مساجد مصر.. كيف تحولت إلى أبواق للسلطة في عهد السيسي؟

أحمد يحيى | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"مسجد ضرار" هو مسجد بني لأبي عامر الذي كان يقال له أبو عامر الراهب، الذي تنصر في الجاهلية وكان المشركون يعظمونه، فلما جاء الإسلام فر إليهم، فقامت طائفة من المنافقين ببناء هذا المسجد الذي سمي ضرارا، وأمر الرسول بهدمه.

لكن يبدو أن الأمر لم يكن يتعلق بالمنافقين في صدر الرسالة، فالمسجد الضرار رغم هدمه في القرون الأولى للإسلام، لكنه بقي كفكرة، يخطط لها من يريد الكيد للمسلمين على مر العصور.

بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني في مصر أدرك العسكر أن المساجد كانت المشعل الرئيسي للثورة وحشد الجماهير، حيث خرجت المظاهرات في جمعة الغضب 28 يناير/ كانون الثاني 2011، بعد الصلاة مباشرة من معظم المساجد.

وإثر انقلاب 3 يوليو/تموز 2013، انتهجت السلطة الجديدة مسلكا لتحجيم دور المساجد، ونزع ريادتها من المجتمع، باعتبارها أماكن لتفريخ للإسلاميين الذين نازعوا العسكر السلطة خلال المرحلة الانتقالية، ووصلوا إلى سدة الحكم في يونيو/حزيران 2012. 

وفي ظل التحديات التي يواجهها العالم الإسلامي، خاصة ما يتعلق بصفقة القرن، والانتهاكات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، والأراضي المقدسة، كانت مساجد مصر أقرب إلى "الضرار"، فلم ينطق خطباؤها ببنت شفة عن الأحداث الجسام التي تحياها الأمة.

خطبة موحدة

في 28 يناير/ كانون الثاني 2020، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عن "صفقة القرن" المزعومة، وظهرت الدولة الفلسطينية في الخريطة، بحدود غير مترابطة عبارة عن أجزاء متناثرة تربطها جسور وأنفاق.

ووضعت مدينة القدس ومناطق غور الأردن وشمال البحر الميت ضمن حدود الدولة الإسرائيلية، وفق رؤية الرئيس الأمريكي.

في الجمعة التالية لإعلان صفقة القرن 31 يناير/ كانون الثاني 2020، اندلعت تظاهرات عارمة في العديد من بقاع العالم العربي والإسلامي، وشهدت القدس المحتلة أعمال عنف واشتباكات بين المتظاهرين، وقوات الاحتلال، في ظل صمت مخزي للأنظمة العربية والإسلامية.

لكن الملفت للنظر، ما حدث في مصر حيث أعلنت وزارة الأوقاف عبر موقعها الرسمي، بيانا تلزم فيه خطباء الجمعة بموضوع تحت عنوان "علو الهمة سبيل الأمم المتحضرة"، دون التطرق إلى القضية الفلسطينية، أو صفقة القرن، أو مقدسات المسلمين الواقعة تحت قبضة قوات الاحتلال الإسرائيلي. 

وطلبت الأوقاف من جميع الأئمة، "الالتزام بنص الخطبة أو بجوهرها على أقل تقدير مع الالتزام بضابط الوقت ما بين (15 – 20 دقيقة) كحد أقصى، واثقة في سعة أفقهم العلمي والفكري، وفهمهم المستنير للدين، وتفهمهم لما تقتضيه طبيعة المرحلة من ضبط للخطاب الدعوي، مع استبعاد أي خطيب لا يلتزم بموضوع الخطبة".

غياب مريب

الداعية الإسلامي إسلام أحمد، خريج كلية أصول الدين بجامعة الأزهر قال لـ"الاستقلال": "الأمر ليس بجديد، ولا مستغرب، فالدولة المصرية تعيش هذه الحالة منذ سنوات، وخاصة عندما ألزمت وزارة الأوقاف في 2016 الخطباء، بموضوع الخطبة الموحد، لتحطم روح الاجتهاد، بالإضافة إلى خضوعهم الكامل للسلطة، ونقل وجهة نظر الحاكم بدلا من التوجيه والإصلاح، ومجاراة القضايا الإسلامية، وقضايا العصر". 

