الإخوان المسلمون.. كيف صمدت الجماعة بوجه القمع على مدار 7 عقود؟

القاهرة- الاستقلال | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

منذ نشأتها في عام 1928 على يد حسن البنا، وحتى انتشار دعوتها في عدة دول حول العالم، أظهرت جماعة الإخوان المسلمين قدرة كبيرة على الصمود والتكيف والاستمرارية، في مواجهة قرارات الحل وموجات القمع ومحاولات التصفية، لاسيما بعد تصاعدها داخليا وخارجيا بعد ثورات "الربيع العربي".

فقد تمكن الإخوان من مواجهة الاضطهاد منذ قرار الحل الأول في 8 ديسمبر/ كانون الأول 1948، والذي أعقبه حملة شرسة لاعتقالهم، واغتيال مرشدهم في العام التالي، كما صمدوا إبان حكم الرئيس جمال عبد الناصر في مواجهة قرار الحل الثاني في 14 يناير/ كانون الثاني 1954، وما تبعه من اعتقالات جماعية شهدت تعذيبا وحشيا.

وبهذا تعايشت الجماعة بعدها لأكثر من ثلاثة عقود مع حالة من العداء المستحكم تحت حكم الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك، وهو ما راكم لديها خبرات كافية لمواجهة تداعيات انقلاب الجيش على مرشحها المنتخب محمد مرسي في 3 يوليو/ تموز 2013، وما تلاه من قرار حلها الثالث في 2 سبتمبر/ أيلول من نفس العام.

تعرضت الجماعة بعد تولي عبد الفتاح السيسي الحكم رسميا في يونيو/حزيران 2014، لعمليات تصفية ممنهجة لضرب هيكلها التنظيمي وشل قدرتها على إعادة بناء قواعدها واستعادة وجودها الجماهيري. ورغم صدور العديد من البيانات التي بشرت بقرب نهاية الإخوان، إلا أن النظام فشل في تحقيق ذلك.

ووفقا لأحدث دراسات "معهد كارينجي للسلام"، أبدت الجماعة قدرة "مدهشة" على مواصلة العمل من خلال كافة الأنشطة الممكنة، عبر الفضائيات، والمواقع الإلكترونية، ودعم السجناء وعائلاتهم، مستغلة قنوات الاتصالات والخطوط الإدارية التي بقيت سليمة داخلها، لتثبت أنه لا يمكن وقفها عبر جدران السجون والملاحقات والمصادرات.

فما هي أسباب صمود الجماعة واستعصائها على الاندثار لما يزيد عن تسعة عقود؟

الهيكلية التنظيمية

نشرت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، على موقعها الإلكتروني في ديسمبر/ كانون أول 2011، تقريرا قديما رفعت عنه السرية، أكدت فيه أن قوة جماعة الإخوان المسلمين تكمن في وحدتهم، وتماسك تنظيمهم، وإمكاناتهم المالية والخدمية، وتغلغلهم في مؤسسات المجتمع المدني المصري.

كذلك ألقى معهد كارينجي للسلام، في دراسة له، الضوء على الأسباب التي مكنت الجماعة من الصمود على مدار الـسنوات الماضية، قائلا: "ربما كان أهم سبب لبقاء جماعة الإخوان طويلا، هو أن القياديين من ذوي الترتيب الأعلى يمكنهم أن يعملوا بشكل مستقل نظرا لقوة استيعابهم لأيديولوجيا التنظيم ودعوته".

وأوضحت الدراسة أن "الإجراءات التي اتخذها الجيش المصري لتقويض الإخوان، كانت نابعة من اعتقاده أن الجماعة تنحصر في إطار نخبوي يتخذ القرارات الإستراتيجية ويمررها إلى التنظيم الأوسع، عبر تعليمات تتدفق من القمة إلى القاعدة، وبالتالي إذا سُحقت هذه البنية الهرمية تحت الضغط فسوف تؤول إلى الاندثار".

