جميع الطبقات الاجتماعية".

كما أشارت أستاذة الأنثربولوجيا إلى الاختلاف الذي تعرفه هذه الأكلة بين دول المغرب العربي، "إذ يتميز المغرب مثلا بتنوع مجالي وسوسيو (ثقافي) بشكل ينعكس على اختلاف تحضير الكسكس من منطقة إلى أخرى وبعدة طرق، حيث نجد الكسكس الملكي، كسكس حلو مالح بالتفاية، باللحم المجفف، بسبع خضر، بالسمك، بالحليب واللبن، بالدهن والمسمى بالسفة". 

ويعتبر الكسكس، حسب الدكتورة، "وسيلة من وسائل التعبير عن الهوية المغاربية وكذلك الإفريقية، كما أن المغرب يطلق على طبق الكسكس كلمة الطعام، بمعنى الأكل، فلكونه يحضر بذات مكونات الخبز، فهو يحظى بذات القيمة الرمزية للخبز الذي يدل على الرزق لدى المجتمعات العربية".

قبل أن تزيد: "لذلك توجد تمثلات اجتماعية تربط استهلاكه وتقديمه كطبق جماعي بالحصول على الأجر والثواب وجلب الخير والوفرة، لهذا السبب هناك حرص على استعماله في المناسبات الاجتماعية والدينية كوسيلة من وسائل التضامن الاجتماعي، فضلا عن تقديمه كطبق أساسي في الجنائز للتعبير عن الحداد".

الطبق النبيل

تشير العديد من المصادر التي تعود إلى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى استهلاك الكسكس المغاربي من قبل الأوروبيين، قائلة: "أعتقد أن تسجيل هذا الطبق كتراث عالمي مغاربي سوف يحميه من محاولة تحويله إلى طبق سريع يفقده بعده الاجتماعي والثقافي ويحتفظ به كطبق نبيل يتطلب مراحل عديدة وعناية فائقة بكل المكونات".

ولا تتسابق الدول من أجل تسجيل طبق ما أو لون غنائي على قائمة "يونيسكو" باسمها، من أجل نسبه إليها فقط، بل إن حفظ التراث أو صونه الذي تعنى به اليونسكو يتمثل في منح مساعدات قد تصل إلى 100 ألف دولار، بعد إجراء فحص على القائمة وتحديد ما يحتاج إلى التسجيل العاجل.

ومكنت مبادرة الأمم المتحدة التي بدأت في 2003 من تحقيق بعض النتائج الأساسية ذات القيمة الرمزية العالية على المستوى المغاربي.

وسبق للرباط طلب مساعدة دولية من صندوق التراث الثقافي غير المادي من أجل إعداد ملف تسجيل رقصة "تيسكوين" في قائمة التراث الذي يحتاج إلى تسجيل عاجل وقد تم تصنيفه بالفعل.

وتمكنت جمعية نسائية مغربية من الحصول على مساعدة دولية من الصندوق من أجل إحياء الأغاني النسائية، فيما قدمت موريتانيا طلب مساعدة دولية من الصندوق بغية تعزيز قدرات المجتمع المدني والجماعات من أجل صون التراث الثقافي غير المادي.