وأضاف الداعية المصري: "الغياب المريب لموضوع صفقة القرن، الخاصة بواحدة من أهم مقدسات المسلمين، وأراضي الشعب الفلسطيني الشقيق المحتلة، غير مقبول، ويحرمه الشرع".

وتابع: "كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)، وهذا الحديث في حد ذاته كان يجب أن يكون على منابر الجمعة، وأن يلقيه الخطباء والعلماء، ويحركوا الناس للتفاعل، وهذا واجبهم، أما صمت أو إسكات، علماء الأمة، فهذه مصيبة المصائب، وتساهم في خلق أمة مهزومة على جميع الأصعدة".

الشيخ إسلام قال: "عندما حدثت نكسة 1967، وأرادت الأمة أن تعود إلى رشدها، عادوا إلى الدين، وإلى العلماء، وكان دور الأزهر، والدعاة بارزا في التعبئة المعنوية، لنصر أكتوبر عام 1973، عندما كانت صيحة الجنود (الله أكبر)، وكانت مصر أول البلاد التي تتصدى للعدوان الإسرائيلي".

واختتم حديثه قائلا: "كانت المظاهرات تخرج من مساجد القاهرة ومختلف المحافظات، خلال الانتفاضة الفلسطينية، عقب صلاة الجمعة، وكانت الدعوات والصيحات تصل إلى عنان السماء، أما اليوم فالنظام المصري أضعف المساجد، وسلمها إلى جهاز الأمن الوطني، حتى صارت خاوية على عروشها".

خطبة نارية

توجيه وتحجيم خطباء الجمعة في مصر لم يكن كافيا للنظام، بل كانت رسائل الردع واضحة، حين قامت السلطات باعتقال أستاذ البلاغة في جامعة الأزهر الدكتور محمود شعبان في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، على خلفية خطبة جمعة، ألقاها تحت عنوان "رسالة إلى الساكتين والخائفين" تحدث فيها بوضوح عن عاقبة الظلم والظالمين، وعن تبعات السكوت، والصمت عن الظلم.

ومع أن شعبان لم يذكر صراحة اسم السيسي، لكن المقصد العام كان يشير إليه، وهو ما فهمه الحاضرون، وتحديدا عندما ذكر مصطلح "السلطان الجائر"، خاصة وأن تلك الخطبة لاقت رواجا جماهيريا كبيرا، وتفاعلا على مواقع التواصل، وهو ما أقلق النظام، ودفع أجهزة الأمن للتحرك، والتنكيل بالشيخ محمود شعبان.

ألقي القبض عليه وضمه للقضية المعروفة إعلاميا بـ"تنظيم الجبهة السلفية"، والذين اتهموا فيها بـ"التحريض على العنف، ومناهضة الدولة"، رغم أن الشيخ لا ينتمي فكريا ولا تنظيميا للجبهة السلفية، لكن تم إدراجه في ذلك السياق.

التبرير للحاكم

الانحراف بدور المساجد، لتصبح في خدمة الحاكم، هي أبرز أهداف نظام السيسي، المتجاوزة لتهميش دور المسجد، إلى استخدام المنابر، وخطباء الجمعة كذراع إعلامي يروج لخطط السلطان ويبرر لقراراته.

أبرز مثال على ذلك ما حدث في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، عندما أعلن البنك المركزي، وفقا لإرادة السيسي، تحرير سعر الصرف (تعويم الجنيه)، وهو ما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية، ورفع الأسعار، وانهيار العملة المحلية أمام الدولار.

في الجمعة التالية لقرار التعويم التي وافقت 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، تم تعميم خطبة الجمعة لتكون عن حب الوطن والحفاظ على المال العام، والمنشآت الحكومية، وتقدير دور الشرطة والجيش، في حماية البلاد، وضرورة الصبر على الأزمات الاقتصادية، وغلاء المعيشة، والاستعانة بالتوبة والاستغفار في رفع البلاء.

