يحرق الكتب ويغلق المكتبات.. لماذا يقيم النظام "معرض القاهرة الدولي"؟

12

طباعة

مشاركة

تساؤلات عدة تدور حول أسباب إقامة معرض القاهرة الدولي للكتاب في ظل ظروف مصر الحالية، واختيار المفكر المصري الراحل الدكتور جمال حمدان المتوفى في أبريل/ نيسان 1993، ليكون شخصية الدورة الـ(51) من المعرض، الذي يُفتتح في 22 يناير/ كانون الثاني الجاري، وحتى 4 فبراير/ شباط 2020.

ومن تلك الأسئلة، هل لأنه كتب في مذكراته أن "مستقبل مصر أسود، وأن الخيار أمام البلاد لم يعد بين السيئ والأسوأ، بل بين الأسوأ والأكثر سوءا؟" أم لأنه قال: "أن مصر فقدت زعامتها في العالم العربي، وليس لها وريث؟ أو لأن هذا العلامة الذي رحل في ظروف غامضة في "جمهورية الضباط"، قد تنبأ بأن "معاهدة كامب ديفيد ستكون بداية نهاية مصر عربيا؟".

لماذا جمال حمدان؟

بحسب مراقبين، يبدو أن رئيس الانقلاب العسكري في مصر عبد الفتاح السيسي، الذي بدأ مشواره بتكميم الأفواه وقمع الحريات وإغلاق المكتبات بعدما انتزع الحكم من الرئيس الراحل محمد مرسي، يريد أن ينتهز فرصة معرض الكتاب ليُبشر المصريين بأنه حقق نبوءات جمال حمدان.

وذلك من خلال تحويل ميدان التحرير "رمز الثورة المصرية" في ذكراها التاسعة، إلى ميدان لـ"الكباش" (تماثيل من معبد الكرنك بمدينة الأقصر) ربما في إسقاط رمزي على من اعتصموا فيه ومن ارتقوا شهداء، أو إشارة إلى مواصلة نهج "الذبح" لكل من يفكر في العودة إليه، بحسب مراقبين.

وفي حديث لـ"الاستقلال" مع عدد من المثقفين وأصحاب الرأي حول أسباب اختيار الدكتور جمال حمدان ليكون شخصية الدورة الـ51 لمعرض الكتاب، فقد تباينت الآراء حول معزى نظام السيسي من هذا الاختيار، إذ يرى الدكتور أبوزيد (طبيب) أن "اختيار جمال حمدان جاء لموقفه من تركيا في معظم كتاباته، فهو يعتبر الأتراك العدو الأول لجمهورية الضباط".

أما الدكتورة أماني (صيدلانية)، فتعتقد في حديثها لـ"الاستقلال" أن اختيار حمدان، ربما يكون بسبب ادعاء السيسي في إحدى المرات أنه قرأ له كتاب "شخصيه مصر"، وما الحرص على إقامة معرض الكتاب إلا من باب العادة السنوية، و"كتجميل لوجه النظام القبيح".

لكن الأكاديمي والأستاذ الجامعي الدكتور بسام، فقد توقع أن "لاختيار جمال حمدان شخصية معرض الكتاب لهذه الدورة، أسباب رمزية تتعلق بحقوق مصر في تيران وصنافير، وكشف عبث الصهاينة في مصر. وهو ما يدل على أن مثقفي مصر لا تزال بوصلتهم في الاتجاه الصحيح ولم تتغير"، بحسب تعبيره.

اغتيال الثقافة

في ديسمبر/ كانون الأول 2016، وفي المؤتمر الوطني الأول للشباب بشرم الشيخ، قال رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي: "ينفع التعليم في إيه مع وطن ضائع؟ عندنا تحديات كبيرة جدا".

لكن قبل ساعات من انعقاد هذا المؤتمر كانت تحديات "السيسي" الكبيرة قد تجلت في إغلاق سلسلة مكتبات "الكرامة" بفروعها السبعة، والتي يملكها، جمال عيد، الناشط الحقوقي ومدير "الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان"، رغم زيارة مشيرة خطاب، مرشحة مصر السابقة لرئاسة منظمة "اليونسكو"، إلى أحد فروع المكتبة، وثنائها على ما تضمنته من كتب وأنشطة.

واستئنافا لمسلسل اغتيال الثقافة في مصر، الذي بدأه نظام السيسي في أغسطس/ آب 2014، فقد منع احتفالية "الفن ميدان" التي كانت تقام في ميدان عابدين على مدى ثلاث سنوات، ثم مداهمة وإغلاق جاليري "تاون هاوس" و"مسرح روابط" في يناير/ كانون الثاني 2016، إيذانا بإعلان الحرب على الثقافة بكل أشكالها، حتى الدينية منها، باعتبارها خطرا يهدد النظام.

