أحد أهم مداخل فهم سبب عداء إسرائيل للربيع العربي أن هذه الظاهرة الصحية كانت رد فعل تصحيحي طبيعي على أزمات الجسد العربي، وكان لافتا أن إسرائيل في موقفها منه كشف عن اقتياتها على ظاهرة أزمات الأنظمة السياسية العربية، وأنها غير مستعدة لبذل مساعي تفاهم وحوار وتقديم تنازلات للحصول على مسالمة وموادعة الدول العربية، طالما أنها قادرة على استغلال واقع الأزمات المتكررة أو المزمنة لهذه الدول لتضغط عليها باتجاه التطبيع، بدلا من أن تتجشم عناء التنازل المذل.
كان لقاء رئيس مجلس السيادة السوداني في عنتيبي مع رئيس وزراء إسرائيل كاشفا لواقع استغلال هذا الكيان المحتل مواطن الضعف المرتبطة بأمراض الاستبداد وتداعياته. الأمر لا يتوقف عند السودان. فالقائمة تطول لتشمل غالبية الدول العربية على نحو ما سنرى في محاور هذه الدراسة.
تتناول هذه الورقة القضية وفق محورين: المحور الأول يتناول المداخل التطبيقية لهذا التفسير، وتتضح لنا كيفية عمل الأزمة في دفع الدول العربية نحو التطبيع، وهي مداخل متعددة. ويتناول المحور الثاني حالات التطبيع العربي على حدة فيما يتعلق بتأثير مداخل التفسير الخاصة بالأزمة.
هذه اللعبة يمكن تسميتها "دبلوماسية التوسط"، وهي تختلف عن "دبلوماسية الوساطة"، في أن الأخيرة تمثل مدخلا لتسوية النزاعات والصراعات، على نحو ما تفعل الكويت في الأزمة الخليجية المعروفة إعلاميا بـ"أزمة حصار قطر". والنماذج على هذا الضرب من الدبلوماسية لا تحصى، سواء في منطقتنا أو عبر العالم.
أما "دبلوماسية التوسط"، فهي جهد دبلوماسي تستغل فيه إسرائيل صلتها النافذة بمؤسسات الدولة في العالم الغربي لتقديم تسهيلات في السياسة الخارجية لبعض الدول العربية، مقابل الحصول على عوائد مادية اقتصادية كما في حالة إحكام قبضة إسرائيل على ثروة شرق المتوسط كما هو الحال في العلاقة مع مصر، أو الرغبة في امتلاك مساحات شاسعة من الأراضي التي كانت مغرقة بفعل مياه النيل، والتي ستجف بعد اكتمال أعمال البناء في سد النهضة كما هو الحال مع السودان.
كما قد تحوذ إسرائيل على عوائد رمزية مشفوعة بعوائد أمنية كما هو الحال في العلاقات مع كل من الإمارات والسعودية، وما يرتبط بهما من سوق اقتصادي ومن ارتباطات أمنية تجمعها بإيران. وهي عوائد سنرى تفصيلاتها لاحقا في محاور التقرير.
لا يعني هذا أن "دبلوماسية التوسط" تمثل مبادرة خالصة من إسرائيل، حيث اللافت أن ثمة ملامح اتفاق على استخدام هذه الدبلوماسية في اتجاهين: أولهما استغلال القوى الغربية هذه الدبلوماسية لدفع المحيط العربي للتطبيع مع إسرائيل، وثانيهما أن يجري استغلال هذه الدبلوماسية، والدعاية حولها، كغطاء للتطبيع الطوعي تحت لافتة استغلال التطبيع لتحقيق مصالح.
ولعل ما نشرته صحيفة "جيروزاليم بوست" ما يشير لتقلص نفقات وزارة الخارجية في إسرائيل لصالح زيادة نفقات الدفاع والمخابرات[1]، مع توسع أدوار هذه المؤسسات الأخيرة ضمن أعمال السياسة الخارجية السرية التي تعتمدها إسرائيل من أهم الدلائل على تلك المسارات السرية للسياسة الخارجية.