إلا أن الجماعة كشفت عن قدرة مدهشة على مواصلة العمل، تمثلت في تغلبها على التحديات الداخلية التي ترتبت على اعتقال القيادات الهرمية، بإحلال شبكات وخطوط اتصال غير هرمية مكان البنية القيادية العمودية للجماعة.

وهذا الأمر خلق فضاءات من الشباب الأصغر سنا، يصعب على قبضة السلطات المصرية الإطباق عليها، كي يلعبوا دورا حاسما في إبقائها على قيد الحياة.

وتابعت الدراسة: "قدرة جماعة الإخوان على البقاء تكمن في الحفاظ على طبيعة وخصائص هيكليتها التنظيمية الهرمية من حيث التنوع الإداري، واتساع المساحة الممنوحة للكوادر القيادية، بحيث يصبح من المستحيل على النظام أن يُخضع القيادة برمتها إلى سيطرته، مهما استخدم من وسائل إخضاع كثيفة".

وهذا يعني، وفق الدراسة، أنه على رغم جهود السيسي لتدمير الهيكلية الهرمية للتنظيم، فإنها بقيت متماسكة إلى حد كبير". 

القدرة على التكيف

القدرة على التكيف وتوريث الخبرات، بفعل التماسك التنظيمي والروابط العائلية، من أهم العوامل المساعدة في صمود الإخوان المسلمين.

وبحسب معهد كارنيجي فإن "العلاقات الشخصية مهمة جدا في جماعة الإخوان، وهناك عدد لا يحصى من الأمثلة عن روابط عائلية تلم شمل الأعضاء معا، وتخلق شبكات شبه مُغلقة، وتضمن أن تبقى الوسائل الموثوقة للتبادل قائمة، في الوقت الذي تشكل فيه ضمانة ضد التسلل والانكشاف".

وهذه العلاقات الشخصية تُستكمل بنوع جديد من الإعلام يسمح بتمرير المعلومات، وتأمين نشاط الشبكات، عبر الرسائل النصية المشفرة وتطبيقات التواصل الصوتي بواسطة "واتس آب" و"فايبر".

هذا إلى جانب مواقع التواصل الاجتماعي كـ"فيسبوك"، وبعض المنصات على الإنترنت مثل" إخوان ويب" والقنوات الفضائية مثل تلفزيون "وطن".

ورغم جهود السيسي لتدمير الجماعة، فإنها بقيت متماسكة إلى حد كبير، واستطاع الجسم الأساسي في التنظيم أن يواصل العمل لفترة طويلة من دون تعليمات يومية وتوجيهات إدارية أو أوامر إستراتيجية.

ويعود السبب في هذا إلى أن "الضامن الرئيس لبقاء الجماعة هم الأعضاء المُلتزمون القادرون على التكيف ومواصلة العمل في أحلك الظروف وأصعبها".

النفس الطويل

القمع المتصاعد ضد الإخوان يرهق ميزانية النظام ويغلق الأفق السياسي، ويشوه صورة السيسي دوليا، حيث تقول دراسة معهد كارنيجي: إن "النفس الطويل ومقاومة السقوط جراء ترسخ ثقافة المحنة وما تحققه من صبر وثبات، تعد من إحدى القضايا الحاسمة في فكر ومناقشات الجماعة".

وهو ما ساهم في الابتعاد عن اللجوء إلى العنف كخيار محتمل، وتكوين تصور يعتبر أن التماسك ضد السلطوية مثلا أعلى يجب الاقتداء به، ويعيد التأكيد على الحاجة إلى الصبر والثبات والوحدة الداخلية لإنهاك الخصم.

لذا فإن تكلفة قمع حركة اجتماعية كبرى كجماعة الإخوان المسلمين، تعد باهظة للغاية، فحسب تقرير كارنيجي فإن "الثمن لا يقتصر فقط على أعضائها ومناصريها، بل يطال أيضا السلطات التي تطبق هذا النهج العنيف".