وأحرقت عدد من قيادات التربية والتعليم بالجيزة، بقيادة وكيلة وزارة التربية والتعليم، بثينة عبد الله كشك، في أبريل/ نيسان 2015، مجموعة من كتب التراث الإسلامي بحوش مدرسة فضل الحديثة بالجيزة، وذلك بدعوى أنها تحرض على العنف والإرهاب.

وفي منتصف يونيو/ حزيران من نفس العام، أصدر محمد مختار جمعة وزير الأوقاف قرارا بإعادة فرز مكتبات المساجد، وحرق جميع الكتب التي وصفها بـ"المحرضة".

بخصوص إزدواجية نظام السيسي، في الجمع بين حرق الكتب وإغلاق المكتبات، وبين إظهار الحفاوة بمعرض الكتاب، فيقول أصلان (مُعلم) في حديث لـ"الاستقلال": "هي نفس الازوداجية التي يمارسها في كل شيء، فهو إعلاميا يحدثنا عن الحفاظ على الأمن القومي، وفي الوقت نفسه يفرط في الأرض والمياه، ويضع حبل العدو حول رقابنا، وما إقامته لمعرض الكتاب إلا رسالة للخارج أنه نظام مُتحضر ومهتم بالثقافة والعلم".

من ناحيته يتفق الكاتب والباحث المصري فارس في حديث لـ"الاستقلال"، مع رأي أصلان، فيقول: "الحرص على إقامة المعرض يأتي باعتباره أمرا روتينيا يستكمل به ديكور تجميل النظام، ولأن إهماله أو منعه لا يصب في مصلحته".

وينضم الطبيب محمد مصطفى إلى هذا الرأي، إذ قال لـ"الاستقلال": إن "سبب الحرص على إقامة المعرض وإظهار الاحتفاء الكاذب به، هو مجرد تجميل لوجه النظام. فلنلقي نظرة إذن على ما آل إليه حال الثقافة والكتاب والنشر، وآثار ذلك على معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي سيفتتح في مصر".

الحبس للجميع

بعد ثمانية أشهر من إغلاق مكتبات "الكرامة" في الأول من ديسمبر/ كانون الثاني 2016، بدأ حصار دام لعامين على مكتبات "ألف" في أغسطس/ آب 2017، وانتهى باعتقال رئيس مجلس إدارتها، رجل الأعمال عمر الشنيطي، ومصادرة 37 فرعا لها في أنحاء مصر، في ديسمبر/ كانون الأول، بعد أن كانت بمثابة وزارة ثقافة بديلة بإقامتها العديد من الفعاليات الثقافية، وحفلات توقيع الإصدارات الجديدة، والندوات والمؤتمرات والأمسيات الشعرية، ليتم إسناد إدارتها في النهاية لمؤسسة "أخبار اليوم" الحكومية.

وبعد أقل من شهر، وفي سبتمبر/ أيلول 2017، تم تشميع مكتبة "البلد" الكائنة بشارع محمد محمود، بمنطقة وسط البلد بالقاهرة، بالشمع الأحمر، والتي تمارس نشاطها منذ 2007، وإلقاء القبض على مديرها ومصادرة محتوياتها، في الوقت الذي نفى فيه فريد زهران، صاحب المكتبة، ورئيس الحزب "المصري الديمقراطي الاجتماعي" الذي سبق أن أيد انقلاب يوليو/ تموز 2013، معرفته أسباب ذلك.

وفي أكتوبر/ تشرين أول 2018، قررت نيابة حوادث جنوب القاهرة، حبس الباحث الاقتصادي عبدالخالق فاروق، أربعة أيام على ذمة التحقيقات، بتهمة نشر أخبار كاذبة، وذلك بعد مصادرة كتابه "هل مصر دولة فقيرة حقا؟". وشمل القرار حبس إبراهيم الخطيب مالك المطبعة التي نشرت الكتاب.

وصدر في فبراير/ شباط 2019، حكم من محكمة عسكرية بحبس مؤسس دار نشر "تنمية" خالد لطفي خمس سنوات بتهمة إفشاء أسرار عسكرية، بعدما قبض عليه في أبريل/ نيسان 2018، لتوزيعه النسخة العربية من رواية إسرائيلية بعنوان "الملاك: أشرف مروان"، تعتبر رجل الأعمال المصري أشرف مروان "زوج ابنة جمال عبد الناصر" جاسوسا.