وتلعب إسرائيل في هذا الإطار دورا قويا لتوفير دعم غربي واسع للأنظمة التي تبني أو تتجه لبناء علاقات توصف بالطبيعية معها، كما حدث مع نظم حكم متعددة كما هو الحال مع مصر مبارك بتطبيعها العلني وسعودية آل سعود بتطبيعها السري، بالإضافة إلى قطر وعمان، ويتجاوز الأمر دعم الأنظمة القائمة لصالح التمهيد لتغييرات في الأنظمة على نحو ما حدث مع دعم تغيير ولاية العهد في الأردن مع مرض الملك حسين، وكذلك عند دعم ابن سلمان في عملية تغيير ترتيب ولاية العهد لإزاحة ولي عهد التطبيع السري محمد بن نايف واستبداله بأمير التطبيع العلني والشعبي محمد بن سلمان، أو على نحو ما حدث مع مصر برعاية الانقلاب على حكم أول رئيس مدني منتخب الدكتور الراحل محمد مرسي.
وفيما يلي نعرض لأبرز نماذج قدرة مفهوم الأزمة على تفسير هذه الظاهرة المرضية: ظاهرة التطبيع التي تجري بالتنكر لإرادة الشعوب العربية من جهة، وبالتنصل من مفهوم الحق العربي، وبتجاهل الخبرات التاريخية مع إسرائيل، والتي ترتبط بإراقة الدماء العربية لتمكين مشروع استعماري دخيل على المنطقة.
ففي الثالث من فبراير /شباط 2020، قام العسكري عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني بلقاء رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو في العاصمة الأوغندية "كمبالا"، وهو اللقاء الذي دام لأكثر من ساعتين، حسب مصادر سودانية، وهي المصادر التي صرحت أيضا بأن الرئيس الأوغندي بدأ الترتب لهذا اللقاء قبل أسبوع من حدوثه[2]، فيما صرح المتحدث باسم وزارة الدفاع السودانية بأن مباحثات تحضيرية سبقت اللقاء بنحو 3 أشهر، وأنها شملت لقاءات مع رئيس وزراء إسرائيل ووزير الخارجية الأمريكي[3].
في نفس يوم المقابلة، تلقى البرهان دعوة رسمية لزيارة واشنطن، وهي الدعوة الأولى لمسؤول سوداني لزيارة العاصمة الأمريكية منذ 30 عاما، هي فترة حكم الرئيس الأسبق عمر البشير، التي شهدت تدهورا واسعا في العلاقات بين البلدين[4].
الدعوة الأمريكية، التي وجهها بومبيو شخصيا للبرهان، زامنها بيان مقتضب لوزارة الخارجية الأمريكية توجه بالشكر لرئيس المجلس السيادي.
في هذا الإطار، أفادت وكالات أنباء عن لعب دولة الإمارات دور الوسيط في ترتيب اللقاء، وأنها أيضا تسعى لدى الإدارة الأمريكية إلى رفع العقوبات المفروضة على السودان[5]. ودخل السودان مسلسل عقوبات بدأ مع وضع اسمه على لائحة الدول الراعية للإرهاب في 12 أغسطس /آب 1993 بعد استضافته زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن.
ورغم عدم وجود إحصاءات دقيقة عن إجمالي الخسائر، قدرت الحكومة السودانية جملة خسائرها خلال 20 عاما من العقوبات الأمريكية بنحو 500 مليار دولار، وتقدر الخسائر غير المباشرة التي يتكبدها السودان جراء العقوبات بـ 4 مليار دولار سنويا، بينما بلغت قيمة الفرص الاستثمارية الضائعة بنحو تريليون دولار.
ومن بين الخسائر المباشرة، الخطوط الجوية السودانية، حيث بقي معظم أسطول طائراتها على الأرض لافتقادها قطع الغيار والصيانة الدورية لطائراتها، كما فقد قطاع السكك الحديدية 83% من بنيته التحتية.
وتدهورت الصناعات المحلية التي تسهم بنحو 26% من إجمالي الناتج المحلي، ما أدى إلى تسريح آلاف العمال، وتمثلت أبرز المجالات تضررا في التمويل والاستثمار، فقد حرم عدد كبير من شركات القطاع الخاص السوداني من التمويل الخارجي والاستثمار الأجنبي، كما أضرت العقوبات بقطاع الصحة، فتعذر معها استيراد الأدوية الرئيسية والأجهزة الطبية[6].