وفي 11 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، كانت أزمة سد النهضة حاضرة على منابر خطباء الجمعة في مساجد مصر، إذ تطرقوا إلى بيان فضل "الصبر على البلاء"، بعد أيام من إعلان فشل مفاوضات سد النهضة مع إثيوبيا، ما قد يعرض مصر إلى مخاطر الجفاف، وتحميل السيسي مسؤولية الإخفاق بشكل كامل.

تناول الخطباء الموجهون، أهمية تكاتف المواطنين في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، واصطفافهم جميعا من أجل تجاوز الأزمات الراهنة، حسب تعليمات  وزارة الأوقاف التي توزع أسبوعيا موضوعا موحدا للخطبة على الأئمة.

تلك الإجراءات المتتابعة توضح أن السيسي لم يخف قلقه من دور المساجد، ففي 27 أبريل/ نيسان 2017 قال: "أنا قعدت أكثر من 30 سنة أنزل أصلي في المسجد كل الأوقات حسب الظروف.. بس عمري ما قعدت، ولا سمحت لأولادي أنهم يقعدوا يسمعوا، أو يشاركوا داخل المساجد".

ثم طلب من المصريين "إبلاغ أجهزة الأمن عن أي جيران لهم يستريبون في أمرهم،وحذرهم بشدة من التأثر بالأفكار التي تتردد في المساجد".

منظومة الحكم في مصر بقيادة السيسي، تسعى إلى ربط المساجد بالإرهاب، ففي يوليو/تموز 2016 وفي حضوره، نفذت طائرات حربية مصرية مناورة تحاكي عملية لـ"محاربة الإرهاب" تضمنت قصف مجسم مسجد بحجة أنه يأوي إرهابيين، واستخدمت في المناورة مروحيات عدة من أنواع مختلفة، إضافة إلى مجموعات قتالية من وحدات المظلات. 

علاقة السيسي المتأزمة مع المساجد لم تقف عند هذا الحد، ففي 16 فبراير/ تشرين الثاني 2019، وخلال مؤتمر ميونخ للأمن، طالب السيسي بإصلاح الخطاب الديني، وحث قادة الدول الأوروبية، والغربية على مراقبة المساجد، ودور العبادة في بلادهم.

خطباء المكافأة

التضييق على المساجد، لم يشمل كينونته كدور عبادة فقط، بل ذهب إلى محاولة تحجيم دوره بإجراءات وقرارات أيضا طالت الأئمة والخطباء، و في 26 فبراير/ شباط 2015، صرح وزير الأوقاف محمد مختار جمعة، أنه سيتم الاستغناء عن خطباء المكافأة، معتبرا أن الأصل في العمل بالخطابة للأئمة المعينين.

وتشير الإحصائيات الرسمية عام 2019، أن عدد الخطباء غير المعينين يبلغ قرابة 3 آلاف على مستوى الجمهورية، بينما يصل عدد الخطباء المعينين قرابة 52 ألفا، في حين يبلغ عدد المساجد والزوايا التابعة للأوقاف نحو 133 ألفا، وهي أرقام توضح طبيعة العجز الكبير في عدد الأئمة والخطباء، على مستوى الجمهورية.

وفي 12 يوليو/ تموز 2016، أعلنت وزارة الأوقاف، قرارها بإرساء خطبة الجمعة الموحدة، وتشكيل لجنة علمية لإعداد وصياغة خطب الجمعة، مؤكدة أن ذلك "يتوافق مع روح العصر من قضايا إيمانية وأخلاقية وإنسانية وحياتية وواقعية وتعميمها مكتوبة"، مبررة ذلك بأن بعض الخطباء لا يملكون أنفسهم على المنبر، إما بالإطالة أو الخروج عن الموضوع أو الدخول في أمور سياسية وحزبية.

واستمر الأمر على هذا النحو حتى 9 يناير/ كانون الثاني 2017، عندما أصدرت وزارة الأوقاف بيانا أكدت فيه إعدادها قرابة 270 موضوعا لخطب الجمعة، مجهزة ومعدة للخمس سنوات القادمة، وسيتم رفعها للرئيس السيسي لإقرارها.