ففي حين أن نظام السيسي قد يعتبر هذا القمع ضروريا، إلا أنه ربما لا يدرك أنه يتضمن مخاطر عليه هو أيضا.

ويعود ذلك إلى الكلفة المالية لإدارة سجون تضم آلاف المعتقلين كبيرة جدا، هذا عدا عن تعداد الخسائر الضمنية الناجمة عن حقيقة أن هؤلاء السجناء نشطون اقتصاديا ومهنيا، وأن تغييبهم يترك أثرا سلبيا على الوضع الاقتصادي والاجتماعي العام. 

"وإن كان من غير المحتمل أن تصرف هذه المضاعفات نظام السيسي عن مواصلة هذا النهج، لكن الأثمان اللامادية لقمع جماعة الإخوان ستلقي بظلال كثيفة على عاتق النظام المصري الذي تعهد بضمان الديمقراطية والحريات، وتحقيق الازدهار الاقتصادي، وبسط الأمن في وجه الإرهاب".

وإذا ما عجز النظام عن تلبية هذه التوقعات التي ألزم نفسه بها، فستعاني شعبيته كثيرا، وتفتح ثغرة جديدة لمعارضته، وفق كارنغي.

أيضا عداء النظام للجماعة أدى إلى ردود فعل معاكسة، بحسب مراقبين، وأثبتت قيادة التنظيم أن النظام غير قادر على كسر وحدة الجماعة، بل إن المشاهد العامة لمحاكمات القادة المسجونين قد ساعدت على استعادة الاحترام لهذه الشخصيات في أوساط قواعد الجماعة الأكثر ثورية.

الحذر الفطري

وفقا لدراسة أعدها "المعهد المصري للدراسات" في سبتمبر/ أيلول 2019،  تميزت جماعة الإخوان بعمق تاريخي وخبرات متزايدة من الصمود التنظيمي والقدرة على الاستمرار رغم التقلبات السياسية والمواجهة القمعية التي لم تتوقف منذ العهد الملكي، ما أكسبها القدرة على التمدد والانتشار رغم العقبات القانونية والمضايقات الأمنية.

 إلا أن الخبرة الطويلة وقوة الانتشار لم تمنع حالة "الحذر الفطري" تحسبا لأية تقلبات أو تغيرات في المشهد السياسي، سببتها تجارب مختلفة مع الضغوط الأمنية وارتفاع سقف المواجهات ومحاولات الإفناء.

وهو الحذر الذي تعاملت به الجماعة مع الدعوات الشبابية المفاجئة للتظاهر في 25 يناير/ كانون ثان 2011، رغم مشاركتها قبلها في "مظاهرات الإصلاح" التي دعت لها "حركة كفاية"، وكذلك في تأسيس "الجمعية الوطنية للتغيير" في فبراير/ شباط 2010.

فالحذر الفطري إذن هو ما يترجم تردد الجماعة في التجاوب مع أية دعوات مجهولة بالنسبة لها، وتفضيل التعامل مع ما تكون قد شاركت في الإعداد له وناقشته على مستوى قياداتها الهرمية لاتخاذ قرار بشأنه، تفاديا لتحمل كلفة قمعية جراء انتشارها وكشف كثير من رموزها وقيادتها وهياكلها للجهات الأمنية.

بالإضافة إلى انسيابية العلاقات الداخلية بين القيادات التي تحدد القرارات والتوجهات العليا للجماعة وبين حركة القيادات الوسيطة وباقي الأعضاء في مختلف مسارات ولجان الجماعة في مختلف المحافظات.

وهذه الانسيابية تضمن حالة من "الهدوء التنظيمي" تجعل أعمال التنظيم وإجراءاته تسير بطريقة سلسة معتادة بلا صدامات داخلية يمكن أن تسبب شكلا من أشكال الصراع أو الضغط، في ظل الثقة الكبيرة في شخوص القيادات العليا وقراراتهم.

