هذه أساليب البشير في مواجهة الاحتجاجات الشعبية

أحمد مدكور | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

سياسات عدة اعتمدها الرئيس السوداني، عمر البشير، بهدف تحصين نفسه ونظامه، إزاء المواجهات الدامية والاحتجاجات العارمة، التي تعج بها المدن السودانية، منذ 19 ديسمبر/ كانون الأول 2018.

السياسات في مجملها تدور حول مناورات مختلفة للبشير، ما بين الشد والجذب والتهديد والوعيد، وإخراج قرارات حملت في ظاهرها طابع التغيير، والتضحية بالحكومة وبعض وجهاء السلطة، وإحلال وتجديد في بنية الأجهزة الرسمية للدولة، وحزب "المؤتمر" الحاكم، مرورا بالإطاحة بحكام الولايات، وإقرار ولاة عسكريين.

كما أعاد البشير هيكلة القيادة العامة للجيش؛ عبر إقالة بعض القادة وكبار الضباط، وتعيين وزير الدفاع، عوض محمد أحمد بن عوف، كنائب أول للرئيس مع احتفاظه بمنصبه، وبعدها بأيام نقل البشير سلطاته كزعيم لحزب "المؤتمر الوطني" الحاكم إلى نائبه المعيّن حديثا، أحمد محمد هارون.

خطاب 22 فبراير.. البشير يلقي ما في جعبته

بعد اجتماع دام ساعات لقيادات حزب "المؤتمر" الحاكم بالسودان، خرج الرئيس عمر البشير، في خطاب تاريخي من القصر الجمهوري، يوم 22 فبراير/ شباط 2019، صاغ من خلاله سياسة جديدة للمرحلة الحرجة لنظامه، الذي يشهد احتجاجات هي الأعنف منذ ولايته قبل ثلاثة عقود.

وأعلن البشير، في نهاية الخطاب حزمة قرارات، تمثلت في فرض حالة الطوارئ على جميع أنحاء البلاد لمدة عام، وحلّ الحكومة المركزية، وحكومات الولايات، والنظر في دور القوات المسلحة كضامن وحام للحوار.

 

خطاب عمر البشير بتاريخ 22 فبراير/شباط 2019

تلك الإجراءات قابلها تجمع "المهنيين السودانيين"، الذي يقود المظاهرات في البلاد ويدعو إليها، بالرفض المطلق، مؤكدا على مطلبه "بالتنحي الفوري لنظام الرئيس عمر البشير، وتسليم السلطة لحكومة قومية مدنية انتقالية"، معلنا في بيانه "بأن أية محاولة للالتفاف على مطالب الشعب؛ لن تجد منا سوى مزيد من الفعل الثوري السلمي في الشوارع".

وعقب خطاب البشير شهدت عدة أحياء في العاصمة السودانية الخرطوم ومناطق أخرى مظاهرات احتجاجية، واندلع الحراك في عدة أحياء في جنوب وشرق الخرطوم بجانب أحياء في مدينة أم درمان غرب العاصمة، فضلا عن أحياء بمدينة بحري شمال الخرطوم.

وأعرب المتظاهرون عن رفضهم لقرارات البشير، ورددوا هتافات تطالب بإسقاط النظام، وقد تدخلت الشرطة السودانية وقامت بتفريق التظاهرات مستخدمة الغاز المسيل للدموع.

الطوارئ.. سلاح تقليدي للأنظمة مختلف في يد البشير

الطوارئ في السودان ليست بالأمر الجديد، فولايات دارفور الخمس، وشمال وغرب كردفان، والنيل الأزرق، وجنوب كردفان، وكسلا، في حالة طوارئ مستمرة منذ فترة طويلة، بسبب الحروب والجماعات المتمردة وعدم الاستقرار.

في حين جاء قرار البشير ليعمم الحالة على سائر المدن والمحافظات السودانية، في صورة أشبه بالأحكام العرفية. ففي 27 فبراير/ شباط 2019، أصدر الرئيس السوداني عمر البشير قراره بتشكيل نيابات ومحاكم طوارئ في جميع أنحاء البلاد، وهي الآلية التي عملت سريعا في مواجهة رافضي النظام من الجماهير.

وأصدرت محاكم الطوارئ في السودان أحكاما بالسجن لفترات تراوحت بين ستة أشهر وخمس سنوات بحق ثمانية أشخاص؛ بتهمة المشاركة في تظاهرات محظورة بموجب حالة الطوارئ التي أعلنها الرئيس بمناسبة حراكهم.

