مؤسسة أمريكية تبشر بانقلاب في تركيا.. ماذا أعدت الدولة لمواجهته؟

أحمد يحيى | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

كانت محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا، يوم 15 يوليو/ تموز 2016، بمثابة نقلة نوعية في العلاقات المدنية العسكرية في الدولة، التي دأبت على عبر عقود من الزمن، على مشاهد الآليات العسكرية في الميادين، وقيام الجيش بانقلابات.

فشل محاولة الانقلاب في 2016، والإجراءات التي اتخذها أردوغان بعد ذلك وضعت حدا لتدخل العسكر الجامح في مجريات الحياة السياسية، والإطاحة بالحكومات المدنية المنتخبة في تركيا.

لكن رغم ذلك، ظلت فكرة الانقلابات مؤرقة للقيادة السياسية، والجهات الشعبية، وتأخذها بشكل جدي وحساس، مثلما حدث مؤخرا مع تقرير مؤسسة "راند" البحثية التابعة للجيش الأمريكي، والذي تنبأ بوقوع انقلاب آخر في تركيا، يقوم به ضباط الوسط في الجيش.

فما مصداقية تقرير المؤسسة الأمريكية، وما هي الدلال أو الشواهد التي استند إليها في تحليلاته ورؤيته المستقبلية وتوقعاته بانقلاب وشيك في تركيا، وما هي الخطط المضادة التي وضعتها الدولة التركية لمواجهة أي محاولة من هذا النوع مستقبلا؟.

تقرير جدلي

في 14 يناير/ كانون الثاني 2020، أصدرت مؤسسة "راند"، تقريرا تحت عنوان "المسار القومي لتركيا: الآثار المترتبة على الشراكة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة وتركيا والجيش الأمريكي".

أبرز ما تضمنه التقرير، أن "قرار الحكومة التركية طرد المئات من الضباط في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، سبب حالة كبيرة من عدم الرضا في صفوف الجيش التركي".

كما أورد التقرير أن "هناك حالة إحباط وغضب تسيطر على الضباط من الرتب المتوسطة تجاه قيادات الجيش، ويخشون من أن تطالهم عمليات تطهير الجيش من أتباع فتح الله غولن التي أعقبت محاولة الانقلاب الفاشلة".

وجاءت أخطر عبارات تقرير "راند" عندما ذكر نصا أن "حالة عدم الرضا هذه ربما تؤدي لمحاولة انقلاب أخرى في مرحلة ما"، وأشارت إلى أن "وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، على علاقة جيدة بقيادة الجيش الأمريكي، وأنه حلقة الوصل بالنسبة للجيش التركي، والجيوش الأخرى وخاصة الأمريكية".

وأكار هو رئيس هيئة الأركان وقت اندلاع المحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016، وتم احتجازه من قبل الانقلابيين داخل مقر رئاسة الأركان، بعد أن فشلوا في إرغامه على تزعم الانقلاب وقراءة البيان المعد سلفا.

وإثر فشل الانقلاب وتطبيق النظام الرئاسي في تركيا، تم تعيينه وزيرا للدفاع في يوليو/ تموز 2018، حيث يلعب دورا فعالا في السياسة الخارجية العسكرية التركية، خاصة في الملفين السوري والليبي، بالإضافة إلى صراعات الغاز والطاقة في البحر المتوسط، مع محور اليونان، وقبرص، ومصر.

أما تقرير "راند" في مجمله، فجاء في 9 فصول، متناولا العلاقات التركية مع محيطها الإقليمي والدولي، وكان الفصل التاسع والأبرز، متضمنا السياسات التي ينصح بها معدو التقرير صانع القرار الأمريكي، فيما يتعلق بالعلاقات مع تركيا، وتحديدا المؤسسة العسكرية.

مؤسسة "راند" التي تأسست عام 1948، تصف نفسها بأنها "غير ربحية"، وهي تابعة للجيش الأمريكي، وتعمل في مجال السياسة العامة، وممولة من "مكتب وزير الدفاع الأمريكي - الجيش الأمريكي - القوى الجوية التابعة للولايات المتحدة - وزارة الأمن الداخلي الأمريكية - وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكية - وكالات فيدرالية أخرى). 

الثقل الذي تلعبه تلك المؤسسة البحثية، داخل أروقة السياسة الأمريكية، هو ما دفع القيادة التركية، لأخذ إصدارها الأخير، مأخذ الجد، على جميع الأصعدة والمستويات.

