في ذكرى شارع العيون

أحمد ماهر | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

مع الوقت تضعف الذاكرة، ومع الوقت تظهر روايات جديدة حول كل الأحداث الكبرى التي حدثت منذ زمن بعيد أو قريب، بعضها روايات ثانية مخالفة للرواية الرسمية فتقوم بدورها بكشف اللثام عن أحداث كانت غامضة، وكثيرا ما تكون هناك روايات رسمية مخالفة للحقائق التي عاشها البعض، روايات يكتبها المنتصر في محاولة لتزوير ما حدث، وهنا يكون من المهم والضروري أن يتم التذكير بما حدث للتوثيق والتذكر والمراجعات.

وهذه الأيام تعود ذكرى أحداث واشتباكات شارع محمد محمود التي وقعت بالقرب من ميدان التحرير بداية من ١٩ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١١ واستمرت لعدة أسابيع، وهي الأحداث التي تم اعتبارها الموجة الثانية لثورة يناير بسبب حدتها وعدد الضحايا والشهداء والمصابين ونتائجها، وهو الشارع الذي أطلق عليه "شارع العيون" بسبب العدد الكبير للشباب الذي فقد عينه بسبب إطلاق الشرطة لعيارات الخرطوش على وجوه الشباب بشكل متعمد.

ومحمد محمود باشا -الذي سمي الشارع باسمه– كان أحد أعضاء الوفد المصري الذي سافر للمطالبة باستقلال مصر بعد الحرب العالمية الأولي، وقد تم نفي محمد محمود باشا مع سعد زغلول إلى جزيرة سيشل، وقد كان محمد محمود باشا من أسرة إقطاعية شهيرة، وهناك العديد من الكتابات التي تتحدث عن خلافاته مع الزعيم الوطني المصري سعد زغلول باشا أثناء فترة النفي وما بعدها.

وقد انشق محمد محمود عن سعد زغلول وحزب الوفد عام ١٩٢٢ وشارك في تأسيس "حزب الأحرار" الدستوريين، وقد تولى عدة وزارات في الحكومة التي شكلها الأحرار الدستوريون، إلى أن أصبح رئيس وزراء ووزير للداخلية عام ١٩٢٨، وعُرف عنه استخدامه لسياسة القبضة الحديدية وقام بتعطيل الدستور عدة مرات وكان معروفا عنه أيضا عداؤه للديمقراطية والجدال الحزبي، ولذلك تعتبر من المفارقات العجيبة أن تتم كل تلك المجازر في الشارع الذي يحمل اسمه وهو الشارع الرئيسي الذي يقود لمبنى وزارة الداخلية.

بدأت الأحداث في نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١١ بعد صدور ما يطلق عليه "وثيقة د.علي السلمي" التي استفزت كل أطراف وشركاء ثورة يناير، فكانت الدعوة لمليونية المطلب الواحد التي شاركت فيها جميع القوى الثورية -علمانية وإسلامية- ضد تلك الوثيقة المقترحة، فقد كان الجميع رافض لها وإن كانت الأسباب مختلفة، فهناك من كان يرفض الوثيقة بسبب إعطائها صلاحيات خاصة للمجلس العسكري ووضع خاص للمؤسسة العسكرية بشكل عام فوق المحاسبة.

وهناك من كان اعتراضه على خطة الوثيقة بخصوص كيفية صياغة الدستور، ولكن في نهاية الأمر تراجع المجلس العسكري الحاكم في هذا الوقت عن الوثيقة بعد مليونية المطلب الواحد.

ولكن بعد انصراف كل الفصائل السياسية من ميدان التحرير تطورت الأمور سريعا، فقد قامت قوات الشرطة بالاعتداء على اعتصام مصابي ثورة يناير وأهالي الشهداء الذين كانوا يطالبون بحقوقهم في العلاج والرعاية، وهذا التطور هو الذي أدى لعودة المجموعات الشبابية والثورية لميدان التحرير للاعتراض على ما حدث، ولكن يبدو أن وزارة الداخلية كانت تنتظر هذا الحدث أيضا من أجل تجريب الأسلحة الجديدة وتجربة استعادة قدراتها على فض أي اعتصامات وتظاهرات.

