هل تنطلق الانتفاضة الثالثة من باب الرحمة؟

عبدالله معروف | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

لم يكن الحدث الذي حصل صباح الأحد 17 فبراير/ شباط الماضي كبيراً في شكله العام! أو هكذا كان كثير من أركان شرطة الاحتلال الإسرائيلي يظن عندما وضعت السلاسل الحديدية على البوابات الخارجية لمصلى باب الرحمة، الباب الأموي الذي لم يعد باباً منذ أكثر من ثمانية قرون. وكانت سلطات الاحتلال قد اعتبرته منسياً على مدى 16 عاماً من الإغلاق الكامل في وجه المسلمين بعد حل لجنة التراث الإسلامي، التي كانت تشغل المكان مدة عشر سنوات.

الحدث في شكله لم يكن كبيراً، أو هكذا ظن البعض، لكنه ضرب وتراً في غاية الحساسية لدى المقدسيين، فقد أشعل غضباً مكتوماً عارماً كان عنوانه الحفاظ على المسجد الأقصى المبارك الذي انتهكت هيبته وتآكلت شيئاً فشيئاً، بعد أن باتت قطعان المستوطنين تسرح وتمرح فيه دون حسيب. وبحراسة شرطة الاحتلال التي صارت تتعامل مع المنطقة الشرقية من الأقصى باعتبارها ملكية كاملة، حتى صارت تعتقل أي مسلم يمشي فيها أو يشعر جماعات المتطرفين التي تقتحم المكان بالانزعاج! 

أذكر أنه مع توافد المقدسيين بكثافة على المكان وبدء الاعتصامات والاضطرابات، ظهر اسم (هبَّة باب الرحمة)، وبدأ الناس بتناقله. لكن البعض صار يسخر في بعض وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي من هذه التسمية واعتبروا أنه مجرد حلم وخيال لا يمت للواقع بصلة.

لكن، فوجئ الجميع برد الفعل المقدسي في جمعة فتح مصلى الرحمة، وكان مشهد الجموع الغاضبة وهي تدخل المصلى بالتكبير ملهماً للكثيرين، حتى من كان منهم بالأمس يسخر من الحدث ويعتبره زوبعة مصطنعةً في فنجان.

بات مصلى باب الرحمة أمراً واقعاً حقيقياً لا يملك أحد إغلاقه في وجه الشعب، وكان العنوان الأبرز لاكتمال افتتاح المصلى إعلان دائرة الأوقاف الإسلامية بتاريخ 25 فبراير/ شباط تعيين إمام راتبٍ لمصلى باب الرحمة كما هو الحال في قبة الصخرة المشرفة والجامع القبلي.

هنا ظن الكثيرون أن الهبة اكتملت بهذا الشكل السريع الخاطف، باتخاذ هذه الخطوات الإجرائية العملية من قبل مجلس الأوقاف. ولكن لم ينتبه الكتاب والمفكرون إلى حقيقة أن ما حدث في ذلك الأسبوع كان مفتاحاً وبدايةً لتطورات بدأت تأخذ شكل كرة الثلج المتدحرجة التي باتت تكبر يومياً. وذلك لسبب بسيط؛ هو وجود الاحتلال وجماعات المعبد المتطرفة التي لا يمكن أن يتخيل عاقل أنها ستسلِّم للواقع بهذه البساطة وتهدم كل ما فعلته في سنوات، كما قال أحد متطرفيهم على صفحته على موقع "فيسبوك": (كل ما بنيناه في ثلاث سنوات تم هدمه في يوم واحد). 

واهمٌ من ظن أن كرة الثلج توقفت، فقد عقد ما يسمى (اتحاد منظمات جبل المعبد) اجتماعاً طارئاً بعد ظهر الأحد 3 مارس/ آذار، اتخذ فيه عدة قرارات على مستوى عالٍ من الخطورة، منها إعلان تنظيم اقتحام عام للمسجد الأقصى يوم الخميس 14 مارس/ آذار، بهدف السيطرة بالقوة على مصلى باب الرحمة، بالإضافة إلى فعاليات تحاول الاستفادة من مناخ الانتخابات النيابية في دولة الاحتلال.

وبالرغم من أن وسائل الإعلام سلطت الضوء بقوة على موضوع الاقتحام المزمع يوم الخميس، إلا أني لم ألتفت كثيراً لهذا الأمر؛ وذلك لأن هذه الجماعات لا تتمتع بالقوة العددية التي تؤهلها للوقوف في وجه المد الشعبي الإسلامي الجارف في القدس، فالمسلمون الذين يحيطون بالمسجد الأقصى في البلدة القديمة وحدهم يتجاوز عددهم 35 ألفاً، بينما أثبتت التجارب – خاصةً بعد انتهاء هبة باب الأسباط عام 2017 – أن هذه الجماعات لا تملك القدرة لحشد أكثر من 2500 شخص على أعلى تقدير.