جدير أن الولايات المتحدة سبق لها في ديسمبر /كانون أول 2019، أن رفعت اسم السودان من قائمة الدول المقلقة في الحرية الدينية[7]، وذلك بعد زيارة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك للولايات المتحدة، وهو تقريبا نفس التاريخ التي سبق للمتحدث باسم القوات المسلحة السودانية أن حددها كمفتتح للمباحثات التي أجريت للإعداد للقاء البرهان - نتنياهو، ما يضع شكوكا حول عدم علم الحكومة السودانية بهذه الخطوة، ويفسر تساهل الحكومة مع الخطوة التطبيعية. وفي أعقاب رفع اسم السودان من قائمة الدول المقلقة في الحرية الدينية، صرح مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية تيبور ناجي، بأن الولايات المتحدة لم تعد في خصومة مع حكومة السودان، وباتت تعتبرها الآن "شريكا"، إلا أن رفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب عملية إجرائية[8].
وأشارت مواقع إعلامية إلى أن عملية تسليم البشير لمحكمة العدل الدولية جاء في إطار مفاوضات التطبيع بين السودان وإسرائيل، وذلك وفق مصادر سعودية، رغم أن إعلان عضو مجلس السيادة السوداني محمد الحسن التعايشي، بأن المفاوضات بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة في إقليم دارفور قد استقرت على تسليم البشير ومعاونيه للجنائية الدولية، والمثول أمامها من أجل تحقيق العدالة والمصالحة، وأن الاتفاق بين الطرفين ركز على العدالة الانتقالية والمصالحة، وأن الوصول لاتفاق سلام شامل لن يتم دون الاتفاق على مؤسسات تنجز مهمة العدالة، وتحقق مبادئ عدم الإفلات من العقاب[9].
كانت المحكمة الجنائية الدولية قد أصدرت مذكرات اعتقال بحق البشير، ووزير الدفاع السابق عبد الرحيم محمد حسين، ووالي جنوب كردفان أحمد هارون، وقائد ميليشيا "الجنجويد" علي كشيب، في العام 2009، بتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في دارفور، ثم ألحقتها بمذكرة اعتقال ثانية عام 2010، بتوجيه تهم تصفية عرقية وإبادة جماعية ضد البشير.
وتفيد قضية رفع اسم السودان من قوائم الإرهاب في تحفيز المستثمرين جزئيا لولوج السوق السوداني، غير أن خبراء صندوق النقد الدولي يرون أنه ليس إجراء كافيا لكي تحدث إصلاحات اقتصادية تخرج بالسودان من أزمتها، وأن قائمة المطلوبات من أجل الإصلاح تتطلب إجراءات من قبيل زيادة شفافية القطاع المصرفي، وإصلاح أنظمة مكافحة غسل الأموال في البلاد، وتطبيق قوانين التعاقد والمشتريات العامة، فضلا عن المهمة الأصعب[10]، والمتمثلة في مواجهة شبكة الفساد التي خلفها نظام البشير من المسؤولين الذين أحكموا قبضتهم على السودان، وهي شبكة قادرة على عرقلة أي تحول إصلاحي من وجهة نظر خبراء المال والأعمال.
ويعد البرهان ثاني مسؤول سوداني كبير يلتقي مسؤولين صهاينة، بعد لقاء الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري برئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق آرييل شارون، وذلك عندما كان وزيرا في حكومة "مناحم بيجن"، في 13 مايو/آيار 1982[11].
اللقاء الذي شهدته العاصمة الأوغندية، تضمن النص على الشروع في إجراءات تطبيع العلاقات بين الطرفين[12]، وهو ما أثارت الحكومة السودانية الشكوك بشأن حدوثه قريبا[13]، ولم تمض أيام على التشكيك حتى أعلن رئيس وزراء إسرائيل أن "طائرات "شركة العال" تطير الآن فوق أجواء السودان"[14].
لم تكن هذه الخطوة هي الأولى لزيارة شبه رسمية، حيث كانت القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي، قد أعلنت في 2 مارس /آذار 2016 أن وفدا رفيع المستوى من إسرائيل، ضم مسؤولا رفيع المستوى زار الرياض. لكن القناة اعتذرت حينذاك عن إيراد المزيد من التفاصيل بسبب الرقابة العسكرية التي منعت نشر تفاصيل الخبر.
