رسائل غاضبة تكشف عن حجم الألم.. كيف يحيا أهالي المعتقلين بمصر؟

أحمد يحيى | 4 years ago

"أنتم تدمرون مصائر أسر وزوجات وأمهات وأطفال، ليس لهم أي ذنب في هذه الدنيا غير حبهم للبلد"، جزء صغير من رسالة غاضبة، مفعمة بالبكاء، بثتها الدكتورة فاطمة مراد، زوجة المعتقل السياسي شادي الغزالي حرب معبرة عن حقبة شديدة الظلمة تعيشها مصر.

نظام قمعي بلا رحمة ولا قلب، لم يهتز له جفن وهو يعتقل أب وأم ليترك أطفالهما بلا عائل، حدث هذا مع الطفلتين "همس (9 سنوات) وهيا (7 سنوات)" بعد أن اعتقل والديهما حسن القباني وآية علاء، وأيضا الطفل "خالد (5 سنوات)" الذي فجأة وجد نفسه وحيدا في هذه الدنيا بعد حبس والديه حسام الصياد، وسولافة مجدي.

الألم النفسي للمعتقلين قد تجسده كلمات كتبها عبد الرحمن عبد الحميد الصيدلي الذي حكم عليه بالسجن 5 سنوات يقضيها في سجن المنيا (جنوب) قائلا: "لست أخاف من ذاك الظلام، أخاف أن يظلم قلبي، فتنفصل الروح عن الجسد.. رفيقي سأقاتل من أجل روحي!".

أما مآسي عائلات المعتقلين الذين يمثلون الوجه الآخر للمعاناة خارج أسوار السجون في معارك الحياة القاسية، فلا تكفي مئات الكتب والمجلدات ولا آلاف الرسائل الدامية أو القصص المبكية كي تعبر عنها.

قلوب تحترق

في 9 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وعبر صفحتها الشخصية على فيسبوك، بعثت الدكتورة فاطمة مراد، زوجة المعتقل السياسي شادي الغزالي حرب، برسالة مخاطبة نظام عبد الفتاح السيسي قائلة: "أنتم تدمرون  مصائر أسر وزوجات وأمهات وأطفال، ليس لهم أي ذنب في هذه الدنيا غير حبهم للبلد".

وأضافت: "إلى متى سيبقى وضع مصر على هذه الحال.. وهل يعقل أن يستمر بنفس الطريقة، سواء البلد أو المعتقلين أو ذويهم؟. مين متخيل إن الدنيا تستقم له، إنت متخيل إنه محدش عارف يوصلك (السيسي)، لأ ربنا فوق".

وتابعت: "لو احنا ساكتين ربنا فوق، ودعواتنا وكل قلب محروق وكل دمعة نزلت من كل واحد فينا زوجة أو أم أو ابن أو ابنة أو معتقل مرمي على الأرض، ستدفعون ثمنه واحدا واحدا. كل من اشترك في هذه الجريمة سيدفع الثمن، جريمة تجريف البلد، وبيعها، وتجويعها، وتجهيلها، وإمراضها، وإفقارها".

وفي مايو/أيار 2018 تم القبض على الناشط السياسي شادي الغزالي حرب، والمدون والصحفي محمد رضوان صاحب مدونة "أكسجين" الشهيرة، والحقوقيين سيد البنا وأحمد أبو علم، وطبيب الأسنان وليد شوقي، وإخفاؤهم قسريا، حتى ظهروا في نيابة أمن الدولة بعد فترة.

النيابة وجهت لهم حزمة من الاتهامات على رأسها "الانضمام إلى جماعة إرهابية، واستخدام موقع على شبكة المعلومات الدولية بغرض الترويج لأفكار ومعتقدات داعية لارتكاب أعمال إرهابية، وإذاعة أخبار وشائعات كاذبة من شأنها تكدير الأمن العام والإضرار بالمصلحة العامة، ومحاولة قلب نظام الحكم".

أطفال المعتقلين 

"همس وهيا" طفلتان في مقتبل العمر، اعتقل والداهما الصحفيان حسن القباني وآية علاء، من قبل النظام الأمني القمعي في مصر، ليضربا بحياتهما الخالية من الأب والأم معا أكبر مثال على مرحلة الطفولة غير النبيلة التي يعيشها عوائل بعض الأسر في عهد ديكتاتور مستبد قدم إلى منصة الحكم على ظهر دبابة.

في 4 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، نقل المحامي الحقوقي خالد علي، رسالة عن الصحفي المعتقل حسن القباني، يوصي فيها برعاية طفلتيه الصغيرتين (همس، وهيا)، حتى يخرج من محبسه هو وزوجته الصحفية آية علاء، المعتقلة أيضا.

ونشر خالد علي، عبر حسابه على فيسبوك: "النهار ده قابلت حسن القباني في نيابة أمن الدولة. قال لي عايز (أريد) أحمّلك رسالة تقولها لكل الناس: (بناتي أمانة في رقبتكم، حافظوا عليهم لحد ما أخرج أنا وأمهم من السجن، وربنا يرفع عنا هذا الظلم)".

ويوم 2 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، احتفلت الطفلة همس القباني، التي أتمت عامها التاسع، بعيد ميلادها في غياب والديها للمرة الأولى. وذلك بعدما قضت أعياد ميلاد عدة بدون والدها، ولكن هذه المرة بدون الأب والأم معا.

وفي أيلول/ سبتمبر الماضي، أعادت قوات الأمن اعتقال القباني أثناء حضوره جلسة تجديد التدابير الاحترازية، وجاء اعتقاله بعد 3 أشهر من اعتقال زوجته آية علاء، التي قبض عليها أثناء تقديمها واجب العزاء لزوجة الرئيس الراحل محمد مرسي.

ومنذ إعلان حبس الأم، لاقت صورة انتظار طفلتيها، همس وهيا لوالدتهما أمام مقر نيابة أمن الدولة العليا تضامنا وانتشارا بمنصات التواصل، إذ تكرر ذلك الانتظار مرتين في عمر الطفلتين أمام جهات قضائية بمصر.

كانت أجهزة الأمن قد ألقت القبض على القباني للمرة الأولى في 22 يناير/كانون الثاني 2015، ووجهت إليه النيابة تهم "الاشتراك في جريمة التخابر مع من يعملون لمصلحة دولة أجنبية، والانقلاب على الدستور والنظام الجمهوري والانضمام إلى جماعة أسست على خلاف القانون".

القباني وهو صحفي متخصص في الشأن القضائي، وعضو نقابة الصحفيين اختفى قسريا لعدة أيام، بعد اعتقاله وتعذيبه في مقار أمن الدولة قبل إيداعه سجن العقرب شديد الحراسة.

الطفلتان همس، وهيا آثناء انتظار زيارة والديهما حسن القباني

الطفل خالد

ليس فقط "همس وهيا"، بل أيضا الطفل "خالد"، الذي فجأة وجد نفسه وحيدا في هذه الدنيا بعد حبس والديه حسام الصياد، وسولافة مجدي بشكل مفاجئ على ذمة قضية أمن دولة، لا يعي الطفل كنهها ولا طبيعتها، لكن كل ما يدركه هو ألم البعد عن والديه.

في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وجهت نيابة أمن الدولة العليا، لكل من الصحفية سولافة مجدي، وزوجها حسام الصياد، والصحفي محمد صلاح، المحبوسين على ذمة القضية رقم 488 لسنة 2019، اتهامات بمشاركة جماعة إرهابية، ونشر أخبار كاذبة من شأنها الإضرار بالأمن العام، وذلك بعد أن قررت حبسهم لمدة 15 يوما على ذمة التحقيقات. 

وقال مدير الشبكة العربية ومحامي المتهمين جمال عيد، في اتصال مع الحرة: "حسام الصياد ومحمد صلاح متهمان بالانضمام لجماعة محظورة، وسلافة مجدي متهمة بمشاركة جماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة". 

وأضاف: "تم الاعتداء على سولافة مجدي، وطلب محامو الشبكة العربية عرضها على الطب الشرعي، وإثبات واقعة استعمال القسوة، والاحتجاز بمكان غير قانوني. تم الاستيلاء على سياراتهم وموبايلاتهم (الثلاثة)، لكن ذلك لم يثبت في المحضر".

وباعتقال حسام وزوجته سولافة، أصبح ابنهم الصغير والوحيد خالد، وحيدا خائفا يترقب، لتنشر سندس مجدي، شقيقة سولافة، رسالة كتبها خالد لوالدته، وعلقت عليها قائلة: "لسه خالد ابن سولافة ميعرفش حاجة، قولناله إن مامته وباباه مسافرين، الولد بقاله يومين بيسأل جدته عليهم ومستغرب لأنه حتى سولافة لما بتسافر بتفضل تكلمه على مدار اليوم 100 مرة تليفون وفيديو، ومن شوية كان بيرسم ويلون، لقيته جايبلي الورقة دي وبيقولي صوريها وابعتيها لماما".

وأضافت: "خالد لسه مش فاهم في إيه بس حاسس إن فيه حاجة غلط، وامبارح بالليل قال لماما (يا تيتة أنا خايف ما تيجي نقوم نقفل الباب بالمفتاح)".

وذكرت: "أنا مش عارفة لغاية دلوقتي إيه الجريمة اللي عملتها أختي وجوزها عشان يتاخدوا كده من حضن ابنهم ويقعد الولد كل ده من غير أبوه وأمه واحنا حتى مش عارفين هما ممكن يخرجوا إمتى!".

واختتمت: "ادعو لسولافة وحسام إن ربنا يرجعهم لحضن ابنهم قريبا بالسلامة، وادعو لخالد إن ربنا يهون الأيام دي عليه، يارب اقف معانا احنا مالناش غيرك".

وفي 30 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، عادت سندس مجدي مرة أخرى لتكتب عن تطور حالة خالد، لتقول: "خالد امبارح بالليل تعب جدا بسبب الحساسية، وجارة ماما النهار ده الصبح أخدته المستشفى عملوله جلسة تنفس".

وأردفت: "أول مرة خالد يتعب وسولافة متكونش موجوده جنبه.. أول مرة يروح للدكتور أو المستشفى لوحده من غير أمه وأبوه، من غير ما سولافة ما تأخذه في حضنها، وحسام يسهر جنبه يكلمه ويطمنه".

وقالت مصادر إعلامية، وحقوقية: أن سبب اعتقال حسام وزوجته، يرجع إلى علاقتهما بالصحفية إسراء عبد الفتاح التي كانت أحد الوجوه البارزة لثورة يناير 2011.

رسالة بخط الطفل خالد إلى والدته سولافة مجدي

تهديد بالاغتصاب

قبل أن يحكم عليها بالسجن 15 عاما في قضية اغتيال النائب العام المصري السابق هشام بركات، وفي 17 سبتمبر/أيلول 2016، أكدت  الطبيبة بسمة رفعت، أنها اعترفت بالاشتراك في الواقعة تحت التهديد بالاغتصاب وقتل زوجها من قبل ضباط الأمن الوطني (جهاز استخبارات داخلي تابع لوزارة الداخلية).

وأضافت خلال جلسة القضية، أنه تم اقتيادها إلى مكان غير معلوم، وهناك تعرضت للتعذيب بطرق عديدة من بينها صعق جسدها بالكهرباء.

وفي 5 فبراير/ شباط 2017، وجهت الطبيبة بسمة، رسالتها إلى التحالف الوطني لحماية المرأة بالقانون (غير حكومي)، وجمعية رعاية أطفال السجينات (أهلية)، لدعوتهما للتحرك الحقوقي للإفراج عنها.

وجاء في الرسالة: "أنا بسمة رفعت، طبيبة مصرية، ماجستير في الأمراض الروماتيزمية والمفاصل، لدي طفلان يبلغان من العمر الآن بالترتيب 5 سنوات ونصف، وعامين تقريبا! تم القبض علي منذ عام تقريبا في 6|3|2016، أنا وزوجي".

وأضافت: "تم إلصاق تهمة موتورة لا أساس لها من الصحة وهي معروفة طبعا، الانتماء إلى الإخوان، تهمة بلا دليل ولا أحراز، فقط لكوني أعرف طبيبا من الإخوان زميلا لي في نفس التخصص، التقيت به مرتين فقط في حياتي في إحدى المؤتمرات العلمية، وهو متهم رئيسي في تلك القضية التي تمّ الزج بي أنا وزوجي فيها، وهي القضية 314/ لسنة 2016 (قضية النائب العام).

وقالت الطبيبة في رسالتها: "قبض علي وحبست احتياطيا، وكان طفلي يبلغ 14 شهرا فقط، وفطمته من الرضاعة فطاما قهريا؛ مما سبّب لي ولطفلي مشاكل صحية ونفسية أعاني منها حتى الآن"، مضيفة: "أنا وزوجي محبوسان في نفس القضية، ومن باب أولى إخلاء سبيل أحدنا؛ لأنه حبس احتياطي".

وطالبت الطبيبة المعتقلة بأن تعود لتمارس عملها كطبيبة قائلة: "كنت أساهم في المجتمع بشكل فاعل ومؤثر، فلست خطرا على الأمن القومي، ولم أُخرب منشآت، ولا تظاهرت بدون ترخيص، ولم أشارك في إراقة دماء، وتهمتي ليس لها علاقة بمسرح أحداث القضية، وهي أصلا تهمة باطلة".

رسالة بخط يد الطبيبة المعتقلة بسمة رفعت

نظام متوحش

الباحث المصري حسين رضا قال لـ"الاستقلال": "الفترة الأخيرة شهدت توحشا إضافيا للنظام المصري، باعتقاله عائلات بأكملها، وهي ظاهرة ليست جديدة منذ الانقلاب العسكري في 3 يوليو/ تموز 2013، لكنها استفحلت مؤخرا، وأصعب نتائج تلك الحالات، ما يقع على الأطفال تحديدا، فالمردود النفسي، والتربوي على الطفل، نتيجة تلك الفترة في غاية السوء، ويصاحبه لفترات طويلة من حياته بعد ذلك".

وأكد رضا: "أن اعتقال رب الأسرة بشكل خاص، يخلق ضغوطا لا حصر لها على المرأة، فهي التي تتحمل المسؤولية النفسية والمادية، ومتطلبات الأطفال بداية من المأكل والمشرب والملبس والتعليم، رصدنا العديد من الأسر التي حدث لها تراجع حاد في المستوى الاجتماعي، بعد أن كانت في مستوى مرتفع، نتيجة اعتقال الأب، وهو ما تسبب في انهيار نفسي شديد للزوجة والأبناء". 

وأردف: "كنت أتواصل مع أسرة أحد المعتقلين، وقالت إن (أولادها يعانون في مدارسهم، نتيجة أن إدارة المدرسة مسيسة، وتدين بالولاء للسيسي، فيقومون باضطهاد الأطفال، والوصول إلى حد معايرتهم أن والدهم رهن الاعتقال، كما يسلطون زملاءهم لمضايقتهم بنفس الطريقة، حتى أصبح ذهاب الأولاد إلى المدارس نوع من العقاب)". 

ويعلق رضا: "هذه واحدة من مشكلات كثيرة، فزيارة المعتقل في حد ذاتها بالنسبة للأسرة والعائلة أزمة حقيقية، وتضيف المزيد من الأعباء المادية، والنفسية، وتم رصد وفاة العديد من أقارب المعتقلين، أثناء الزيارة، نتيجة حوادث الطرق أو المشقة الناجمة من الإجراءات التعسفية، التي لا يتحملها كبار السن على وجه التحديد".

واختتم الباحث كلامه: "هناك مسألة أخرى ناجمة عن الاعتقال، لا يتم التطرق إليها كثيرا، وهي فترة ما بعد الاعتقال أيضا، ومعاناة الأسر فيها، لأن كثير من المعتقلين، يعانون من العزلة الشعورية، والنفسية عن المجتمع، ويحتاجون إلى إعادة تأهيل لدمجهم مرة أخرى في الحياة، فالأثر المالي والصحي والعاطفي والنفسي للاعتقال يظل حاضرا، لذلك فمن المهم أن تكون قضية المعتقلين، الذي يصل عددهم إلى عشرات الآلاف، حاضرة، ويجب أن يجدوا الدعم بكل معانيه، وعلى أعلى مستوياته.