في ظل هذه الأجواء القاتمة التي يقاسيها المثقفون وتمر بها الثقافة والكتاب والمكتبات وصناعة النشر، يسود شعور بعدم التفاؤل لدى الكثيرين، بشأن مستقبل الحريات في مصر، ومصير المئات من الكتاب والمثقين المغيبين خلف أسوار المعتقلات يتعرضون مثل آلاف المعتقلين السياسيين لظروف تؤدي إلى القتل البطئ، لدرجة تجعل الدكتور محمد مصطفى يتوقع لحرية الرأي أن "يكون مصيرها الاختفاء".

أما الباحث المصري فارس فينتظر "مزيدا من التضييق والقمع بلا حدود أو قيود"، كما يقاسمه الدكتور بسام تشاؤمه فيقول: "سيقمع نظام السيسي الحريات، لأنه ببساطة لا يستطيع الصمود أمام أية مناظرة سياسية، فيسلك سبيل إخراس الألسنة، فهو نظام مجرم وعديم الإنسانية وليس له أي رادع أخلاقي، لذلك فإن معتقلي الرأي سيظلون في غيابات السجون إلى أن يسقط هذا النظام".

كما يؤكد الدكتور أبو زيد أنه "لا مستقبل لحرية الرأي في ظل هذا النظام، ومصير الكتاب والمثقفين المعتقلين عند الله، فحسبهم قول كلمة حق عند سلطان جائر"، وهو نفس رأي الدكتورة أماني، التي قالت: "مصير حرية الرأي، يبدو أنه مع هذا النظام المستبد سيكون من سيء إلى أسوأ، حيث المزيد من التضييق وخنق كافة سبل المعارضة والرأي الآخر". ليختم أصلان بجملة مُغرقة في التشاؤم قائلا: "لا مستقبل في ظل هذا النظام".

أرقام برّاقة

سردت الصفحة الرسمية لمعرض القاهرة الدولي للكتاب على موقع "فيسبوك"، الكثير من الأرقام عن عدد الأجنحة ودور النشر، وعدد الفعاليات والمشاركين فيها بالآلاف (3502 مشارك). ليتحول هذا الحدث الثقافي السنوي "الدولي" لأرقام براقة بصرف النظر عن مدى صلتها بالواقع، وهو ما تعتبره الباحثة المصرية نشوى (ماجستير دراسات إسلامية): "تكريسا لنهج الصورة البراقة أو اللقطة".

وتتوقع نشوى في حديث لـ"الاستقلال" أن "يبقى حال الكتاب والمثقفين على ما هو عليه، طالما يجد النظام كُتابا ومثقفين ينافقونه ويطبلون له". يشاركها في هذا الرأي الدكتور أبو زيد، معتبرا إقامة المعرض "مجرد نوع من الدعاية".

فمثلما بدأت الدورة الخمسون للمعرض بصور افتتاح الرئيس، اختتمت بـ"أكبر صورة سيلفي في التاريخ" تضم 3 آلاف من رواد المعرض. في الوقت الذي انخفض فيه عدد الزائرين من 4 ملايين زائر إلى 2.9 مليون زائر، جراء نقل المعرض بعيدا عن مكانه الأول.

وكثرت شكوى الزوار من أسعار الكتب المبالغ فيها، واقتصر الإقبال بنسبة كبيرة على دور النشر التي تبيع الكتب التعليمية وكتب الأطفال، وما عداها فيمر الزوار من أمامها لقراءة العناوين فقط، لعدم قدرته على دفع ثمنها، ولا سيما بعد مقاطعة باعة الكتب في "سور الأزبكية" للمعرض بسبب ضيق المساحات المعروضة للتأجير وارتفاع أسعارها، وهو ما فوت على المواطن البسيط فرصة شراء كتاب بسعر في متناول يده، ليكتفي بمتابعة دورة "بلاي ستيشن" نظمتها إدارة المعرض للزوار.

إلى جانب الاحتفاء بالمحتوى الأدبي الرديء تحت مسمى الكتابات "الشبابية"، كما حدث في دورة 2016، إذ اجتاحت المعرض أعمال مثل رواية "حبيبتي" للمغني زاب ثروت، رغم ما أثارته من استياء لمستواها المتدني، وديوان "زي الأفلام" لمحمد إبراهيم، و"علامات الحب السبع" لغادة كريم، و"يا سلمى أنا الآن وحيد" لباسم شرف، وديوان "خمسة خصوصي" لعلي حسن.

أزمة الكتّاب

بحسب تقرير التنمية البشرية لعام 2015، فإن حجم ما ينتجه العالم العربي من أدب وثقافة لا يتعدى 0.8 بالمئة من الإنتاج العالمي، أي أن جميع الكتاب والمفكرين والأدباء العرب، وحتى الهواة منهم ينتجون أقل من 1 بالمئة مما ينتجه العالم، علما بأن العرب يشكلون 5 بالمئة من سكان العالم .