اللافت في الخبر الأخير تعليق القناة على الحدث، حيث أشارت إلى أن السعوديين أرادوا دائما إخفاء الخبر، لكن السلطات الجديدة والملك سلمان والأمراء المحيطين به لا يخجلون منه[15]، وهو تصريح لافت مقارنة بما سبق أن صرح به وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتز، في تعليقه على اتصالات رسمية سعودية مع إسرائيل بقوله: "لدينا علاقات مع دول إسلامية وعربية كثيرة جانب منها ساري بالفعل ولسنا عادة الطرف الذي يخجل منها"[16].
وبينما أشارت "نيويورك تايمز" للحدث إبان حدوثه بأنه سعي من ابن سلمان لبناء تفاعل بين طرفين يشتركان في معاداة إيران، وهو ما عبر عنه مراقبون عرب بأنه اتجاه لنقل العلاقة بين السعودية وإسرائيل من مرحلة "التطبيع" إلى مرحلة "التحالف"[17]، فإن مراقبين عرب وصفوا نفس المسعى بأنه سعي من ولي ولي العهد للحصول على مباركة أمريكية لتولي الحكم في المملكة بعد رحيل والده[18]، ونجحت هذه الخطوات الاستهلالية في التمهيد لقبول أمريكي للأمر الملكي الذي أطاح بولي العهد محمد بن نايف، ليحل محله محمد بن سلمان[19]. المراقبون السعوديون يلفتون إلى أن السعي في ترجيح كفة المفاضلة بين ابن نايف وابن سلمان مسعى بين قياديين للتطبيع، لكنهما قياديان يختلفان في النهج بين تطبيع مستتر (ابن نايف) وتطبيع جهري (ابن سلمان)[20].
غير أن الأزمة المتعلقة بموقف المؤسسات الأمريكية من عملية القتل البشعة التي باشرها ابن سلمان في حق الكاتب السعودي جمال خاشقجي كانت مدخلا جديدا لسلوك تطبيعي جديد لولي العهد السعودي، الذي حرص على توظيف اللوبي اليهودي لمناصرته في وجه جهود تحجيم المؤسسات الأمريكية له، وربما مواجهة الجهود الرامية لمعاقبته على هذه الجريمة، وذلك من خلال نقله التطبيع الجهري من مرحلة "تطبيع النخبة"[21] باتجاه جهود "التطبيع الشعبي"[22]، وهي الجهود التي لاقت دعما من اللجان الإلكترونية السعودية في مواجهة رفض شعبي علني ومكتوم ضد عموم عملية التطبيع[23].
تطبيع النظام الإماراتي مع إسرائيل يجد مدخلا من عدة أزمات يمر بها هذا النظام، أولها يتعلق بالأزمة الداخلية التي يواجهها النظام مع الإماراتيين، والتي دفعت ولي عهد الإمارات للتعاقد مع شركة للمرتزقة من أجل توفير الحماية في حال حدثت ثورة شعبية ضده، فضلا عن استخدامه تقنيات تجسس أنتجتها شركة برمجيات إسرائيلية للتجسس على المعارضين الإماراتيين[25].
وتشترك الإمارات مع إسرائيل في تخوفات واسعة من ظاهرة الربيع العربي. ففي حين تدرك إسرائيل أن الربيع العربي سيكشف عن زيف إجراءات التطبيع التي تتخذها الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية، وهو ما حدث في كل من مصر وتونس، فإن الإمارات تدرك أن نظامها يفتقد لمشروعية رضائية مع وجود حركة سياسية داخل الإمارات ترغب في تحويل هذا البلد إلى إمارة دستورية يراقب فيها القانون سلوكيات الحكام، وبخاصة تصرفهم في الموارد المالية للبلاد ومراقبة إنفاقهم للثروة المتراكمة نتيجة هبة النفط.
لعل هذا ما دفع الإمارات لرفع مستوى القمع مع بداية تحول "ثورة الياسمين" التونسية لظاهرة عربية، وتخوفاتها من أن تمتد إليها، ما أدى إلى استئجارها مرتزقة للعمل في الجيش وأجهزة الأمن في أعقاب الربيع العربي لتأمين النظام ضد احتمال امتداد الربيع العربي إليها[26]، هذا فضلا عن رفع درجة قمع المعارضين في الداخل[27]، وبلغ الأمر حد اعتقال الشيخ سلطان بن كايد القاسمي على خلفية ترؤسه لـ"حركة الإصلاح" التي تحمل هذه المطالب الدستورية[28].
