"ألو.. أخلِ فورا".. لماذا يكره فلسطينيو غزة هذا الاتصال؟

أحمد علي حسن | 4 years ago

12

طباعة

مشاركة

لا يعرف ماذا سيأخذ وكيف سيخرج؟ في هذه اللحظة يضيع ترتيب الأولويات بالنسبة للمواطن الغزي حين يتلقى اتصالا إسرائيليا فحواه: "أخلِ بيتك. سنقصفه خلال 10 دقائق".

هذه الدقائق العشر قد تكون كافية لعمل الكثير، لكنها في حسابات الفلسطيني المقيم في غزة لا تكفي أبدا لإخلاء منزله إثر بلاغ تهديد من جهاز المخابرات الإسرائيلي (الشاباك) تمهيدا لقصفه.

في لحظات ما قبل القصف يكون القلق قد هدم قلب الشخص المقرر منزله قبل أن يهدم بيته، بعد هذه الدقائق الثقيلة ستبدأ فصول من المعاناة والتشريد لا تُعرف نهايتها.

المسموح أخذه في هذه الدقائق -إن أسعف الوقت الأشخاص المستهدفة بيوتهم- الأوراق الثبوتية المهمة مثل شهادات الميلاد وجوازات السفر، والأغراض الثمينة كالذهب والأموال، حسب روايات متعددة تحدثت لـ "الاستقلال".

التحذير الأول

جهاز المخابرات الإسرائيلي ينتهج منذ ما يزيد عن 10 سنوات سياسة "ألو.. أخلِ بسرعة"، التي يسعى من خلالها إلى إخراج الأشخاص من منازلهم قبل قصفه بدقائق معدودة.

ويزعم الاحتلال الإسرائيلي أن سبب تدمير تلك المنازل يرجع إلى انتماء أحد أفرادها إلى فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، مستخدمة طائرات من طراز "أباتشي" وهيلكوبتر" و"إف 16".

هناك ادعاء آخر يكمن في أن بعض البيوت مقامة على أنفاق تستخدمها المقاومة في إطلاق الصواريخ باتجاه "إسرائيل" (الأراضي الفلسطينية المحتلة) خلال فترات التصعيد والحروب.

أي شخص يعيش في غزة أصبح على دراية بالآلية التي تسبق قصف المنزل، فالأمر لم يعد غريبا البتة، إذ لا يخلو شارع في القطاع من تجربة مريرة عاشها قبل وأثناء وبعد استهداف البيت.

ترسل إسرائيل ما تسميه "رسالة تحذيرية" إلى البيت المنوي قصفه، من خلال صاروخ أو اثنين، تطلقهما بشكل مباشر على المنزل عبر طائرات الاستطلاع (من دون طيار)، والمعروفة في غزة باسم "الزنانة".

القصف الأول التحذيري يسبقه اتصال من أرقام إسرائيلية، وقد تكون مجهولة أحيانا، يكون الطرف المتحدث فيها ضابط مخابرات يتكلم العربية بطلاقة، وبمخارج حروف أقرب لمتحديثها الأصليين.

حوار الثواني

يتأكد الضابط الإسرائيلي من أن متلقي الاتصال هو الشخص المستهدف بيته، وذلك من خلال طرح أسئلة ومعلومات يطابقها مع المتحدث الفلسطيني، من قبيل: "أنت فلان الفلاني؟ جارك فلان بن فلان؟ عدد أولادك كذا وكذا؟".

في الأساس يكون الضابط على دراية تامة بالإجابات المنتظرة، لكنه يريد التأكد من الشخص، فجهاز الاستخبارات الإسرائيلي على اطلاع كامل بتفاصيل تتعلق بالسجل المدني للمواطنين في غزة، ومواقع بيوتهم وأرقام هواتفهم.

في مرحلة ما بعد التأكد وانتهاء الأسئلة، يطلب من المستهدف إخلاء بيته في مدة تتراوح بين 5 و10 دقائق، دون فتح المجال للطرف الفلسطيني بأن يساوم على الوقت أملا في الحصول على دقائق أطول.

قبل أن ينهي الضابط مكالمته الأولى يذكر الفلسطيني بأنه سيعاود الاتصال به مرة أخرى، قبل القصف بدقيقتين أو ثلاثة، حتى يتأكد من أن البيت قد أخلي تماما.

المنزل المستهدف ومحيطه من البيوت الأخرى يجري التواصل معهم بالتزامن، لإجبارهم على اتباع نفس الخطوة التي ينفذها صاحب البيت المقرر قصفه بعد دقائق.