 ويشير التقرير إلى أن متوسط نسبة الأمية في الدول العربية يبلغ 22 بالمئة، منهم 60 بالمئة من النساء، وهو ما يفسر تراجع معدلات القراءة وإصدار الكتب والإنتاج الثقافي في الوطن العربي، إلى جانب ما يسببه الاضطراب السياسي والأمني وسوء الأوضاع الاقتصادية، من تراجع ثقافي لدى ملايين العرب الذين يعيشون تحت خط الفقر، ولا يمكنهم شراء الكتب.

أما في مصر فبعد  تحرير سعر الصرف "تعويم الجنيه" في أواخر عام 2016، ارتفعت أسعار الكتب بشكل جنوني، الأمر الذي هدد بقوة استمرار صناعة النشر، ولا سيما فى ظل تجاهل وزارة الثقافة لشكاوى الناشرين، فوفقا لرئيس اتحاد الناشرين المصريين السابق عادل المصري، فإن "الصناعة تندثر، ورغم ذلك لم تتخذ الوزارة أى إجراءات للتقليل من خسائر الناشرين، خاصة بعد ارتفاع أسعار خامات الطباعة بنسبة 100 بالمئة، بل أحيانا تصل الزيادة إلى 150 بالمئة، وهو ما يعني أن سعر الكتاب يجب أن يكون الضعف حتى نستطيع تحصيل التكلفة دون ربح. والقائمين على معرض الكتاب بوزارة الثقافة لم يستمعوا للحلول التي وضعناها حتى لا نغلق دور النشر، ونجلس جميعا على المقاهي".

كما أكد مصطفى الفرماوي، مدير التزويد بمكتبات "دار الشروق" للنشر، أن "الناشرين العرب خفضوا مشاركتهم فى المعرض، فمن كان يشارك بمئة عنوان أصبح يشارك بعشرين فقط، لأنه على ثقة أن الكتاب لن يباع، نظرا لأن سعره بالدولار، فالكتاب الذي كان سعره عشرة دولارات، كان يباع بسبعين جنيها، وأصبح اليوم يباع بثلاثة أضعاف سعره، فمن سيشتريه؟".

من ذاكرة المعرض

بدأ المعرض فكرته في عام 1969، بمناسبة الاحتفالات بالعيد الألفي للقاهرة، في أرض المعارض بالجزيرة (دار الأوبرا حاليا)  وشارك فيه 27 دولة، وأكثر من 400 دار نشر، وزاره أكثر من سبعين ألفا، واستمر عشرة أيام فقط، ثم انتقل إلى أرض المعارض بمدينة نصر في دورته ال 16 عام 1983.

واكتفى المعرض خلال دوراته التسع الأولى، بأن يكون منفذا لبيع الكتب، وفي عام 1978، بدأ يتحول إلى ملتقى أدبي تعقد فيه الندوات والفعاليات الثقافية.

وفي فترة رئاسة الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور لهيئة الكتاب عام 1981، اعترض المثقفون على مشاركة إسرائيل بالمعرض، ووجهوا له نقدا لاذعا لقبوله باستضافة إسرائيل، ما أدى لاصابته بأزمة قلبية تأثرا من اتهامه بالمشاركة في التطبيع.

وعلى الرغم من التكثيف الأمني حول جناح إسرائيل بالمعرض في هذه الدورة، احتشد الشباب المصري الرافض للتطبيع الثقافي مع إسرائيل واقتحموا الجناح بالقوة، وحرقوا العلم الإسرائيلي، وفشلت مشاركة إسرائيل في المعرض، ثم عادت وكررت المحاولة في عام 1985، عبر جناح أصغر، ثم منعت تماما من المشاركة في عام 1987.

وفي عام 1992، شهد المعرض تنظيم مناظرة فكرية تحت عنوان "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية"، أدارها د. سمير سرحان، رئيس هيئة الكتاب في ذلك الوقت، وشارك فيها كل من الشيخ محمد الغزالي، والمستشار مأمون الهضيبي، والدكتور محمد عمارة، أمام كل من الدكتور فرج فودة، والدكتور  محمد أحمد خلف الله، حضرها الآلاف، وبعد أسبوع من المناظرة، اُغتيل الدكتور فرج فودة.

وعلى مدار عُمره لم يتوقف المعرض سوى مرة واحدة فقط بسبب أحداث ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، ثم عاد لاستئناف دوراته بانتظام، وفي العام الماضي بعدما نقل مقره إلى القاهرة الجديدة.