الحاضنة الشعبية

وفقا لتقرير صادر عن مركز المسار للدراسات الإنسانية بعنوان: "شعبية الإخوان بين الحاضنة الاجتماعية الصلبة والكتل المتأرجحة"، فقد كشف تحليل لاستطلاعات الرأي العام أن جماعة الإخوان ما تزال تحافظ على حاضنة اجتماعية وشعبية متماسكة تصل إلى نحو 30 % في ظل حالة القمع الراهنة، بينما كانت في أوج قوتها بنحو 45 % في لحظة الصدام مع انقلاب الثالث من يوليو/ تموز 2013.

في المقابل، تشكلت قاعدة اجتماعية رافضة للإخوان بشكل قاطع، وهي الشريحة التى أيدت الفريق أحمد شفيق في انتخابات الرئاسة وانقلاب 2013، وعارضت دستور 2012، والتى ارتفعت نسبتها من 20% في 2011، إلى 27% في 2012، ووصلت إلى 36% في عام 2013.

لكن استطلاعا للرأي أجراه معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في عام 2017، أشارت نتائجه إلى أن  الجماعة تحظى بدعم ثلث الجمهور في مصر والسعودية والإمارات، على الرغم من حظر الحكومات الثلاث لها باعتبارها "إرهابية".

وأكد الاستطلاع أن آراء المصريين تبدو متماسكة حول الجماعة في السنوات الأخيرة، وهو ما يدل على أن الحملات الإعلامية التي ترعاها الحكومة ضد الإخوان، وإجراءات القمع الشاملة التي تفرضها عليهم، لا تؤثر في الرأي العام بسهولة.

وهو ما أظهرته ورقة عن مستقبل الإسلاميين في الشرق الأوسط أعدها مركز بروكينجز، بالقول: "على الرغم من الحصار المفروض على جماعة الإخوان المسلمين، فإنهم لا يزالون من أفضل القوى السياسية المنظمة في البلاد".

مستقبل الإخوان

في مؤتمره السنوي الثالث عن مصر، والذي أقيم بالعاصمة الأمريكية واشنطن في سبتمبر/ أيلول 2015، بحث "معهد الشرق الأوسط" مستقبل مصر بعد التغيرات التي حدثت منذ انقلاب الجيش على الرئيس المنتخب في يوليو/ تموز 2013.

وتوقع مشاركون في المؤتمر عودة جماعة الإخوان المسلمين للمشهد السياسي في مصر مستقبلا. وقالت كونداس بوتنام المسؤولة عن الملف المصري في وزارة الخارجية الأمريكية، في كلمتها: إن عودة الجماعة إلى المشهد والساحة السياسية المصرية "أمر متوقع مستقبلا".

وفي ديسمبر/كانون أول 2016، نشر "معهد كارنيجي للسلام" دراسة بعنوان "آفاق مجهولة: الأحزاب الإسلامية ما بعد جماعة الإخوان"، للباحث مارك لينش، استبعد فيها أن تختفي الجماعة في مصر من المشهد، لأنه "لا تزال هناك شبكات وحركات حيوية ومهمة مرتبطة بها موجودة على الأرض، رغم أن آلافا عدة من الجماعة مسجونون أو منفيون أو قتلى".

وأوضحت الدراسة أن "التجربة التاريخية تدلل على أن تلك الجماعة المنظمة الضخمة والمُتجذرة قادرة على التأقلم مع الصعوبات وتجديد نفسها، وأن الفشل المُحتمل لمنافسيها في تحقيق هيمنة سياسية أو في إيجاد أنظمة سياسية مستقرة، سيخلق لها منافذ واستهلالات جديدة".

والتقت نتائج الأبحاث والدراسات المتخصصة مع آراء العديد من الخبراء على أن مآلات المواجهة الأخيرة والحاسمة بين جماعة "الإخوان المسلمين" و"جمهورية الضباط" بعد هذا الصمود الأسطوري للأولى، قد يؤدي إلى تآكل شرعية النظام المصري وتهديد استقراره، دون أن يفلح في إلحاق الهزيمة بالجماعة، حتى لو أقدم على إعدام قادتها.