عندما تنتهي المهلة، تشن طائرات من طراز "إف 16" غاراتها على المنزل بشكل مباشر، وبعد أن ينقشع الغبار، يكون البيت قد سُوُّي بالأرض تماما، تاركا وراءه ذكريات وآلام.

ليست مزحة

في غمرة التوتر المسيطر على دقائق ما قبل القصف، ربما ينسى الهاربون إلى الحياة أشياء لا تخطر على البال، كالأولاد مثلا، وهو ما حدث مع المواطن حمادة أبو عمرة.

أبو عمرة الذي يقيم في حي "القرارة" بمدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، تلقى اتصالا هاتفيا من ضابط إسرائيلي عند الساعة الحادية عشرة من مساء 16 ديسمبر/كانون الأول 2019.

في حديث أحد أبناء العائلة روى تفاصيل ما حدث معهم في تلك الليلة المريرة، التي قضاها أكثر من 20 شخصا وجيرانهم في ظلام دامس لم يسترهم فيه سوى ظل السماء.

ويقول المتحدث: "هاتفني ضابط إسرائيلي يعرف اسمي كاملا، وقال: سنقصف بيتك بعد قليل"، طالبا منه أن يوقظ أولاده ومن في البيت وجميع جيرانه وإبلاغهم بالإخلاء.

بعد هذا الطلب، وفي اللحظة الأولى من الاتصال، طلب الضابط من المواطن أن يبقى متصلا وأن لا يقفل الخط، مهددا إياه بـ "مجزرة"، واستطرد: "بعد أن تخلص من ولادك اذهب إلى جيرانك وكل الأشخاص من حولك، وذكرهم بالاسم".

لم يصدق الرجل ما دار في المكالمة، فتعب 30 عاما سيتبخر بعد دقائق قليلة. سألته مترددا: "هل تمزح؟ هل أنت ضابط إسرائيلي فعلا؟" أجاب الأخير: "أنا من الجيش الإسرائيلي، وأتكلم بجدية. اذهب ونفّذ".

ترجى "أبو عمرة" الضابط بإخراج سيارته من مرآب البيت الذي سيصبح دمارا بعد قليل، وافق الأخير على مضض، فزاد المواطن الغزي من طلباته لكنه قوبل بالرفض القاطع.

"نسيت ابني"

أغلق الطرف الإسرائيلي الخط. أما الفلسطيني فبدأ بتنفيذ الأمر قبل أن يتجدد الاتصال بعد دقيقتين بأمر جديد: "خذ عائلتك وجيرانك وسيروا بعيدا عن المنزل. سنقصفه بصاروخ تحذيري بعد 10 دقائق".

سار الجمع الفلسطيني وفق مسافة حددها الضابط، وعاود الاتصال به بينما كان بعيدا عن المنزل قائلا: "سنقصه الآن"، وقبل أن يقفل الخط، صرخ "أبو عمرة": "انتظر انتظر.. ابني الصغير نائم في البيت. لقد نسيته".

"أمهلني دقيقتين. رجعت بالسيارة سريعا أخذته وانصرفت، عاود الاتصال مرة أخرى وقال لي: لا ترجع إلى البيت مطلقا، سنقصفه الآن بالحمل الثقيل"، يضيف المواطن الغزي.

الحمل الثقيل كان يقصد به الضابط كمية كبيرة من الصواريخ التي نزلت على المنزل فأصبح ركاما بعد بضع دقائق، ولم يتبق منه سوى ذكريات 30 عاما قضاها "أبو عمرة" في جمع المال لبنائه.

البيت كان مكونا من 4 شقق سكنية ويقطن فيه 30 فردا من العائلة، هم الآن يعيشون في خيمة أقامها متطوعون أمام المنزل المهدم، لا تستر ولا تحمي من برد الشتاء القارس.

سيناريو متكرر

القصة التي حدثت مع "أبو عمرة" عاشها المئات من الفلسطينيين في غزة، وتحديدا في الحرب الأخيرة التي شنها الجيش الإسرائيلي على غزة في صيف 2014 واستمرت 51 يوما.

صاحب هذه القصة فلسطيني يدعى "فادي عبد الهادي"، والذي تحدث لـ "الاستقلال" حول المكالمة التي دارت بينه وبين ضابط المخابرات الإسرائيلي أواخر شهر أغسطس/آب من عام 2014.

