​​​​​​​على غرار الجيش في مصر.. كيف شيدت الشرطة إمبراطورية اقتصادية؟

أحمد يحيى | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

وفقا لأحكام المادة "206" من ديباجة الدستور المصري، فإن "الشرطة هيئة مدنية نظامية، فى خدمة الشعب، وولاؤها له، وتكفل للمواطنين الطمأنينة والأمن، وتسهر على حفظ النظام العام، والآداب العامة، وتلتزم بما يفرضه عليها الدستور والقانون من واجبات، واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وتكفل الدولة أداء أعضاء هيئة الشرطة لواجباتهم، وينظم القانون الضمانات الكفيلة بذلك".

الدستور لا توجد فيه كلمة واحدة عن حق الشرطة (وزارة الداخلية) فى تجارة الأراضي، أو ممارسة مهام السمسرة العقارية، أو الدخول إلى سوق السلع الغذائية، كما هو حالها مع منافذ "أمان" للتجارة التابعة لجهاز الشرطة.

ورغم أن ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، اندلعت بالأساس ضد ممارسات الشرطة القمعية، إلا أن تلك الأجهزة لم تخضع إلى مساءلة حقيقية أمام سلطات مدنية منتخبة ديمقراطيا كما كان مأمولا بعد الثورة.

لا تزال وزارة الداخلية تمتلك صناديق سيادية تكتنفها عمليات غموض محاطة بالسرية، وتحكمهما شبكات من الضباط الذين قاوموا الإصلاح الهادف والشفافية المالية والرقابة السياسية.

وكما أن القوات المسلحة المصرية تسيطر على مفاصل الدولة الاقتصادية فإن جهاز الشرطة أيضا يسعى لامتلاك حصة موازية، ما ساهم في تأزم أوضاع الاقتصاد المدني الذي تقوده الشركات الخاصة ورجال الأعمال والمستثمرين.

القطاع الأمني

دكتور يزيد صايغ، الباحث بمركز "كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط" نشر دراسة في 16 مارس/ آذار 2015، بعنوان "الفرصة الضائعة: السياسة وإصلاح الشرطة في مصر وتونس"، ذكر فيها أن عدد منتسبي القطاع الأمني يقدر بنحو مليون شخص عندما اندلعت انتفاضة العام 2011 (ثورة 25 يناير).

مضيفا "بينما تشير التقديرات الأكثر شيوعا إلى أنه كان يعد مابين 1.5 إلى 1.7 مليون شخص، بما في ذلك مايصل إلى 850 ألفا من رجال الشرطة وموظفي وزارة الداخلية، و30 - 100 ألف من عملاء جهاز مباحث أمن الدولة (الأمن الوطني)، وما يصل إلى 450 ألف مجند (قوات الأمن المركزي) شبه العسكرية، و300 - 400 ألف من المخبرين (المرشدين) الذين يحصلون على رواتب".

صايغ أكد أنه "عقب الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في 3 يوليو/ تموز 2013، قامت دولة بوليسية أشد قسوة في قمعها وأكثر هيمنة من الناحية السياسية بالمقارنة مع عهد مبارك، وذلك بإعادة بناء نفسها تحت سيادة الجيش".

 وشدد: "تبشّر القوانين الصارمة على نحو متزايد، والخطاب القومي الذي يتسم بالغلو، وتوسيع دور القطاع الأمني والقوات المسلحة في جميع جوانب الحياة المدنية، بمجيء نظام سياسي أكثر سلطوية يقوم على قبول مجتمعي أوسع بالممارسات القمعية التي يقوم بها الجهاز القسري للدولة". 

صناديق الفساد

في آخر حصر رسمي في فبراير/ شباط 2017، قالت وزارة المالية: إن "عدد الحسابات المفتوحة في البنك المركزي المصري للصناديق والحسابات الخاصة يبلغ 7306 حسابات، بالعملتين الأجنبية والمحلية، بإجمالي 66 مليار جنيه (7.5 مليار دولار) قبل التعويم".