المدخل الثاني المتعلق بتأثير الأزمة في الدفع بنظام الإمارات نحو التطبيع واسع النطاق، يتمثل في تداعيات الجرائم التي اقترفها نظام أبوظبي في المنطقة، والتي أدت إلى أن يكون ملاحقا على الصعيد الدولي.
ابن زايد الذي صدرت ضده مذكرة توقيف إثر تفاقم مغامراته في كل من اليمن وليبيا والصومال، يسعى - عبر علاقاته الواسعة مع إسرائيل - لمواجهة الإجراءات الأمنية الدولية في شأنه، وهي الإجراءات التي حدت من تنقلاته خارج حدود البلاد، حتى بلغ به الأمر حد طلب تعهد من واشنطن بعدم اعتقاله عند زيارتها، وذلك في عام 2018[29]، وهي الزيارة التي لم تتم كما كان مخططا لها، ربما في إطار دفع محمد بن زايد لتقديم مزيد تنازلات لتل أبيب.
مدخل الأزمة الثالث في علاقة ابن زايد بإسرائيل يتمثل في التخوفات من إيران، وهو التخوف الذي يجمعها بالمملكة السعودية، ويدفع بهما لزيادة وتيرة التطبيع مع إسرائيل، بقدر ما يدفع الإمارات للتغاضي عن احتلال إيران لجزرها، بل ويدفعها لقبول تطبيع اقتصادي واسع النطاق مع إيران، رغم أن الإمارات أنفقت عشرات مليارات الدولارات للإطاحة بأنظمة حكم عربية، سواء في مصر أو اليمن وليبيا.
ويعد التنسيق الأمني والمعلوماتي بشأن إيران أحد مفاتيح التطبيع الإماراتي مع إسرائيل، وكانت آخر الحلقات في هذا الإطار تلك المفاوضات السرية التي رتبها مبعوث الخارجية الأمريكية الخاص لشؤون إيران، براين هوك، بين الطرفين، لمناقشة ترتيبات التنسيق الأمني والاستخباراتي في مواجهة الخصم المشترك: إيران، وهو الاجتماع الذي أدى لتنسيق واسع النطاق في مواقف عدد من الدول العربية شاركت على هذه الأرضية في "مؤتمر وارسو" الذي عقد في فبراير /شباط 2019[30].
الأزمة الخليجية في 5 يونيو /حزيران 2017 ليست وليدة يومها، بل هي حلقة في سلسلة أزمات بدأت بمطالبة السعودية بضم قطر لها باعتبارها جزءا من إقليم الأحساء وأنها كانت بالماضي ضمن حدود ما اعتبرته "الدولة السعودية الأولى"، ورغم عدم توقيع قطر اتفاقية حماية عسكرية مع بريطانيا في مواجهة السعودية كما فعلت الكويت في 1899، إلا أن توازنات دولية آنذاك أدت لترسيم الحدود بين البلدين، حتى تفجرت القضية مجددا مع "حادث مركز الخفوس الحدودي" بين البلدين في 1992[31]، والتي تتعلق بمستقر قبيلة "آل مرة" وانقسام القبيلة بين قطر والسعودية، والمواجهات المسلحة في المنطقة الحدودية بين البلدين، وهي الحادثة التي تطورت لاحقا بعد استمالة المملكة عددا من أفراد من هذه القبيلة لدعم انقلاب ضد الحكومة القطرية في 1996[32].
أدت الجهود السعودية المتنامية لزعزعة استقرار قطر إلى لجوء الأخيرة للعرف الخليجي باللعب مع القوى العظمى من أجل إحلال التوازن في المنطقة، وتحجيم الأطماع السعودية، خاصة وأن أزمات إقليمية سابقة كانت قد أدت لاحتلال العراق لإمارة الكويت.
