"سالمونيلا".. هكذا ساعدت الدولة المصرية في نشر ثقافة التحرش

12

طباعة

مشاركة

5 ملايين و800 ألف هو عدد المشاهدات التي حققتها أغنية "سالمونيلا" في مصر، والتي تدعو بكل صراحة إلى تعنيف النساء، في بلد صنفته دراسة لمؤسسة "تومسون رويترز" على أنه "أسوأ مكان في العالم العربي يمكن أن تعيش فيه المرأة". 

وحصدت الأغنية الثانية لصانع الإعلانات المصري تميم يونس، هذه المشاهدات خلال 5 أيام، فقط، وتصدرت "التريند" على موقع تويتر في مصر لأكثر من 24 ساعة عقب إطلاقها.

وما تزال الأغنية تعرض على يوتيوب رغم مواجهتها الكثير من الاعتراض على مواقع التواصل الاجتماعي، دون أن يصدر أي تعقيب بشأنها من نقابة الفنانين ولا من الجهات التي تتحكم في كل ما يعرض ويذاع. 

ترفض كلمات الأغنية أن تقول المرأة كلمة "لا" في وجه رجل يريد الارتباط بها، ولأن رفضها يجرح رجولته يبدأ صاحب الأغنية بالوعيد.

كان يمكن التغاضي عن "سالمونيلا" باعتبارها مجرد أغنية خلقت حالة من التفاعل ستمضي، لكن عند النظر إلى الرقم الذي يفيد بأن 99 بالمئة من النساء داخل مصر يتعرضن للتحرش، بحسب هيئة الأمم المتحدة للمرأة في 2013، فمن المهم البحث عن الأسباب. 

التطبيع مع التحرش

آخر حادثة شهدتها مصر، جرت في رأس السنة، بمدينة المنصورة، عندما تجرد 15 شابا من إنسانيتهم وهجموا على فتاة في حادثة تحرش جماعي ومحاولة اغتصاب، قبل أن تلقي الشرطة القبض عليهم. 

تزامنت الحادثة مع خروج أغنية تميم يونس، ليظهر دور الإعلام في التطبيع مع الفعل. لا يمكن لحركات المغني في الفيديو كليب إلا أن ترسخ هذه الثقافة في مجتمع ذكوري لا يجد البعض فيه حرجا في تعنيف المرأة. 

إلى جانب كلمات الوعيد في الأغنية، اختار المتخصص في الإعلانات - أي المدرك لدلالة الصورة ومدى وقع كل تفصيلة على المشاهد - أن يكون كل الكومبارس الذين ظهروا في الفيديو رجالا، في غرفة إضاءتها خافتة، قبل أن يظهر الدم على وجه المغني في آخر الكليب، وكلها إشارات على العنف. 

تميم يونس ليس الأول الذي دعا للعنف أو التحرش عبر الشاشة، فقد سبقه إلى ذلك عادل إمام بعشرات السنين، عن طريق مسرحيات أفلام لعل أبرزها "التجربة الدنماركية" الذي تقوم فكرته بالأساس على التحرش.

إضافة إلى مشهده في الحافلة مع يسرا في فيلم "ليلة شتاء دافئة"، وفيلم "أزواج طائشون" وأعمال أخرى، ففتح الباب أمام جيل جديد من السينمائيين يجدون أن إدراج هذا النوع من اللقطات يجعل العمل كوميديا. 

وفي دراسة أجرتها الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال، ظهر أن المراهقين الذين يتعرضون لمشاهد عنف جنسي هم الأكثر احتمالا لارتكابه. ووجد الباحثون أن أفلام هوليود عرضت مشاهد جنسية في الثمانينيات أكثر من أي وقت مضى، وهي الفترة نفسها التي ارتفع فيها معدل الاعتداءات الجنسية.

معاقبة الضحية

في 2014، غلظت السلطات المصرية عقوبة جريمة التحرش لتصل إلى الحبس 6 أشهر، وغرامة لا تقل عن 3 آلاف جنيه (نحو 170 دولارا)، ولا تزيد على 5 آلاف جنيه (نحو 280 دولارا).

لكن منظمة العفو الدولية رصدت في 2018 استمرار تفشي ظاهرة التحرش الجنسي، وأفادت بأن السلطات لم تتخذ سوى خطوات محدودة لمحاسبة المسؤولين عنه. 

ووضعت المنظمة يدها على أحد أوجه القصور الذي تمارسه الدولة في حق المشتكيات، وهو وعدم احترام النيابة ومراكز الشرطة لخصوصية الضحايا، ما يعرضهن إلى أفعال انتقامية من طرف المشتكى عليهم. 

وفي حالة نادرة رصدتها المنظمة في تقريرها، أصدرت إحدى المحاكم في سبتمبر/أيلول من نفس السنة، حكما بالسجن لمدة سنتين على رجل لأنه تحرش جنسيا بامرأتين.

لكنها في حالة أخرى قررت معاقبة الضحية بدل الجاني، إذ ألقت القبض على امرأتين، وهما منى المذبوح وأمل فتحي، بعدما تحدثتا عبر صفحتيهما على موقع "فيسبوك" ضد ظاهرة التحرش الجنسي. 