في حين تشير التقارير والإحصاءات غير الرسمية إلى وجود أكثر من 10 آلاف صندوق وحساب خاص، وتزيد أرصدتها على تريليون و280 مليار جنيه (79 مليار دولار)، ولا تخضع جميع هذه الصناديق لوزارة المالية أو رقابة الجهاز المركزي للمحاسبات.

وفي أيلول/ سبتمبر 2014، قال رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات السابق، المستشار هشام جنينة (تم عزله وسجنه فيما بعد): "هناك رقابة منقوصة على بعض الجهات في الدولة، خاصة وزارة الداخلية. لديها أكثر من 60 صندوقا، والجهاز لا يستطيع فحصها جميعا باستثناء 5 صناديق فقط".

في 8 يوليو/ تموز 2012، نشرت صحيفة المصري اليوم، تقريرا تحت عنوان "صناديق الشرطة: فساد الحسابات الخاصة في وزارة الداخلية" قال: إن "الجهاز المركزي للمحاسبات أورد في تقاريره عن إيرادات واستخدامات الصناديق الخاصة عن العام المالي 2009/2010، 5 حسابات فقط تخص وزارة الداخلية".

تمثلت هذه الحسابات الخمس في: صندوق (مشروعات أراضى وزارة الداخلية)، الذي تبلغ إيراداته 568 مليون جنيه واستخداماته 384 مليون جنيه، وصندوق (تحسين الرعاية الاجتماعية والصحية لضباط الشرطة وأسرهم)، الذي تبلغ إيراداته 1.702 مليار جنيه واستخداماته 1.144 مليار جنيه.

بجانب صندوق (تطوير نظام الأحوال المدنية) الذي تبلغ إيراداته 368 مليون جنيه واستخداماته 165 مليون جنيه، وصندوق (تصنيع السجون)، الذي تبلغ إيراداته 36 مليون جنيه واستخداماته 25 مليون جنيه، وصندوق (تحسين الخدمة بمستشفى الشرطة)، الذي تبلغ إيراداته 353 مليون جنيه واستخداماته 338 مليون جنيه".

وفي 10 ديسمبر/ كانون الأول 2011، كشفت حركة "رقابيون ضد الفساد" أن وزارة الداخلية فتحت حسابين فى شكل صناديق خاصة بكل من البنك الأهلى وبنك مصر الأول برقم 909/57/1 والثانى برقم 5/00/964631/101".

وأشارت الحركة إلى أنها خاطبت إدارات المرور بسداد قيمة تأمينات لوحات السيارات لاستخدام الفائدة فى تطوير المعدات بإدارات وأقسام المرور وصرف حوافز للعاملين وفقا لما يراه وزير الداخلية، مؤكدة أن المبالغ التي أودعت في الحسابين تتجاوز 700 مليون جنيه.

وبناء عليه تقدم إبراهيم جبل، رئيس مجموعة مراجعة بالجهاز المركزي للمحاسبات سابقا، ورئيس حركة "رقابيون ضد الفساد"، ببلاغ للنائب العام، يتضمن مخالفات قانونية جسيمة ارتكبتها وزارة الداخلية وتم رصدها في تقرير للجهاز المركزي.

البلاغ تضمن ذكر "عدد من الصناديق الأخرى التابعة لوزارة الداخلية أغفلها الجهاز المركزي، وتزيد على 38 صندوقا، منها صندوق (التأمين الخاص لضباط الشرطة)، وصندوق (الولاء لضباط الأمن المركزي)، الذي تتبعه مخابز الشرطة والذي يعمل به جنود بالخدمة تتحمل الدولة كافة مخصصاتهم.

وأيضا صناديق (المرور) التي تودع بها أغلب متحصلات المرور، فضلا عن الحسابات الخاصة لشركة (الفتح) التي تقوم بأعمال وتوريدات وزارة الداخلية بالأمر المباشر، و(مركز صيانة السيارات) بطريق مصر الإسكندرية الصحراوي، وفنادق ونوادي الشرطة، وكل تلك الصناديق تعمل دون رقابة تذكر من الجهاز المركزي للمحاسبات، حسب البلاغ.