وفي هذا الإطار، أدت الضغوط الغربية إلى دفع قطر لاستقبال رئيس وزراء إسرائيل شيمون بيريز، وهو ما وظفته قطر في إطار عملية دفع التسوية المستقبلية، وسارت معه في مسار فتح المكتب التجاري لإسرائيل في الدوحة، ثم توقيع اتفاق تصدير الغاز للأراضي المحتلة، وهي خطوات كان ينظر إليها وقتها ضمن مشروع "الشرق الأوسط الكبير"[33] كمحاولة لبناء علاقة اعتماد بين إسرائيل والدول العربية، مما يسهل التوصل لترتيبات تسوية.
ومع اندلاع أزمة 2017، ومع تقسيم العمل بين كل من السعودية والإمارات لبناء ترتيبات مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تجد الإمارة الغنية نفسها مجددا وسط ترتيبات إقليمية رامية لإضعاف موقفها، واستمرار محاصرتها، وهو ما يدفعها للمضي قدما في خطوات التطبيع الذي يأخذ تارة شكل التطبيع الرياضي[34]، وتارة شكل التطبيع الصحي[35].
لا يرجع التخوف العماني من المحور بسبب حرب اليمن وأزمة المحور مع قطر[39]، بل يمتد لتخوفات من أطماع للإمارات في التراب الإقليمي العماني كذلك، رغم توقيع اتفاق ترسيم الحدود بين البلدين في يوليو /تموز 2008[40]، حيث تحاول الإمارات قضم الحدود العمانية من جهة الجنوب (عبر توسيع نطاق نفوذها في محافظة المهرة اليمنية، وشراء ولاء أبناء القبائل الحدودية في هذه المحافظة)، وكذلك من جهة شمال السلطنة (وهي خطوة بدأت مع الشيخ زايد بمحاولة إغواء أبناء "قبيلة الشحوح" بالحصول على الجنسية الإماراتية بدلا من العمانية تمهيدا لضم المنطقة القريبة من إمارة رأس الخيمة)، وهي محاولة لم تتم بعد اكتشاف خلية تجسس إماراتية في المنطقة العمانية، وحاولت الإمارات في هذه الأحداث الأخيرة أن تستخدم الخلاف المذهبي بين السنة والإباضية لترجيح كفة الجنسية الإماراتية.
كما اتهمت السلطنة الإمارات بالوقوف وراء "أحداث صحار" التي شهدت احتجاجات شعبية امتدت بالتدريج للعاصمة مسقط في 2011[41].
وباعتبار القوى الكبرى ضامن أساسي لأمن دول الخليج، فإن حضور الولايات المتحدة من أجل الحماية يرتبط ارتباطا وثيقا بإقامة علاقات مع إسرائيل، وقد نجحت تأثير غياب الرؤية الإستراتيجية في جعل التطبيع أقل الضررين؛ بالنظر لكون البديل متمثلا في ضوء أخضر أمريكي بقضم الدول العربية لبعضها البعض، وهي قضية لها تاريخ من الأزمات الحدودية الخليجية المتكررة التي لم تهدأ برغم توقيع اتفاقات ترسيم الحدود.
غير أن عمان لا تلجأ للتطبيع وحده كوسيلة لضمان حدودها من العدوان العربي، حيث تلجأ كذلك لإقامة علاقات طبيعية مع إيران التي تمثل مصدر قلق للإمارات، لكنها في الوقت نفسه تدير علاقاتها بين الطرفين الإيراني والإسرائيلي بتوازن، وهو ما يفسر مرافقة يوسي كوهين، رئيس جهاز "الموساد"، لنتنياهو خلال زيارته للسلطنة، وهو ما يشي بوجود قدر من التعاون الأمني الذي يتفهم الإيرانيون اضطرار عمان له لدعم وحدة ترابها الإقليمي وتأمين حدودها من الجيران العرب.
وفي تقرير نشرته صحيفة "هآرتس" العبرية، لكل من "باروخ شبيجل" و"شمعون حيفتس"، لفت الصحفيان إلى أن "هناك خيبة أمل كبيرة في الأردن لأن آمال الانتعاش الاقتصادي لم تتحقق، وأن ثمار السلام أبعدت عن جدول العمل لدى الطرفين"، منوهة إلى أنه "من الجدير أن تفكر إسرائيل بمسار جديد بالنسبة لعلاقاتنا الضعيفة مع المملكة الهاشمية، وأن تساعدها على تطوير اقتصادها، وذلك للحفاظ على أمن المملكة"[42].