في ساعات الفجر الأولى من ذاك اليوم، قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية منزل أحد جيران عائلة "عبدالهادي"، وبالتزامن مع ذلك رن هاتف شقيق "فادي" فانتابه شعور بالخوف ولم يرد.

مع حلول الظهيرة، عاود الرقم الاتصال مجددا، وهذه المرة أجاب "عبد الهادي" على الهاتف، وكان من المتوقع جدا أن يكون المتصل ضابطا إسرائيليا.

مفاوضات الوقت

أعرب "فادي" عن دهشة أصابته عندما سمع اللهجة التي يتحدث بها الطرف الإسرائيلي، "كانت لهجة كتلك التي أتحدث بها مع أصدقائي وأهلي. لغة عربية سليمة. لا ألفاظ مكسرة ولا أخطاء، من المستحيل أن يكون إسرائيليا".

كانت أولى الكلمات التي قالها: "معك 5 دقايق لتخلي البيت. بدنا نقصفه"، رد الفلسطيني: "ربع ساعة؟" كنوع من التفاوض على الوقت وكسب الزمن، فالدقيقة هنا تنقذ حياة أحدهم، كما يقول.

جميع من كانوا حوله أثناء المخابرة فهموا ما يجري من تعابير وجهه، وعلموا ما عليهم فعله، فبدأوا بالركض وإخراج الأطفال، كما أن "فادي" أغلق الهاتف وبدأ بالصراخ: "اطلعوا من البيت. رح يقصفوه. انزلوا بسرعة".

حالة من الذعر والاستنفار والفوضى والتخبط، سيطرت كلها مجتمعة على الأجواء، فلم يكن يفكر أصحاب المنزل سوى بالنجاة من هذه المصيبة قبل انتهاء الأحلام التي عاشوها في المبنى الذي سيسوى بالأرض بعد بضع دقائق.

بعد خروجهم جميعا من البيت، عاود الضابط الاتصال بـ"فادي"، وسأله بكل هدوء: "أخليتم البيت؟"، فأجاب نعم قبل أن يزد الطلب بإخبار الجيران بأن يخلوا منازلهم أيضا.

ويقول "فادي": "لا يكتفي الاحتلال بالتدمير والقصف، بل يشنون أيضا حربا نفسية على الفلسطينيين، فهذه الدقائق مليئة بمشاعر الخوف والقلق والتوتر مصحوبة بالانتظار".

بالفعل تم قصف المنزل بصاروخ "تحذيري"، وهنا تأهب الجميع بمن فيهم رجال الطوارئ والطواقم الطبية والصحافة، والذين اجتمعوا بسرعة قبيل تنفيذ الحدث الأكبر، وبعد دقائق قليلة انتهى كل شيء.

واستكمالا للحرب النفسية، كما يقول "فادي"، لم يدمر الاحتلال المنزل بالكامل، وهذا يعني أن صاحب البيت سيضطر لهدمه بيده تمهيدا لإعادة بنائه لاحقا.

أكثر أمانا

في أغسطس/آب 2018، شنت الطائرات الحربية الإسرائيلية بشكل مفاجئ، غارات متلاحقة على مركز المسحال الثقافي غربي مدينة غزة، والذي كان محاطا بعشرات المنازل.

المواطنة "رشا فرحات" كانت واحدة من المقيمين في محيط المركز، وتقول: إن أحد أفراد عائلتها تلقى اتصالا من الجيش الإسرائيلي مفاده "أخلِ بيتك فورا".

الاتصال جاء بعد قصف المركز الثقافي بسبعة صواريخ، ولم تفكر عائلة "رشا" بالخروج من البيت "لأنه يبعد مسافة طويلة عن المكان المستهدف".

وتضيف "رشا" لـ "الاستقلال": "جاءت المكالمة قبيل آخر صاروخ إسرائيلي وكانت فحواها مطالبة بالخروج من البيت فورا دون جدال أو نقاش".

الاستجابة للاتصال كانت خوفا على حياة الأطفال، وجاء خروج العائلة بنفس اللحظة التي أطلق فيها الصاروخ الأخير على المبنى، أي أن الإخلاء تزامن مع سقوط الشظايا في الشارع.

وتؤكد "فرحات" أن البقاء في المنزل كان أكثر أمانا من الخروج، "لأن مخلفات القصف كانت ستصيب أي شخص في الشارع، بما في ذلك الأطفال الذين لم يجدوا ما يحتمون به".