وشدد أنه "في ظل هذا السيل الهادر من الصناديق غير الخاضعة للرقابة، وصلت ميزانية الحسابات الخاصة بوزارة الداخلية إلى رقم فلكي: 120 مليار جنيه على مدى 12 عاما".

وأكد مقدم البلاغ أن "نسبة كبيرة منها استخدمتها قيادات الداخلية في الاستيلاء على المال العام من خلال فرض رسوم تم تجنيبها لصرف حوافز أو مكافآت للقيادات بالمخالفة للقوانين واللوائح". 

تجارة رائجة

في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2015، افتتح وزير الداخلية السابق اللواء مجدي عبدالغفار، المرحلة الأولى من مشروع منافذ "أمان للمنتجات الغذائية"، لتوفير السلع الغذائية الأساسية للمواطنين بأسعار مخفضة.

وبلغ عدد المنافذ المقامة 120 منفذا في كل المحافظات. ووجه وزير الداخلية حينها خلال الافتتاح، بسرعة الانتهاء من إنشاء المنافذ المستهدفة بنهاية ديسمبر/ كانون الأول 2015، والبالغ عددها 250 منفذا.

وقال عبد الغفار مبررا اقتحام جهاز الشرطة، لسوق السلع الغذائية: "الفكرة جاءت بغرض محاربة الغلاء وارتفاع أسعار السلع الغذائية والحد من جشع التجار، بالإضافة إلى مد جسور الثقة بين الشعب ورجال الشرطة".

المحاسب المصري عمرو عليان، مدير إحدى مكاتب المحاسبة والإستشارات المالية في القاهرة قال لـ"الاستقلال": "اقتحام وزارة الداخلية سوق السلع الغذائية، بجوار السيطرة الكاملة للقوات المسلحة، أضعف من القطاع الخاص، ومن القدرة الاستثمارية لرجال الأعمال، وصغار التجار، وتأثرت المتاجر الصغيرة والمتوسطة بتلك الإجراءات". 

وتساءل عليان: "هل توجد دولة في العالم تتحمل تلك (المهزلة)؟ هل رأينا في كل بلاد الدنيا، وزارة داخلية تعمل في التجارة، وسوق السلع الغذائية والاستهلاكية؟ حتى أيام مبارك، كانت الأمور لا تجري على هذا النحو المزري".

واختتم عليان حديثه: "اقتحام الأجهزة العسكرية والأمنية للقطاعات الاقتصادية لها نتائج شديدة السوء، أولها: هروب الاستثمار من البلد، ثانيا: خوف المستثمرين المصريين من الدخول بأموالهم في السوق، ثالثا: تدمير البنية الأساسية للأسواق القائمة على التجار والأيدي العاملة والموردين، وكل من يقتات من هذه العملية، لأن الأجهزة الأمنية لا تعتمد على تلك الآليات، وهو ما يفسر كذلك انخفاض الأسعار لديهم عن الأسواق العادية".

شركات متوحشة

في 21 سبتمبر/ أيلول 1998، وبقرار من وزير الداخلية وقتها حبيب العادلي تم إنشاء شركة "الفتح للتوريد والاستثمار"، والتي تعمل في مجال التجارة والعقارات.

الشركة التابعة لوزارة الداخلية مهمتها تأسيس أقسام للشرطة، وصالات ألعاب رياضية، واستراحات للوزارة بعدد من المحافظات، ومبان تتبع هيئات الأسلحة والذخيرة، وشرطة المسطحات المائية، ومبان للأحوال المدنية، ومشاريع إسكانية لوزارات أخرى.

من أبرز المشروعات التي أسندت للشركة الأمنية خلال السنوات الماضية، مشروع إعادة تأسيس نادي قضاة الإسكندرية، وبناء مدينة القضاة السكنية بمنطقة برج العرب غرب الإسكندرية، وهو أحد أكبر المشاريع التي تولتها الشركة بعد إرساء مناقصة المشروع عليها بالأمر المباشر من قبل المستشار أحمد الزند وزير العدل السابق، بتكلفة 100 مليون جنيه.

