قرن على ثورة 1919.. هل مازال المصريون يبحثون عن استقلالهم؟

أحمد مدكور | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

كان الزعيم المصري التاريخي سعد زغلول يقول في اجتماعات الوفد السرية للدفاع عن القضية المصرية ضد الاحتلال البريطاني: "لابد لنا من قارعة"، ويقصد حدث جلل يؤجج المشاعر الوطنية، ويشعل فتيل الثورة المنتظرة، وجاءت القارعة متمثلة في اعتقال سعد زغلول نفسه ورفاقه عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي، ونفيهم إلى جزيرة مالطا؛ لتشتعل ثورة عارمة في ربوع مصر يوم ٩ مارس/آذار ١٩١٩.

وتمحورت فلسفة هذه الثورة حول الاستقلال التام عن المحتل الإنجليزي، ووضع دستور جديد يحترم إرادة الأمة المصرية، وجاء دستور 1923، وتصريح ٢٨ فبراير/ شباط ١٩٢٢، الذي أعلنت فيه الإمبراطورية البريطانية إنهاء الحماية على مصر، وأن مصر "دولة مستقلة ذات سيادة" كنتيجة مباشرة لحراك المصريين، ومثلت ثورة ١٩١٩ في حد ذاتها المنطلق الذي كان إيذانا بميلاد روح جديدة للوطنية المصرية بمفهومها الحديث، ومن رحمها خُلق جيل حمل لواء التغيير والإصلاح لعقود طويلة.

وبعد مرور ١٠٠ عام كاملة على الثورة، وفي ظل أوضاع صعبة تعيشها الدولة المصرية، التي شهدت حراكا شعبيا فريدا في ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، سرعان ما تم وأده في ٣ يوليو/تموز ٢٠١٣، بانقلاب عسكري قام به مجموعة الضباط في القوات المسلحة بقيادة عبد الفتاح السيسي؛ لتدخل مصر في إشكاليات مماثلة لما كانت عليه في مطلع القرن الماضي، من حيث أزمة امتلاك الشعب لإرادته، واستقلال القرار، في ظل تبعية مفرطة لقوى إقليمية على غرار السعودية والإمارات، إضافة إلى أزمة تشريعية في صياغة دستور حقيقي يحترم إرادة الأمة، مع استمرار آليات القمع والقهر للجماهير، وتساقط مواكب الشهداء قديما وحديثا.

مصر بين تبعيتين

في حقبة ثورة ١٩١٩ كان يؤرق الشعب المصري وقيادته الوطنية، سطوة الاحتلال الإنجليزي، وتغلغله الكامل في شؤون الدولة، بالإضافة إلى إلغاء الدستور، وفرض الحماية البريطانية، وإعلان الأحكام العرفية، وطغيان المصالح الأجنبية على الاقتصاد، لاسيما وأن سلطة المحتل أخضعت موارد الدولة وإمكانياتها لصالحها خلال خوضها للحرب العالمية الأولى منذ العام ١٩١٤ وحتى ١٩١٨، وهو ما أرهق البلاد والعباد.

ومع إعلان الرئيس الأمريكي ودور ويلسون مبدأ "حق تقرير المصير للشعوب" خلال مؤتمر باريس للسلام، وجد سعد زغلول ومجموعته الوطنية في ذلك فرصة لتخليص مصر من تبعيتها، ولكن تحطمت مطالبهم على صخرة ملنر "وزير المستعمرات البريطانية"، وتم نفيهم إلى جزيرة مالطا؛ مما أشعل جذوة النضال في نفوس المصريين، الذين أشعلوا ثورة عارمة في سائر ربوع القطر المصري، تصدى لها الاحتلال بقوة غاشمة، وسقط العديد من الشهداء تجاوزوا ٨٠٠ شهيدا، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من الجرحى.

وجاء تصريح ٢٨ فبراير/ شباط ١٩٢٢، حينما ألغت إنجلترا الحماية المفروضة على مصر منذ ١٩١٤، وأعلنت مصر دولة مستقلة ذات سيادة، وألغيت الأحكام العرفية، وفي العام ١٩٢٣، صدر الدستور المصري وقانون الانتخابات، وبقي شعار الثورة الخالد الذي رددته الأجيال "الاستقلال التام أو الموت الزؤام" منقوصا، حيث لم تستطع الثورة تحقيق الاستقلال التام، فقد ظلت القوات البريطانية متواجدة في مصر؛ بسبب احتفاظ بريطانيا بحق تأمين شبكة مواصلاتها في مصر، وحماية مصر من العدوان الأجنبي.

وبعد مرور قرابة عقد من الزمان، تأتي وضعية مختلفة لمصر، التي سقطت في براثن قوى أخرى غير الاحتلال البريطاني القديم، فهذه القوى الإقليمية وتحديدا السعودية والإمارات باتت متحكمة بمصير الدولة المصرية، بعد دعمها للانقلاب العسكري في ٣ يوليو/ تموز ٢٠١٣.

"مصر شبه دولة"

من زعامة سعد زغلول ونخبته إلى حكم عبد الفتاح السيسي والجنرالات، تبدلت الأوضاع، وجاءت أزمة حصار قطر في يونيو/ تموز ٢٠١٧، لتكرس واقع مصر المتضائل في محيطها العربي والدولي، واتساع الفجوة بينها وبين دول الجوار كفاعل إقليمي مؤثر، وتحولها إلى دولة تابعة للسعودية والإمارات دون أن تعوضها أي من الدولتين عما تكبدته من خسائر مالية وأدبية، بل وعدم تعامل الدول الكبرى مع نظام السيسي كعنصر رئيسي في هذه الأزمة.