استنفار تركي 

في 15 فبراير/ شباط 2020، وأثناء زيارته إلى باكستان، علق الرئيس أردوغان على مضمون التقرير، دون الإشارة إلى المصدر، قائلا: "مقاومة الشعب لمحاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 يجب أن تكون درسا للجميع، لقد اكتسب شعبنا تجربة عظيمة ومهمة، وفي المرة القادمة لن يترددوا في النزول للميادين".

قبلها وفي 9 فبراير/ شباط 2020، علق وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، على مضمون التقرير، خلال حواره مع صحيفة حرييت، قائلا: "يؤسفني العبارات الواردة في التقرير عني وعن القوات التركية، وعن جامعة الدفاع الوطني، لقد تم صياغة التقرير بشكل ماكر، لإثارة الفتنة في البلاد، وما فيه من تلميحات مصطنعة لا تعكس الحقائق".

التقرير وصف أكار بـ "الوسيط الفاعل الوحيد في العلاقات بين أنقرة وواشنطن، في الوقت الذي يحمل فيه 90% من الأتراك آراء عدائية تجاه الولايات المتحدة"، وأن وزير الدفاع التركي "سيظل يلعب دورا رئيسيا في الشؤون العسكرية التركية لفترة ليست قصيرة".

أما وزارة الدفاع التركية، فأصدرت بيانا مطلع فبراير/ شباط 2020، قالت فيه: إن "تقرير راند جاء غامضا بصورة غير منطقية، والتعليقات التي تشير للجيش التركي لا أساس لها وغير جادة. يحزننا أن بعض التعبيرات الواردة في التقرير، قد جاءت ملتوية ومستهلكة في البلاد".

دروس الماضي

الاستنفار والتحفز التركي ضد تقرير المؤسسة الأمريكية، لم يكن على مستوى القيادة السياسية فحسب، بل شغل الأوساط الإعلامية كذلك، ففي 17 فبراير/ شباط الجاري، نشر الكاتب حسن بصري يلتشين، بصحيفة "صباح" التركية، مقالة قال فيها: إن "التقرير لا يمكن التعامل معه باستهتار، خاصة وأن (راند) ليست مؤسسة بحثية عادية، بل تتبع مباشرة لوزارة الدفاع الأمريكية، وتعكس خطط توقعاتها"

وذكر في مقاله: أن "محاولة الانقلاب الماضية كانت درسا لنا، وعلينا أن نكون منتبهين جيدا".

وكتب إبراهيم قراغول، رئيس تحرير صحيفة يني شفق التركية، مؤكدا "تعمل مؤسسة راند ضمن جهاز الاستخبارات الأمريكية، ولقد مهدت هذه المؤسسة الطريق أمام العديد من التدخلات الخارجية (الانقلابات) على مدار عقود في العديد من البلدان التي كان من بينها تركيا". 

ثم أورد "والسؤال الأساسي هنا ليس تقرير راند وإنما سؤال داخلي: من سيستغلون هذه المرة؟ أو من يجهزونه؟ أو يعملون على تحضير من؟.. الانقلاب الحقيقي يحدث في بيتكم في أمريكا!". 

وفي 18 فبراير/ شباط، أشارت الكاتبة سيفلاي يلمان، في مقالة لها، على متن صحيفة "خبر ترك" قالت فيها: إن "الولايات المتحدة طغت لديها المخاوف من تركيا التي تكتسب أهمية إستراتيجية مؤخرا، بالوقت الذي يمر فيه الناتو بحالة صعبة"

إجراءات رادعة

تقرير مؤسسة "راند" الأمريكية، الذي توقع انقلابا جديدا على الحكومة في تركيا، تغافل أن الدولة التركية التي تمرست على الانقلابات خلال القرن الماضي، وشهدت المحاولة الانقلابية الخامسة والفاشلة في 15 يوليو/ تموز 2016، اتخذت مجموعة من الإجراءات الرادعة بعد تلك المحاولة، وأصبح نظامه الحاكم، والقطاع الشعبي أكثر حذرا، ضد الانقلابات العسكرية، وبدأت الإجراءات مع توالي حملات الاعتقال، حيث تم اعتقال حوالي 3 آلاف عسكري بينهم رتب رفيعة. 

وأعلنت وسائل إعلام تركية أن أجهزة القضاء عزلت 2745 قاضيا، بينما تم اعتقال نحو 100عسكري بقاعدة جوية بديار بكر. وأعلن محافظ ملاطيا غداة المحاولة الانقلابية إلقاء القبض على 39 طيارا عسكريا كانوا على متن 7 طائرات عسكرية.