ولعب عاملا سوء إدارة الموارد الثرية، تعدينيا على الأقل، في الأردن[43] والسياسة الخارجية غير المتوازنة دورا في الدخول بالأردن إلى حالة من العزلة العربية، وبخاصة بعد تأييدها لقرار العراق بغزو الكويت[44]، ما دفع الأردن لاستغلال قوة دفع "مؤتمر مدريد" للخلوص إلى "اتفاقية وادي عربة"[45].
أدت هذه الاتفاقية إلى بناء تيار تبعية قائم على المساعدات الأمريكية التي وفرتها الاتفاقية للأردن، وتضافر مع هذا التمويل ومع الأزمة الاقتصادية الأردنية الناجمة عن سوء الإدارة أن اتجه الأردن للنظر لتل أبيب كأحد مداخل حلول هذه الأزمة، إلى انتهاج مسار التطبيع الاقتصادي معها من خلال اتفاقيات شراء الغاز الفلسطيني المنهوب، و"اتفاقية قناة البحرين"، و"اتفاقية التجارة الحرة" على الحدود الأردنية، وهي اتفاقية لا تخدم إلا مصلحة إسرائيل، حيث تعتبرها نقطة انطلاق لبضائعها إلى الأسواق العربية[46].
ورغم ما تواجهه الأردن من مصاعب اقتصادية، إلا أن الأردن أعلن رفضه "خطة السلام الأمريكية" برؤية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب" أو ما تسمى بـ "صفقة القرن"، لكن هل يصمد الموقف الأردني الذي لم يستعد للغد بتمكين الشعب الأردني من مراقبة الأداء السياسي والاقتصادي؟ وهل يمكن للأردن الاستغناء عن المساعدات الأمريكية التي تقدر بنحو مليار دولار سنويا، وذلك في إطار نظام إقليمي يقوده محور السعودية - الإمارات، وهو محور غير مستعد لإقالة عثرة الأردن المزمنة[47]؟
ويمثل تطبيع نظام مبارك قبل ثورة 25 يناير /كانون الثاني أحد أوجه أزمة الشرعية التي مني بها النظام، حيث كان يحظى بدعم الإدارة الأمريكية ما دام ملتزما بمعاهدة السلام.
وتعد أزمة الشرعية أولى الأزمات التي تصب في إطار تطبيع سلطة 3 يوليو /تموز 2013 مع إسرائيل، بدءا من الانقلاب الذي توسطت فيه إدارة الاحتلال لدى الدولة العميقة الأمريكية لمساندة الانقلاب[48]، كما دفعته في الحديث عن تأمين إسرائيل، والتي بلغت درجة التطبيع فيها حد توصيف مراقبين بصحيفة "جيروزاليم بوست" بكونها "مستويات غير مسبوقة"[49]، إشراكه في الترتيبات الأمنية في سيناء، إلى درجة إشراك إسرائيل ليس فقط في ترتيبات أمن شبه جزيرة سيناء، بل أيضا شراكة إسرائيل على مستوى العمليات هناك[50]، إلى الحد الذي يدفع إعلاميين صهاينة للحديث عن رئيس الدولة المصرية الأكبر باعتباره "ليس صديقا، بل شريكا"[51].
وترتبط أزمة الشرعية المشار إليها عالية، والتي دفعت المؤسسة العسكرية لتنفيذ هذا الانقلاب على أول رئيس مدني منتخب (الراحل محمد مرسي)، ترتبط هذه الأزمة بحالة عدم الشرعية التي تلف سلوك المؤسسة العسكرية منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، حيث أدى الأمر بالمؤسسة العسكرية لتكوين دولة داخل الدولة، استقلت بإرادتها عن القوانين السائدة في البيئة المدنية، وأضحت لها مؤسساتها الخاصة، اقتصاديا واجتماعيا وحتى على مستوى التشريعات والمؤسسة القضائية.
كما تمددت المؤسسة العسكرية في المؤسسات المدنية، ومن بينها مؤسسات الإدارة المحلية والهيئات الاقتصادية الكبرى، وإن لم يكن تمددها إبان فترة حكم الرئيس المخلوع مبارك بنفس مستوى تغولها اليوم.