وفي بيان لتحالف "المحامين الديمقراطيين" قال فيه: "مثُل أمام محكمة الطوارئ في أم درمان 400 مواطن بتهمة المشاركة في الاحتجاجات، كما مثُل 400 أمام محاكم طوارئ بالخرطوم و70 أمام محاكم طوارئ بحري وأعداد كبيرة منهم تمت تبرئتهم، وعشرات المتهمين صدرت ضدهم أحكام بدفع غرامات مالية، والبعض بالسجن لفترات تتراوح ما بين أسبوعين وشهر".

وقبل ذلك بأيام، أصدر البشير إجراءات تمهيدية، منح بموجبها صلاحيات واسعة لقوات الأمن النظامية، وحظر في سياقها التجمع والإضراب والمواكب والتجمهر، مع إعطاء حصانات لتلك القوات، لدخول أي مبانٍ وتفتيشها، وتفتيش الأشخاص، والرقابة على أي ممتلكات ومنشآت، والحجز على الأموال والمحال والسلع والأشياء التي يشتبه بأنها موضع مخالفة للقانون.

كما فوّض حظر أو تنظيم حركة الأشخاص أو نشاطهم أو حركة الأشياء، أو وسائل النقل والاتصال في أي منطقة أو زمان، مع اعتقال الأشخاص الذين يشتبه في إثارتهم للشغب والتمرد.

مظاهرات من المدن السودانية فيما عرف بموكب الرحيل

وهو الأمر الذي رفضته قطاعات من الشعب السوداني، وأعلنت القوى المعارضة وعلى رأسها تجمع "المهنيين السودانيين" إدانتها لتلك الإجراءات، وواصلت دعوتها الشعبية بالنزول إلى المظاهرات.

تغريدة تجمع المهنيين السودانيين لرفض طوارىء البشير

الجيش في يد البشير.. تشكيلات تتجاوز الأبعاد الميدانية

في 26 فبراير/شباط 2019، أصدر البشير قرارات بتعيينات وتغييرات واسعة في بنية قيادة القوات المسلحة السودانية، فعبر مراسيم جمهورية استحدث منصب "وزير الدولة" بوزارة الدفاع، وعين له الفريق أول مراقب جوّي ركن، عصام الدين مبارك حبيب الله.

وقام كذلك بإجراء تعديل في رئاسة الأركان المشتركة، حيث تولى الفريق أول ركن كمال عبد المعروف الماحي بشير رئاسة الأركان المشتركة، والفريق أول ركن هاشم عبد المطلب أحمد بابكر نائبا لرئيس الأركان المشتركة، والفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن البرهان مفتشا عاما للقوات المسلحة.

وتولى الفريق طيار ركن صلاح عبد الخالق سعيد رئاسة أركان القوى الجوية، والفريق الركن محمد عثمان الحسين رئيسا لأركان القوات البرية، والفريق بحري ركن عبد الله المطري الفرضي رئيسا لأركان القوات البحرية.

العسكريون يقبضون على الولايات السودانية

بعد خطابه يوم 22 فبراير/شباط 2019، أصدر عمر البشير مراسيم جمهورية بحلّ مجلس الوزراء القومي وإعفاء ولاة ولايات وحلّ الحكومة، وتعيين ستة وزراء اتحاديين و18 واليا ينتمون إلى الجيش والشرطة والأمن؛ لتسيير أعمال الحكومة.

ولاة الولايات السودانية الجدد يؤدون القسم أمام البشير

وزيادة في النسق العسكري الذي اعتمده البشير لضبط أوضاع حكمه، قام بتعيين وزير الدفاع عوض محمد أحمد بن عوف نائبا أول للرئيس مع احتفاظه بمنصبه. ولابن عوف تاريخ طويل في الدوائر العسكرية والاستخباراتية السودانية، وكانت لجنة تقصي حقائق تابعة للأمم المتحدة حول الأوضاع في دارفور عام 2005، قد وضعت اسمه ضمن قائمة المسؤولين عن تدهور الوضع هناك، كما قامت واشنطن بوضعه في قائمة سوداء بسبب ما زعمت أنه دوره كقائد للاستخبارات العسكرية والأمن بالجيش خلال الصراع في دارفور.

تصريحات وزير الدفاع عقب لقائه بالبشير في 27 فبراير/شباط 2019

ونشرت مجلة "ذا إيكونوميست" البريطانية تقريرا عن قرارات وإجراءات الرئيس السوداني عمر البشير الأخيرة، وقالت من خلاله: "إن ميزان القوة تغير، فمنذ سيطرته على السلطة في انقلاب عام 1989، حكم من خلال تحالف مع الإسلاميين، الذين يرفض الكثير منهم حكمه الآن، وبحلّه الحكومة فإنه قام بتعزيز دور الجيش في عملية وقائية منه لمنع الإطاحة به، ويسيطر على الحكومة الجديدة تكنوقراط وجنرالات، وتم استبدال حكام الولايات كلهم بعسكريين ورجال في مؤسسة الأمن".