وفي 20 يونيو/ حزيران 2019، أصدر القضاء التركي 141 حكما بالسجن مدى الحياة، بحق 17 من كبار المسؤولين العسكريين السابقين، بمن فيهم قائد سلاح الجو السابق، وقائد المحاولة الانقلابية "أكين أوزتورك"، ومستشار سابق للرئيس رجب طيب أردوغان للشؤون العسكرية.

وبحسب وسائل الإعلام التركية، فإنه تم سجن نحو 80 ألفا، من المشتبه في مشاركتهم، ودعمهم للانقلاب، في انتظار محاكمتهم بينما، أوقف عن العمل 150 ألفا من الموظفين والجنود وآخرين. 

خطط الوقاية

الردع والتوعية، لم يكن كافيا بالنسبة للنظام التركي، الذي يقود قاطرة دولة صعبة المراس، فقد اعتمد إجراءات أكثر حسما ودقة، استعدادا لمواجهة انقلابات محتملة، في ظل الاستقطابات المستمرة، والتجاذبات الإقليمية، وإرادة جهات خارجية وداخلية، إضعاف تركيا، وتحجيم دورها، وتمثلت أبرز نقاط استعداد الدولة التركية لمنع الانقلابات في: 

  • تغيير شروط عملية تعيين رئيس الأركان الذي كان تعيينه محصورا في قادة القوات البرية أو البحرية أو الجوية أو الأدميرالات، فأصبح التعيين مفتوحا أمام جميع الجنرالات والألوية في الجيش التركي.
  • نقل تبعية قوات الجندرمة كاملا إلى وزارة الداخلية التي أصبحت الجهة الوحيدة المسؤولة عن مهام حفظ الأمن الداخلي وحصرت مهام الجيش في حفظ البلاد من التهديدات الخارجية.
  • إنشاء جامعة الدفاع الوطني التي تضم تحت جناحها الكليات العسكرية المختلفة وتخضع لإشراف وزارة الدفاع الوطني (وهي الجامعة التي خصها تقرير مؤسسة "راند" بالذكر، عندما وصفها بأنها تخترق الثقافة الانعزالية للجيش التركي كحام للعلمانية). 
  • إزالة القيود المفروضة على بعض الفئات من المجتمع التركي للالتحاق بالكليات العسكرية، فأصبح من المسموح لخريجي مدارس الإمام والخطيب الالتحاق بالكلية الحربية.
  • إخضاع النظام الصحي للقوات المسلحة لتغيرات هيكلة أفضت لنقل تبعية المؤسسات الصحية العسكرية لتبيعة وزارة الصحة.
  • نقل عدد من المنشآت العسكرية من وسط المدن الكبرى.
  • إعادة هيكلة "مجلس الشورى العسكري الأعلى" حيث أعيد تنظيم مهام المجلس وواجباته بحيث تم تمدين المجلس، فأصبح يعقد برئاسة رئيس الجمهورية وحضور مساعده ووزير الدفاع والخارجية والداخلية والمالية والعدالة والتعليم، بالإضافة إلى رئيس الأركان وقادة القوات البرية والبحرية والجوية، كما نقلت الأمانة العامة من رئاسة الأركان إلى وزارة الدفاع وبذلك أصبح للمدنيين السلطة الأعلى داخل المجلس. 
  • التوعية داخل مؤسسات البلديات، بكيفية مواجهة الانقلابات العسكرية، ووضع خطط للحركة والعمل، إذا اندلع انقلاب عسكري آخر في البلاد.  
  • مراقبة الثكنات العسكرية الكبرى، ورصد أي حركة مريبة تحدث، والإبلاغ عنها. 
  • التوعية الشعبية في المدارس والجامعات والمراكز الثقافية، من خطورة الانقلابات العسكرية. 

تداول للسلطة 

من أبرز العوامل المساعدة على إنفاذ الانقلابات العسكرية، أحادية السلطة، وانعدام الديمقراطية، وهي مسألة بعيدة عن الدولة التركية، التي تشهد حراكا ديمقراطيا واسعا، ومشاركة المعارضة في الحكم. 

ففي يونيو/ حزيران 2019، خسر حزب العدالة والتنمية الحاكم، حكم بلدية مدينة إسطنبول بعد أكثر من ربع قرن، وخسر أمام المعارضة مدينتي أنقرة (العاصمة) وإزمير. 