وحُكم على أمل فتحي، وهي مدافعة عن حقوق الإنسان، بالسجن سنتين وواجهت تهمة منفصلة، وهي "الانضمام لجماعة ارهابية". 

وحكمت إحدى المحاكم على السائحة اللبنانية منى المذبوح بالسجن ثماني سنوات، وخُفض الحكم لدى الاستئناف إلى الحبس لمدة سنة مع وقف التنفيذ، وأُفرج عنها في وقت لاحق من الشهر نفسه.   

من جهة أخرى اعتبر حقوقيون داخل مصر أن وزارة الداخلية "تتعايش مع الجريمة"، إذ لا يتم الالتفات لعشرات بلاغات التحرش المقدمة لجهاز الشرطة، وجهاز مكافحة العنف ضد المرأة لا يسعى إلى أي شراكات مع مؤسسات المجتمع المدني وباقي مؤسسات الدولة، بل يعتقد أنه وحده قادر على مكافحة الظاهرة.

ولعل الدليل على أن الجهاز يسير في الاتجاه الخطأ هو تصريح المسؤول عنه اللواء إيهاب مخلوف، الذي قال: إن السبيل لمواجهة الظاهرة هو "ابتعاد الفتيات عن الملابس الصارخة". 

خطايا النظام

عندما احًتشد الآلاف في ميدان التحرير في 30 يونيو/حزيران 2013 احتفالا بانتصار الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال عبدالفتاح السيسي، سجلت 44 حالة تحرش في الميدان والشوارع المجاورة له، بحسب مبادرات شبابية مصرية معنية بالظاهرة.

الحادث كان إشارة على دخول مصر إلى عهد جديد من انهيار القيم والأخلاق وانعدام الوازع الديني لدى الأفراد، خصوصا بعد أن هجّر شيوخ الدين وشوهت صورتهم، وذلك بسبب حسابات سياسية لم يعرها النظام أدنى أهمية لأخلاق الجيل المقبل. 

هذا الفعل أطلق عليه الدكتور والباحث أحمد المجدوب "خطايا النظام" التي بدأت مبكرا، حيث أنه في عهد عبد الناصر أهملت مادة الدين في المدارس عمدا، في سابقة لم تحدث في النظام التعليمي المصري، وربطها المفكر بشكل مباشر بتنامي ظاهرة العنف والانحراف الفكري الذي اكتسح المجتمع المصري والنظام الحاكم على حد سواء.

وفي الإطار نفسه، تحدث المجدوب، عن محاولات لمحاصرة الإسلام المعتدل الوسطي ممثلا في معاداة النظام لفكر الإخوان المسلمين بعد صبغِه بدوافع سياسية، وهي الاعتبارات التي ساقت النظام الحاكم في مصر لتكريس التعامل مع الدين باعتباره مادة مهمَّشة ساذجة وتافهة.

"تيار ديني تخديري"

يلقى اللوم دائما على لباس الفتاة عندما يطرح الحديث عن التحرش، وهذا يجعل الشاب راضيا عن فعله، بحسب عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الدكتور محمود القلعاوي، الذي قال: إن الانقلاب الذي تعرفه مصر منذ 2013 ليس عسكريا فقط بل انقلابا أخلاقيا أيضا ودينيا قبل كل شيء. 

واعتبر القلعاوي في حديث مع صحيفة "الاستقلال"، أن أولى مظاهر ذلك برزت عند إغلاق القنوات الدينية، التي كانت تعطي جرعة دينية تكون بمثابة السياج الإيماني.

وأوضح الأستاذ المتخصص في أصول الدين، أن الدروس التي كانت تعطى في المساجد ودروس تحفيظ القرآن، والتي منعت في مصر، لم تظهر أهميتها وتأثيرها سوى في الجيل الذي صعد بعد الانقلاب والذي يمثل الشباب الآن.

يظهر بين صفوف هذه الفئة أنها تعاني من اهتزاز المنظومة الدينية، ليس فقط عبر التحرش، بل يصل الأمر في حالات كثيرة رصدتها الإحصاءات إلى الإلحاد بسبب غياب ثقافة دينية يمكن الاستناد إليها والاطمئنان لها.

وأوضح القلعاوي أن التحرش هو أحد الظواهر التي طفت على السطح نتيجة غياب من كانوا ينشرون الجرعة الدينية، في حين يعيش رجال الدين التابعون لوزارة الأوقاف الذين يلقون الخطب في المساجد، انحسارا تاما، إذ لا يمكنه الخروج عن النص فوق المنبر، ما جعلهم يلخصون الخطب حتى أصبحت لا تحيط بأي من أمور الدين ولا الحياة للمصلين. 

وعبّر الأستاذ في شؤون الأسرة عن وجود انتكاسة في المجتمع المصري تمثلت في غياب الرادع، حتى أصبح المجتمع يعيش حالة من التغييب بسبب المخدرات الفكرية التي أصبحت تعطى للشعب.

وقال القلعاوي: إن من يتاح له الكلام الآن في مصر هو "التيار الديني التخديري"، الذي لا ينصح سوى بالسمع والطاعة لولاة الأمر والرضوخ التام حتى عندما يتعلق الأمر بظلم.