وفي عام 2000، تم إنشاء شركة "المستقبل للاستثمار والتوريدات العامة والخدمات"، تابعة لوزارة الداخلية برأس مال 30 مليون جنيه، وصل إلى 200 مليون جنيه عام 2014، وتم تصنيف الشركة ضمن الفئة الثانية في أعمال المباني المتكاملة طبقا لتصنيف الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء، والذي يتيح للشركة الاشتراك في المناقصات، والممارسات لتنفيذ أعمال مقاولات متكاملة حتي 69 مليون جنيه.

وتشير الشركة إلى أنها تعمل في مجال البترول من دون أن يعرف حجم نشاطها فيه، كما تعمل في التوريدات العامة كتجهيز المستشفيات الطبية، وأي قطاع يحتاج للتوريدات والتجهيز، كما تعمل الشركتان (الفتح والمستقبل) في العقارات وتستحوذان على مناقصات الدولة في المجال الأمني كتجديد بناء الأقسام الشرطية وبناء السجون.

في عام 2015 حصلت شركة "المستقبل" على مناقصات توريد مستلزمات جراحية، ومهمات لقوات حفظ السلام، وأجهزة كهربائية ومفروشات وأثاث وتجهيز الفنادق التابعة لوزارة الداخلية، كما نفذت بمشاريع لصالح جهات حكومية، على رأسها الهيئة العامة لسكك حديد مصر، وشركة السويس لتصنيع البترول، كما تستحوذ على جميع التوريدات المطلوبة لوزارة الداخلية.

ويعتبر قطاع العقود والتوريدات من أهم الأعمدة الرئيسية في الشركة، فهو المسئول عن إبرام العقود وبروتوكولات التعاون المشتركة مع الموردين والوكلاء التجاريين والعملاء داخل وخارج مصر، ويرأس القطاع اللواء أحمد محمد أبوصيري.

أراضي وعقارات 

في 19 يناير/ كانون الثاني 2019، صرح المهندس شريف الشربيني، رئيس جهاز تنمية مدينة الشروق، بأنه تمت الموافقة من قِبَل مجلس إدارة هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة على تخصيص قطعة أرض بمساحة (2700 م2)، والمبنى المنفذ بها بنشاط (مركز طبي) بمساحة (1050 متر)، بمركز خدمات (الجولف 1)، لصالح وزارة الداخلية بنظام نقل الأصول، وذلك في إطار توفير الخدمات الطبية بالمدينة.   

وفي 4 مايو/ آيار 2015، حققت نيابة الأموال العامة، فى استيلاء جمعية واحدة للضباط على 900 مليون جنيه، من خلال وزارة الإسكان. حيث قامت جمعية النخيل، التي أنشأها لواءات شرطة كجمعية تعاونية، بالحصول على أراض من وزارة الإسكان في القاهرة الجديدة لبناء سكن للضباط.

الجمعية قامت باستثمار تلك الأرض، سواء ببيعها أو بالدخول في شراكة من الباطن، مع رجال أعمال، ويعتبر مجمع النخيل التابع لجهاز مشروعات أراضي وزارة الداخلية من أهم المدن السكنية في التجمع الخامس، ويقع على مساحة (52.2 كيلو متر مربع)، وتتراوح أسعار الشقق فيه من مليون إلى 3 ملايين جنيه، والفيلات من 10 ملايين إلى 30 مليون جنيه.

على غرار الإمبراطورية الاقتصادية للقوات المسلحة، تعمل مطابع وزارة الداخلية التي تم تأسيسها عام 1988، ضمن منظومة الشرطة الاقتصادية، وتتولى طباعة تذاكر مباريات الدوري العام لكرة القدم.

كما أن مُجمع الشرطة لصيانة السيارات الذي تم تأسيسه في عام 2001 يعمل في مجال صيانة السيارات وبيع وتوريد قطع الغيار، فيما تتراوح أسعار حفلات الزفاف التي تقام في صالات دار مناسبات الشرطة بين 40 ألف جنيه، إلى 80 ألف جنيه. 

وتساهم تلك الشركات في تعظيم موارد وزارة الداخلية الاقتصادية التي تضم أرباح الشركات التابعة بها، والرسوم الإدارية المفروضة على المواطنين، إلى جانب مخصصاتها المالية في الموازنة العامة.