وتحت عنوان "مصر الكئيبة يتلاشى نفوذها الإقليمي" أوردت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية تقريرا تناول تصريحات عبد الفتاح السيسي في مايو/آيار ٢٠١٦، التي قال فيها: "يعيشون في دولة محطمة محاطة بأعداء لن يدعوها وشأنها أبدا".

وتابع: "انظروا إلى بلدكم.. هي شبه دولة وليست دولة حقيقية"، لافتا إلى أن "مصر تحتاج إلى قانون ونظام ومؤسسات قوية، لو أرادت قلب هذا الوضع وأن تصبح "دولة تحترم نفسها والعالم يحترمها".

وذكرت الصحيفة، أنه بعد خمس سنوات من الإخفاقات السياسية والاقتصادية، يخيم على البلاد شعور بالكآبة، فمصر زعيمة العالم العربي التقليدية سياسيا وثقافيا، وموطن ربع سكانه، أصبحت مهمّشة على مستوى المنطقة بطريقة لم تشهدها منذ أجيال.

"استدعاءات الموت"

من أبرز سمات ثورة ١٩، تشكيل جدار قوي للهوية الوطنية المصرية، تحديدا بين المسلمين والمسيحيين، وكان القس ملطي سرجيوس وكيل مطرانية سوهاج، هو أول رجل دين مسيحي في مصر يعتلي منبر الجامع الأزهر، وقال العبارة المشهورة: "إذا كان الإنجليز يقولون إنهم جاؤوا لحماية الأقباط، فليمت الأقباط وتحيا مصر".

وهناك أيضا مكرم عبيد أحد رموز الحركة الوطنية في مصر من المسيحيين في ذلك الوقت، وكان ضمن الوفد المصاحب لسعد زغلول وتم نفيه معه إلى جزيرة مالطة وعاد بعد ثورة ١٩.

وفي كتابه "حكايات صحفية"، ذكر الصحافي والناشط الوطني حافظ محمود، موقفا عاصره حين كان يمر موكب ضخم بمسجد السيدة زينب، وكان من بين نجوم هذا الموكب مكرم عبيد باشا، ولما وقف المشاركون في الموكب من المسلمين لقراءة الفاتحة أمام المسجد، وقف معهم مكرم عبيد ورفع يديه إلى صدره وقرأ الفاتحة معهم، وكان الموقف الذي أثار ضجة؛ لأنه يصدر من سياسي قبطي كبير، وكان رد مكرم: "أنا قبطي دينا، ولكنني مسلم وطنا".

ومن زمن إلى زمن تبدلت الأفكار والمعطيات، وكان ظهور البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية في مشهد الانقلاب العسكري يوم ٣ يوليو/ تموز ٢٠١٣، مخيبا لآمال الكثيرين الذين رأوا التحالف بين الكنيسة والنظام السياسي، عبر الدعم الكامل للقمع والاستبداد، وغض البصر عن الانتهاكات الحقوقية، مقابل الحماية الوهمية التي يضفيها النظام على الكنيسة من صعود الحركات الإسلامية، وحصول الكنيسة على امتياز الهيمنة على الشأن القبطي بمعزل عن سيادة القانون.

وكما دفع المسلمون ثمن الحالة القمعية المفروضة عليهم، دفع المسيحيون نفس الثمن، عبر الاستهداف المستمر للكنائس ودور العبادة المسيحية؛ نتيجة الثغرات الأمنية.

مصر بين تفويضين

في ثورة ١٩١٩، أعطى المصريون سعد زغلول تفويضا، عبر جمع التوقيعات من الشعب لأعضاء الوفد؛ لتمثيلهم في مؤتمر السلام العالمي في باريس، تفويض الحرية كان الهدف منه تحقيق الاستقلال، وخلق قيادة وطنية شعبية معبرة عن كافة طوائف الأمة، وكان الأمر بمثابة عقد اجتماعي وسياسي بين المواطنين والجماعة المُفوضة.

وفي ٢٤ يوليو/ تموز ٢٠١٣، وقع تفويض دموي رهيب مستجد على الأمة المصرية المتماسكة عبر قرون، وذلك بعد دعوة السيسي المصريين للنزول من أجل أن يمنحوه تفويضا لمواجهة الإرهاب المحتمل.

بعدها بأيام تحول "الإرهاب" من محتمل إلى واقع مأساوي يعيشه الشعب المصري، وشهدت الدولة واحدة من أعنف الفترات في تاريخها المعاصر، حيث قامت الأجهزة الأمنية بفض الاعتصامات السلمية في ميداني رابعة العدوية والنهضة، مخلفة أعداد هائلة من القتلى والمصابين، وفي السنوات التالية استمرت موجة العنف المنظم من قبل النظام بقيادة عبد الفتاح السيسي، وتم سجن واعتقال الآلاف من المصريين.

المشهد المأساوي لدماء المصريين المسالة في الشوارع والميادين، بعد عدد من الثورات بداية من ثورة ١٩١٩، وثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، توضح أنهم مازالوا يبحثون عن مستقبل أفضل لدولتهم، وواقع جديد يرقى بهم إلى ما يستحقونه؛ كأمة عريقة لها ثقلها التاريخي.