ولا ننسى كيف أعلنت تلك الجماعات نيتها إدخال 5000 متطرفٍ إلى المسجد الأقصى في بداية أغسطس/ آب عام 2017، رداً على نجاح المسلمين في إسقاط مشروع البوابات الإلكترونية ومشروع السيطرة على باب حطة (أحد أبواب المسجد الأقصى المبارك)، فكانت النتيجة أنها لم تتمكن من حشد أكثر من 1800 شخص، بما فيهم من اقتحم المسجد مرتين أو ثلاثة لتكثير الإحصاءات.

وهذا ما جعل هذه الجماعات تحتاط في المرات التالية وتعلن أكبر سقف لها وهو 2000 شخص، بحيث تظهر منتصرةً عندما يدخل هذا العدد، بينما هو في الحقيقة طاقتها الاستيعابية الحقيقية. إلا أن ما لفت نظري في نتائج هذا الاجتماع كان مسألة أخرى أشد خطراً في نظري.

فقد ذكر بيان الاتحاد أن منظمات المتطرفين المعنية بالاقتحامات أعلنت مطلباً جديداً من الحكومة الصهيونية، وهو ما سموه "إخراج الأوقاف الإسلامية في القدس عن القانون الإسرائيلي، واعتبارها منظمةً محظورة". هذا البند في نظري يمكن أن يكون الأخطر على الإطلاق مما ورد في بيان نتائج هذا الاتحاد. فهذه الخطوة إن تمت فإنها ستكون إعلاناً رسمياً للقطيعة مع الأردن، وإعلاناً لحرب شعواء على كل ما يمثله مجلس الأوقاف الإسلامي ودائرة الأوقاف الإسلامية من سيادة إسلامية معترفٍ بها قانونياً ودولياً على جميع المقدسات الإسلامية في القدس.

قد يقول قائل إن انجرار بنيامين نتنياهو وراء هذا المطلب المجنون ضربٌ من الخيال، وهذا ما أتفق معه جزئياً، فالحكمة والعقل تقتضي أن لا يصطدم نتنياهو بهذا الشكل المفضوح والعلني بالأردن التي تملك أطول حدود مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. حيث يمكن للأردن أن تفتح على دولة الاحتلال أبواباً من المتاعب والبلايا كان إغلاقها –بمعاهدة السلام– أحد أهم الإنجازات التي يتمسك بها العقلاء في دولة الاحتلال الإسرائيلي، خاصة مع ما تلقاه من حالة عدم استقرار نسبي على الجبهتين الجنوبية والشمالية. لكن نقول: العقل والحكمة هو الذي يقتضي أن لا يفتح نتنياهو على نفسه جبهةً جديدةً! أما في حال غياب العقل ، فإن موازين أخرى تحكم هذه الدولة.

قد يكون نتنياهو –المحكوم بنزعةٍ نرجسية– أقل حذراً فيما يتعلق بالوضع في القدس، وربما كان ذلك بسبب ثقته في صديقه جيرد كوشنر الذي نجح فيما فشل فيه كل من سبقه، حين جرّ والد زوجته، دونالد ترامب، لإعلان القدس عاصمةً لدولة الاحتلال ونقل سفارته إليها. وكان نتنياهو يأمل في ذلك أن تحذو كل الدول حذو ترامب، لكن رهانه فشل فشلاً ذريعاً، وأصبحت الولايات المتحدة معزولةً بهذا الموقف عن بقية العالم.

والآن، لو افترضنا أن نتنياهو أو أي رئيس وزراء يأتي بعده في حال فشله في الانتخابات اتخذ خطوة بهذه الحماقة رداً على هبّة باب الرحمة، وانصاع وراء رغبات هذه الجماعات المتطرفة بالرغم من وزنها الصغير في الشارع الإسرائيلي، فإنه سيغامر بالتأكيد بإطلاق كامل الغضب المقدسي المكتوم منذ خمسين عاماً، ويغامر بأن يترك للشارع المقدسي أن يقرر وحده مسار الأحداث، فدائرة الأوقاف الإسلامية كانت على الدوام –شئنا أم أبينا– تحاول التخفيف من أي اصطدام شعبي عنيف مع الاحتلال، وذلك حمايةً للاستقرار في الأماكن المقدسة الحساسة، على الأقل من وجهة نظرها. والاعتداء عليها بهذا الشكل الأحمق سيطلق العنان للغضب الفلسطيني بكل طاقته؛ مما ينذر فعلياً بوقوع الكابوس الأكبر الذي لا تجرؤ سلطات الاحتلال حتى على أن تحلم به، الانتفاضة الثالثة.