وارتبط بهذا التمدد بناء شبكة فساد واسعة، وأدت ثورة يناير /كانون الثاني إلى خلق ثورة تطلعات واسعة بشأن السيطرة على نفوذ القوات المسلحة، وفرض الشفافية على ميزانيتها، وإخضاعها للمراقبة والتدقيق، ما أدى لتحرك هذه المؤسسة لتلافي افتضاح ملفات حقبة مبارك.
غير أن أزمة الشرعية هذه امتدت لفترة ما بعد تنفيذ الانقلاب العسكري، وبخاصة مع افتضاح سوء الإدارة المالية والاقتصادية في مصر، وهو ما أسهم في ذيوعه خروج رجل الأعمال المصري الفنان محمد علي، وما عرضه من صور ومعلومات أدت لتزايد معدل السخط، وخروج الشباب للشارع في حركة احتجاجية غير متوقعة من جانب السلطة، وهو ما كشف عن توصيات ندوة عقدت بمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، والتي أوصت إدارة الاحتلال بترجمة العوائد التي حصلتها من خلال مشروع التطبيع الذي باشرته سلطة 3 يوليو / تموز إلى خطة عمل للتدخل لمساندة القاهرة في حال اتسع نطاق الاحتجاجات ليمثل تهديدا مباشرا لسلطة السيسي[52].
غير أن مصادر تأزيم الواقع المصري أكبر من مجرد أزمة الشرعية التي طالت رأس سلطة 3 يوليو / تموز ومن قبله النخبة العسكرية المصرية، حيث إن حالة الإفقار التي دخلت مصر معها في حلقة مفرغة ربما تكون مصدرا آخر من مصادر التركيع، جنبا إلى جنب مع الشقيقة الأردن، التي أدى فيها سوء الإدارة المالية والاقتصادية والقانونية إلى حالة من الأزمة الاقتصادية الهيكلية التي تفوق قدرتها على مقاومة تطورات الوضع الإقليمي.
ويبقى أن واقع التطبيع في مصر لا يقتصر على إخضاع الدولة المصرية للإرادة الإسرائيلية، بل يحمل بعدا آخر يتمثل في إخضاع الإرادة الفلسطينية كذلك، وهو وضع ربما بدأ بالتخلي عن دعم الفلسطينيين في نضالهم من أجل حقهم المشروع في استعادة وطنهم إلى التدخل في الشأن الفلسطيني وإدارته لصالح إسرائيل، وانتهاء في لحظة كتابة هذه السطور إلى الإمعان في عزل قطاع غزة من خلال بناء جدار عازل على شاكلة "جدار الفصل العنصري" الذي بنته إسرائيل لفصل الأراضي الفلسطينية في الضفة عن مدينة القدس.
ولا يشفع في هذا الصدد أن المغرب استغل علاقاته مع إسرائيل لاحقا لترتيب "لقاء تهامي - ديان" في 16 سبتمبر /أيلول 1977[55]، والذي قاد في النهاية لتوقيع سلسلة معاهدات "كامب ديفيد" وما تلاها، أو حتى للترتيب للقاء أوسلو مع الفلسطينيين، والذي أدى لتوقيع "اتفاقية الحكم الذاتي الفلسطيني" التي حملت اسم العاصمة النرويجية "أوسلو"، بالرغم من توقيع الاتفاقية النهائية بالأحرف الأولى في مدينة "طابا" المصرية في 24 سبتمبر / أيلول 1995، ثم توقيعها لاحقا في احتفالية بالعاصمة الأمريكية في 28 سبتمبر / أيلول من نفس العام[56].
وتعد قضية الصحراء المغربية إحدى القضايا التي فتحت باب التطبيع بين المغرب وإسرائيل، خاصة وأن المغرب قد حصل على ضوء أخضر فرنسي أمريكي بإدارة الإقليم بعد انسحاب موريتانيا منه تحت ضغط "جبهة البوليساريو".
وتعد الولايات المتحدة وفرنسا الحليفان الغربيان الأبرز لتل أبيب، ويعد شرط التطبيع مع إسرائيل الضامن الأكبر لاستمرار وتجديد حصول المغرب على التأييد في هذه القضية، وتحجيم الدعم الجزائري لـ"جبهة البوليساريو"[57].
يمثل مفهوم الأزمة مدخلا مهما لفهم ظاهرة تطبيع الدول العربية، ويحكم هذه القضية عدد من الأزمات، تتمثل فيما يلي: