أوبريت "ملاك السلام".. هل يمحو 15 عاما من قمع عباس لمعارضيه؟

خالد كريزم | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"ملاك السلام"، أوبريت موسيقي أعدته قناة "فلسطين" الحكومية، لتمجيد رئيس السلطة محمود عباس (أبو مازن)، بعد أن أثبت فعلا أنه "حمامة تعايش" مع مناطق "ج" التي تقع تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، و"رجل قمعي" في أراضي "أ" التي يتحكم بها.

وأثار الأوبريت الذي تبلغ مدته 10 دقائق، غضب شريحة واسعة من الفلسطينيين الذين انتقدوا "التبجيل الأعمى والمُفرط" لعباس، وتناقض ما جاء فيه من كلمات مع سياسته تجاه معارضيه.

ونتيجة للمعدل الكبير من التفاعل السلبي مع الأوبريت، أقدمت إدارة منصة "يوتيوب" على حذف الفيديو، قبل أن يعاود تلفزيون فلسطين نشره مجددا، ليظهر مرة أخرى أن نحو 90% ممن شاهدوه أبدوا عدم إعجابهم به عبر أيقونة "لم يعجبني".

عنوان الأوبريت مقتبس من لقب أطلقه بابا الفاتيكان فرانسيس عام 2015 على عباس، حيث قال له: "أعتقد أنك ملاك للسلام، وهذا الملاك يطرد الأرواح الشريرة للحرب".

وأعلن الفاتيكان وقتها أن اللقاء "الودي" في القصر الباباوي دار حول عملية السلام مع إسرائيل والأمل في استئناف المفاوضات المباشرة بين الجانبين مرة أخرى من أجل التوصل إلى حل "صحيح ومستدام" للصراع.

رحلة السلام

وبالحديث عن رحلته مع السلام، لا بد من العودة إلى صفد، المدينة التي ولد فيها محمود رضا عباس عام 1935، والتي تخلى عن العودة إليها لاحقا، معتبرا أن فلسطين هي حدود 1967، رغم أنه من لاجئي 1948 الذين جرى ترحيلهم إلى سوريا.

بدأ عباس المحادثات السرية مع الإسرائيليين من خلال وسطاء هولنديين عام 1989 ونسق لعقد مؤتمر مدريد 1991، وأشرف على المفاوضات التي أدت إلى اتفاقات أوسلو 1993، كما قاد المفاوضات التي جرت في القاهرة ونتج عنها ما يعرف باتفاق غزة - أريحا 1994 الذي تضمن "اتخاذ الطرفين الإجراءات الضرورية لمنع الإرهاب والأعمال العدائية الموجهة ضد بعضهما".

اختير عباس رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية خلفا للرئيس ياسر عرفات بعد وفاته في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2004، ورشحته حركة فتح في نفس الشهر لرئاسة السلطة.

نجح عباس في انتخابات الرئاسة مطلع 2005، بعد أن حصل على 62.52% من الأصوات، ومنذ ذلك الحين بدأ بقمع كل أصوات المعارضة، حتى أنه دعا في 2007 لقتل كل مقاوم يحمل السلاح، بعد أحداث الانقسام الفلسطيني، والاشتباكات الدامية بين كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس، والأجهزة الأمنية الفلسطينية، ومقاتلين من حركة فتح.

دعواته المتكررة لوقف العمليات العسكرية الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وضرورة التوصل لاتفاق سلام مع تل أبيب، أفقدته الكثير من الشعبية في صفوف الفلسطينيين، بمن فيهم أنصار حركة "فتح"، العمود الفقري للسلطة الفلسطينية، حتى نعته البعض بـ"ملاك الاستسلام".

وجاء عرض الأوبريت قبل انتخابات شاملة في فلسطين، حيث قال عباس مساء الإثنين 9 ديسمبر/كانون الأول الجاري: إننا "ذاهبون إلى الانتخابات بعد أن وافقت عليها جميع التنظيمات، وبدأنا فعلا مساعينا مع الفصائل الفلسطينية، وباشرت لجنة الانتخابات برئاسة حنا ناصر عملها".

وأظهر آخر استطلاع رأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية برام الله، أن 61 بالمئة من المستطلعة آراؤهم يريدون استقالة محمود عباس، موضحا في الاستطلاع المنشور بتاريخ 17 سبتمبر/أيلول 2019 أن "نسبة المطالبة باستقالة عباس بلغت في الضفة الغربية 55 %، وفي قطاع غزة 73 %".

وانتهت ولاية عباس الرئاسية دستوريا في 9 يناير/كانون الثاني 2009 لكنه ظل في منصبه، متخذا من الانقسام الداخلي ذريعة للبقاء.

قمع المعارضة

وفي مقابل السلام الذي ينتهجه عباس مع "إسرائيل"، سجلت لجنة أهالي المعتقلين السياسيين أكثر من 4 آلاف انتهاك للأجهزة الأمنية في الضفة الغربية خلال عام 2018، منها 1251 اعتقالا سياسيا و949 استدعاء للتحقيق وأكثر من 400 احتجاز، إضافة إلى مداهمات المنازل وقمع الحريات وقطع رواتب موظفين.

وأضافت اللجنة في آخر إحصائية شاملة نشرتها بداية يناير/كانون الثاني الماضي، أن الاعتقالات السياسية بالضفة، طالت نحو 800 أسير محرر من سجون الاحتلال. وهذه الحملات تعرف بسياسة "الباب الدوار"، حيث تعتقل السلطة أغلب المُفرج عنهم من سجون الاحتلال الإسرائيلي، ضمن ما يُعرف بالتعاون والتنسيق الأمني.

ووفقا للجنة أهالي المعتقلين، فإن غالب الاتهامات تدور حول ذم السلطة أو المشاركة في أنشطة للكتلة الإسلامية في الجامعات وبفعاليات استقبال الأسرى المحررين ورفع رايات حركة حماس، كما يحاكم بعضهم بتهمة "مقاومة الاحتلال"، وهو ما يؤكد أنها "اعتقالات سياسية".

وعن أشكال القمع التي تمارسها السلطة، يقول المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان: إنها تتمثل بداية "في الاعتقال التعسفي والاستدعاءات المتكررة وحرمان المعارضين من حقهم بالالتقاء بمحاميهم، والتحقيق معهم لساعات طويلة يتخللها اعتداء بالضرب وتوجيه الشتائم والإهانات وتهديد المعارض وعائلته".

وتضيف نداء نبيل منسقة الإعلام لدى المرصد لـ"الاستقلال" أن من بين الانتهاكات أيضا "طول إجراءات التقاضي وتعمد تأجيل جلسات المحاكمة لفترات متباعدة، مع استمرار اعتقال الناشطين والمعارضين، بالإضافة لتهديد الموظفين منهم بقطع رواتبهم وفصلهم من الخدمة، كل ذلك يتعرض له أي صوت يعارض ممارسات السلطة أو ينتقد سلوكياتها".

ولا توجد أرقام دقيقة لأعداد المعتقلين السياسيين في الضفة الغربية نظرا لتكرار حالات الاعتقال والإفراج عن المعتقلين لأكثر من مرة في فترات زمنية متقاربة، لكن ما نتج عن رصد ومتابعة تلك الاعتقالات تبين أن أعداد المعتقلين تجاوز الـ100 ناشط، منهم من جرت محاكمته وآخرون ما زالوا موقوفين ويتم التحقيق معهم إلى هذه اللحظة، وفق نداء نبيل.

قانون الجرائم

الناشط الفلسطيني علي قراقع الذي سافر أخيرا لإكمال دراسته بالخارج، أحد الأشخاص الذين تعرضوا للتهديد المستمر والاستدعاء للتحقيق في الضفة الغربية، وجرى منعه من السفر في أول محاولة له، بسبب نشاطه على وسائل التواصل الاجتماعي.

يقول قراقع لـ"الاستقلال": "كانت تروادني تساؤلات دائمة عن إمكانية عودتي إلى الضفة بعد 5 سنوات بالخارج، لكن حجم القمع والاعتقالات بسبب حرية الرأي واستهداف الصحفيين والناشطين، يدفعك للتفكير كثيرا قبل العودة".

المخابرات الفلسطينية تمنع المدوّن الساخر علي قراقع من السفر

وتطرق قراقع إلى قانون "مكافحة الجرائم الإلكترونية" الذي تستطيع السلطة من خلاله اعتقال أي شخص معارض وإدانته بطريقة "قانونية"، حتى قضى "مقر المقاطعة" في رام الله على أي شكل من أشكال المعارضة.

وتعلق نداء نبيل على هذا القانون بالقول: "ما وصلت إليه حالة حرية الرأي والتعبير في الضفة الغربية يؤشر على استخدام السلطة لقانون الجرائم كغطاء شرعي لممارسة انتهاكاتها بحق المعارضين تحت مسمى مخالفة قواعد حرية إبداء الرأي وتهديد استقرار المجتمع".

ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار عدم وجود تظاهرات معارضة أو آراء تنتقد السلطة مؤشرا لحالة الاستقرار في الضفة، بل على العكس من ذلك، فإن حالة حرية الرأي والتعبير في تراجع مستمر وما يثبت ذلك أعداد المعتقلين والملاحقين من الناشطين والصحفيين، وفق المتحدثة في الأورومتوسطي.

أروقة الفساد

وأكبر معضلة حالية من وجهة نظر علي قراقع، هي عدم وجود حراك حقيقي بالاتجاه المعاكس لوقف هذا القمع، مؤكدا أنها لا تنال من المعارضين فحسب، بل تمتد لتشمل أشخاصا في السلطة نفسها، كتبوا عن سلوك السلطة، أو توجهوا لهيئة مكافحة الفساد، وجرى اعتقالهم والتحقيق معهم، أو تجنبوا الحديث خوفا من القمع.

واستدل على ذلك بخروج وزير سابق في حكومة رامي الحمدالله السابقة، للحديث عن الفساد، بعد 4 سنوات من استقالته. ويقول قراقع: "هو لم يكن يستطيع الحديث حينما كان وزيرا، هذا دليل على حجم القمع، نحن نعيش تحت نظام ديكتاتوري قمعي، ما عنا دولة ولا نظام".

وفتح الوزير شوقي العيسة النار على السلطة الفلسطينية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، متهما شخصيات كبيرة فيها بالفساد والمحسوبية أثناء عملهم داخل أروقة الحكومة بالضفة الغربية المحتلة. وكان قال في وقت سابق: إن هناك جيشا من الفاسدين الكبار المعروفين على مستوى الوطن في أماكنهم ومواقعهم الحساسة.

وتعد هذه المرة الثالثة التي يوضح فيها العيسة بعض ما يجري داخل السلطة بالضفة عقب تأكيده قبل أسابيع أن وزراء حكومة الحمد الله السابقة زادت رواتبهم نحو الضعف في ظل أزمة خانقة تعيشها السلطة، وحديثه عن ملف "بدل السفر في مهمة"، الذي قال: إنه يثقل كاهل الميزانية وفيه كثير من التحايل.

ووسط الفساد المستشري وزيادة رواتب الوزراء، ينفذ عباس سلسلة من العقوبات على قطاع غزة، من خلال قطع رواتب الآلاف من الموظفين غير المنتمين لحركة "فتح".

ووصل عدد المقطوعة رواتبهم إلى ما يزيد عن 5 آلاف موظف مدني وعسكري في غزة فضلا عن مئات آخرين من الأسرى والمحررين والجرحى وذوى عوائل الشهداء، بحسب إحصاءات غير رسمية، وذلك في إطار تشديد الإجراءات العقابية التي اتخذها عباس في أبريل/نيسان 2017 تحت ذريعة استعادة قطاع غزة وإنهاء حكم حماس فيه، وسط تفاقم أزماته وتردي الأوضاع الاقتصادية والإنسانية فيه.

أزمات مالية

وفي ظل هذه الأوضاع المتردية، أثار أوبريت "ملاك السلام" غضب الفلسطينيين، حيث قالت مصادر محلية: إنه كلف خزينة السلطة نحو 200 ألف دولار.

وحذر البنك الدولي بتقرير له في سبتمبر/أيلول 2019 من أن السلطة الفلسطينية تواجه أزمة سيولة خانقة بسبب فجوة تمويلية تزيد عن 1,8 مليار دولار ناجمة عن تراجع المعونات الأجنبية وخسارتها قسما كبيرا من أموال الضرائب والرسوم التي تجبيها إسرائيل لحسابها.

وأوضح التقرير أن "هذه الفجوة التمويلية أجبرت السلطة على مراكمة الديون من المصارف المحلية، وزيادة متأخرات الموظفين والموردين وصندوق التقاعد العام، مما خلق تحديات ضخمة للاقتصاد بشأن السيولة".

وقال خالد سكر، المدير العام لتلفزيون فلسطين، في لقاء خاص بثه التلفزيون مع مجموعة من المشاركين في الأوبريت: إن الوزير أحمد عساف المشرف العام على الإعلام الرسمي، لم يبخل على هذا العمل الفني، في خضم الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية.

وتواصلت "الاستقلال" مع خالد سكر وأحمد عساف، للتأكد من حقيقة المبلغ الذي صُرف على "الأوبريت"، لكنهما تجنبا الرد، كما اتصلت الصحيفة بأحد المسؤولين في حركة "فتح" للتعليق على الغضب الشعبي تجاه العمل الفني، فقال: "فتح ليست مخولة بالحديث في هذا الموضوع، وليس من اختصاصها".

انتقادات وإشادات

انتقد الناشط والمحامي عامر حمدان تصريحات "سكر" قائلا: "وكأنه يدفع من جيبه!"، (يقصد عساف). وأضاف: "بقي أن تقول إنه تبرع بسخاء عن أرواح أمواته. نقودنا تصرف بلا رقيب ولا حسيب".

وبعدها بأيام قليلة، طردت الأجهزة الأمنية التابعة لسلطة رام الله، حمدان، من مؤتمر لمكافحة الفساد دون أسباب تذكر. ونشر الناشط، فيديو يتحدث فيه عن تفاصيل ما حدث خلال المؤتمر رغم أنه مدعو بشكل رسمي من قبل رئيس المؤسسة، فيما يعتقد أن السبب يعود لانتقاده الأوبريت.

بدوره، بث نجم ستاند أب كوميدي، علاء أبو دياب، المعروف بنقده الدائم لسياسات السلطة الفلسطينية، فيديو عبر "فيسبوك"، تحدث فيه بإسهاب عن الإعلام الرسمي، وضعفه الشديد في تناول القضايا التي تهم المواطن وتدافع عن حقوقه، مبينا أن "السبيل لرفع شعبية الرئيس يكمن في إغلاق تلفزيون فلسطين".

وانتقد المؤرخ والروائي الفلسطيني أسامة الأشقر الأوبريت، وقال في مقال: "كل كلمة في أوبريت ملاك السلام مدفوعة الثمن سياسيا أو ماليا، كلمات فخمة تفخر بزعيم مصنوع لا يقدر على شيء تحت قدميه، وهي كلمات تعود بنا إلى نمط التكسب بالأدب المذموم في سيرة التاريخ".

وقال آخر: إن "ملاك السلام فيها مقاطع تتعارض مع برنامج الرئيس وتأكيده على النضال السياسي والمقاومة الشعبية السلمية، مثال: انفُض غُبار العابرين لقد دنا فجرُ الخلاص، في كفّك غُصنُ السّلام وبكفّك الأخرى رصاص!!".

في حين أصدر عدد من الكتاب والمثقفين والسياسيين الفلسطينيين نداء عبروا فيه عن رفضهم للأوبريت. وجاء فيه: "بعد بدعة كتاب -قدوتنا رئيسنا-، الذي تم سحبه من التداول، وقصة -فوضناك- التي تؤكد خواء وتكلس حركتنا الوطنية، وضعف مبناها الديمقراطي، فوجئنا بما أطلق عليه اسم أوبريت -ملاك السلام-، وما تشي به من قيم تزلّف ونفاق وعبادة الفرد".

وتابع النداء الذي وقع عليه أكثر من 55 شخصا: "هذه القيم غريبة عن قيم الثورة الفلسطينية، التي قامت على إعلاء المشاركة والتطوع وقيم المساواة والحرية والعدالة، وتشجيع روح النقد والاستفسار والمحاسبة الموضوعية، والانتماء للمصلحة الوطنية والتضحية من أجلها".

وأكد المشاركون في النداء "أن شعبا من أبنائه إدوارد سعيد، ومحمود درويش، وغسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا، وناجي العلي وغيرهم كثر، ينفر بشدة من هكذا إسفاف وتهافت، ما ينم عن محاولة لوأد قيم التحرر والمساواة، وتحويل الوطنية الفلسطينية إلى مراسيم همها تمجيد السلطة الفردية والديكتاتورية التي نشاهد منها كثيرا من الأشكال في منطقتنا والعالم".

وطالب الموقعون بسحب الأغنية من التداول، والاعتذار عن عرضها في القنوات الرسمية، و"وقف نهج تصنيم الأفراد وحرف الثقافة الفلسطينية عن نهجها الديمقراطي التقدمي".

في المقابل، دافع البعض عن الأوبريت وأشادوا بـ"جهود الرئيس عباس في إحلال السلام"، مؤكدين أن تلفزيون فلسطين يمثل صوت الشعب.

وقال رائد علي: "بس للأمانة.. الأوبريت مرتب ومتعوب عليه"، فيما انتقد ماهر حسين من أسماهم "ثوار وسائل التواصل الاجتماعي الأبطال جدا، مبينا أنهم ينتقدون العمل الفني من أجل اللايكات.

أما خالد سليمان، الذي يعمل في مفوضية الإعلام والثقافة التابعة لحركة فتح، فانتقد من وصفهم بأنهم "يكيلون بمكيالين"، لأنهم يهاجمون العمل الفني "من منطلقات غير مهنية".