وتقدمت المعارضة التركية في حكم الكثير من البلديات الكبرى والصغرى، في عمليات انتخابية واسعة النطاق، بلغت نسبة المشاركة فيها 43 مليونا و651 ألفا و815 ناخبا، من أصل 57 مليونا و93 ألفا و410 ناخبين بعموم البلاد، بنسبة  83.99%. 

أما النقطة المفصلية، فتأتي في موقف أحزاب المعارضة التركية الرئيسية، من الانقلابات العسكرية، وكان لهم دور أساسي في إفشال المحاولة الانقلابية في 15 يوليو/ تموز 2016، وعلى الرغم من الانقسام والاستقطاب الشديد الذي يعاني منه المجتمع التركي على مرّ تاريخه، والذي تعمق خلال السنوات الأخيرة، لم تتفق الأحزاب التركية الأربعة في البرلمان التركي على بيان موحد، إلا ذلك البيان الذي أدان المحاولة الانقلابية.

وبذلك الموقف حرم الانقلابيون من الظهير الشعبي، الذي يمكن أن يستند إليه حراكهم، أو يدعمهم في سيطرتهم على السلطة.

تلك الخطوات رسخت قدم نظام الحكم في تركيا، بالإضافة إلى اعتماد حزب العدالة والتنمية، مطلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، الذي يمثل حلما قوميا للشعب التركي، وبذلك تم اتخاذ سياسة إصلاحية نشطة تجاه الدور السياسي للجيش التركي استندت إلى تصور جديد يراعي معايير كوبنهاغن للانضمام للاتحاد الأوروبي. 

وفي عام 1993، خلال قمة كوبنهاغن بالدانمارك، تم وضع ثلاثة شروط لقبول العضوية في الاتحاد الأوروبي، وكان الشرط الأول أنه "يجب على الدول المرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ضمان استقرار مؤسساتها والحفاظ على الديمقراطية وأن تتعهد بضمان دولة القانون، ويجب عليها أيضا ضمان حقوق الإنسان وحماية الأقليات".

وبذلك فإن إنفاذ انقلاب عسكري، داخل تركيا، والقبول به، سيكون له تبعات وخيمة على ذلك المشروع.

كارثة اقتصادية

الاقتصاد الوطني التركي، هو أكبر عقبة تواجه فكرة الانقلاب العسكري، وذلك لأن عدم استقرار نظام الحكم، وإحداث انقلاب عسكري، سيكون بمثابة ضربة قاصمة لاقتصاد الدولة، فإن تركيا التي تعد قلعة صناعية كبرى في الشرق الأوسط، تتأثر بأي إشكالية سياسية، وتأتي بالسلب على اقتصادها. 

وهو ما حدث بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو/ تموز 2016، حيث واجه الاقتصاد التركي الكثير من الصعوبات والتحديات، وتراجعت الليرة التركية بشكل كبير أمام الدولار، وتم تخفيض التصنيف الائتماني للبلاد. 

وهو ما أكده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تصريح له في أغسطس/ آب 2019، عندما قال: إن "من فشلوا في هزم تركيا بآلاف الحيل والمكائد، سيرون قريبا فشلهم بمحاولة إسقاطها اقتصاديا".

وكان معهد المالية العالمية، وهو مؤسسة مصرفية مقرها واشنطن، قد أصدر تقريرا في 24 يوليو/ تموز 2016، بعد أيام من المحاولة الانقلابية الفاشلة، وأكد أن "الخسائر الفورية لتركيا، تمثلت في تراجع الزيارات السياحية والاستثمارات، وستؤدي إلى تباطؤ النمو في 2016 و2017". 

وأن القيمة المقدرة للخسائر، بلغت 8 مليار دولار، مهددة النمو الاقتصادي المتحقق قبل سنوات. وكانت تركيا قبل الانقلاب العسكري بحسب المعهد الأمريكي، قد حققت نموا بلغ 4% في 2015. 

أما السيناريو الذي كان متوقعا حال سيطرة الجيش على الدولة، وإخضاع القطاع الاقتصادي لهيمنته، فكانت ستتمثل في إزاحة القطاعين العام والخاص، وارتفاع معدلات البطالة، وتراجع إيرادات الدولة، بالإضافة إلى قفزات هائلة في أسعار السلع والخدمات الأساسية، ووصول التضخم إلى معدلات قياسية، وتآكل العملة الوطنية. 

وهو واقع عايشه الشعب التركي، مع الانقلابات العسكرية السابقة، ورآه رأي العين، حيث كانت الليرة التركية، تكتب بالأصفار الكثيرة، وتسمى الليرة الواحدة (مليون)، كدلالة على ضعف قيمتها، وانعدام وزنها.