قوش.. يد البشير الضاربة

صلاح قوش هو مدير جهاز الأمن والمخابرات السوداني، الذي استدعاه البشير إلى ذلك المنصب إبان اندلاع المظاهرات والاحتجاجات؛ لثقته في قدرته على مواجهة الأزمة، وتعامله مع العقبات الكبيرة الذي يواجهها نظامه، وهو ما بدا في التصريحات الأخيرة لقوش عندما قال: "إن الشرعية تتمثل في الدستور الموجود والقانون والبرلمان، وغير ذلك لا مكان له"، وتأكيده بأن "أي مبادرة سياسية طرحت في الساحة لحل مشاكل الوضع الحالي تخرج عن الشرعية القائمة الآن، لا مكان لها".

وكان صلاح قوش قد نبّه البشير حين دعاه للسيطرة على الحزب قائلا: "إنني أرى مظاهر ليست خافية على كل مراقب، منها أن الشريحة النافذة فيه توقفت عن الحضور السياسي والثقافي، فلا هم أموات سيدفنون، ولا هم أحياء سيبدعون، فهم بين بين، لا يودون أن يخسروا شيئاً، ولذا فإنهم لن يكسبوا شيئاً. والسيد الرئيس الذي يدعو إلى النهضة عليه أن يبدأ أولاً من تحت قدميه بالحزب الحاكم ومكتبه القيادي ودوره وأذرع مؤسسته وعقله المفكر ليصل إلى مبتغاه".

ويعمل جهاز المخابرات ضمن منظومة أمنية تسعى بكل قوتها إلى قمع المظاهرات الحالية، ومنذ بدايتها سقطت أعداد من الضحايا، وبحسب السلطات السودانية، قتل 31 شخصا منذ بدء التظاهرات في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2018، لكن منظمة "هيومن رايتس ووتش" أكدت أن العدد وصل إلى 51 شخصا من بينهم أطفال وأفراد طواقم طبية.
وأشارت المنظمة الدولية إلى اعتقال المئات في حملة قمع واسعة تشنها قوات الأمن ضد المحتجين وزعماء المعارضة والنشطاء والصحفيين.

مقطع يوضح قمع قوات الأمن للمظاهرات في حي الملازمين بأم درمان

البشير رجل المتناقضات..  لا يناور في الداخل فقط

على الصعيد الدولي، استطاع الرئيس السوداني عمر البشير أن يجمع المتناقضات في علاقاته الخارجية، ويجعل من نفسه محور إجماع وتوافق بين الفرقاء الإقليميين المتناحرين. فخلال زيارته للعاصمة القطرية الدوحة في 22 يناير/ كانون الثاني 2019، أكد الأمير تميم بن حمد آل ثان حرص بلاده على دعم واستقرار السودان.

جانب من زيارة الرئيس السوداني عمر البشير للدوحة

وجاءت السعودية -الخصم المناهض لقطر إقليميا- لتؤكد في 29 يناير/ كانون الثاني دعمها الكامل لسلطات السودان، رافضة المساس بأمنه واستقراره.

بعدها أعلن رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي، الذي شهدت فترة ولايته خلافات مع السودان، دعمه الكامل لأمن واستقرار السودان الأساسيين لأمنها الوطني.

وفي الوقت نفسه يتمتع البشير بعلاقات جيدة بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي زار الخرطوم في ديسمبر/ كانون الأول 2018، في أول زيارة من نوعها لرئيس تركي، وجرى الاتفاق على زيادة حجم التجارة بين البلدين إلى عشرة مليارات دولار، ومنح البشير أنقرة موطئ قدم في جزيرة "سواكن" ذات الموقع الإستراتيجي في البحر الأحمر.

استقبال البشير لأردوغان في العاصمة السودانية الخرطوم

ويسعى البشير إلى تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة بعرض التعاون الأمني، لكنه يخطب في نفس الوقت ود روسيا، وقد أقر المتحدث باسم الكرملين بوجود "مدربين" روس إلى جانب القوات الحكومية في السودان،

وكان نائب وزير الخارجية الروسي لشؤون أفريقيا والشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، قد أفاد في وقت سابق أنّ "مدربَين خاصين وحكوميين" موجودان في السودان للقيام بمهمات "تدريب"، بحسب ما نقلت عنه وكالة "إنترفاكس" الروسية.