تحول ميدان التحرير والمنطقة المحيطة بوزارة الداخلية إلى ساحة حرب، سقط فيها عدة مئات من الشهداء وأكثر من ألف مصاب، أيام متواصلة من الكر والفر وطلقات الخرطوش والغاز المسيل للدموع. شباب ضحى بروحه أو بعينه أو عاش بقية حياته عاجزا، فقط لأنه كان يحلم بحياة جديدة بها عدل واحترام لحقوق الإنسان وفرص متكافئة للمعيشة، شباب كان يحلم بأن تتغير وزارة الداخلية المصرية وأن تكون هناك معاملة لائقة للمواطنين بدون تعالي وبدون إهانة، شباب كان يحلم بتطهير المؤسسات وأن تدار الدولة ومؤسساتها بالحكم الرشيد والشفافية.

بعد أكثر من أسبوع من الاشتباكات وحرب الشوارع تصاعدت المطالبات وأصبحت تطالب بسرعة تخلي المجلس العسكري عن السلطة وتسليمها لإدارة مدنية، وأصدر المجلس العسكري بيان يزعم فيه احترامه لثورة يناير وشهدائها ومصابيها، ويعتذر عن الأحداث وسقوط قتلى ومصابين جدد، وتشكيل لجنة للتحقيق وتحديد موعد لانتقال السلطة في منتصف ٢٠١٢، وتم إقالة رئيس الوزراء د.عصام شرف وتعيين د.كمال الجنزورى أحد أبرز رؤساء الوزراء في عهد مبارك، مما أدى لعودة الاعتصامات والاشتباكات مرة أخرى بعد حوالي أسبوع.

كانت أحداث محمد محمود أو الموجة الثانية لثورة يناير من أبرز المحطات التي دعمت القطيعة ووسعت الفجوة بين القوى الشبابية الثورية وبين جماعة الإخوان المسلمين، ففي هذه الأيام كان هناك تحالف قوي وتلاقي مصالح بين التيار الإسلامي بقيادة جماعة الإخوان وبين المجلس العسكري الذي تولى السلطة بعد تنحي مبارك، تم تتويج هذا التحالف في استفتاء مارس/اذار ٢٠١١ الذي دعم سلطة المجلس العسكري في إدارة البلاد وأعطى لجماعة الإخوان والتيار الإسلامي الغلبة في آلية كتابة الدستور.

ولذلك كان جماعة الإخوان وحزب النور السلفي في صف المجلس العسكري في أحداث محمد محمود وما ترتب عليه، فكرروا رواية السلطة والمجلس العسكري ووزارة الداخلية في إدانة المتظاهرين والمعتصمين ووصفهم بالبلطجية والمجرمين والمتسولين، واعتبروا أن هذه الاشتباكات هي مؤامرة تهدف لتعطيل الانتخابات البرلمانية المنتظرة.

ودافعت جماعة الإخوان في خطابها الرسمي وغير الرسمي عن مواقف الجيش والشرطة ضد الثوار ودافعوا عن اختيار المجلس العسكري للجنزوري كرئيس للوزراء، وكرروا نفس خطاب أنصار مبارك وأنصار المجلس العسكري بأن هذه التظاهرات هي مؤامرة غربية لاستهداف الجيش، عمود الخيمة الوحيد كما كانوا يزعمون وقتها، ولا أظن أني أبالغ إن قلت أن مواقف جماعة الإخوان أثناء مذبحة شارع محمد محمود عام ٢٠١١ ثم سلسلة الأخطاء أثناء عام حكم الرئيس محمد مرسي هو ما سهل وأدى إلى ما حدث في ٣٠ يونيو ٢٠١٣.

وليست جماعة الإخوان فقط أو التيار الإسلامي هم من اتخذوا نفس مواقف المجلس العسكري في لوم وتجريم الثوار، بل كان هناك أيضا أحزاب تزعم الليبرالية اتخذت نفس الموقف وناصرت الشرطة والجيش في ذلك الوقت، وكانت هناك شخصيات ليبرالية وقتها تتسابق مع التيار الإسلامي في نيل رضاء المجلس العسكري أملا في الفوز بنسبة أكبر من الكعكة.

والجدير بالذكر أيضا أن ليس كل التيار الإسلامي كان مواليا للمجلس العسكري في ٢٠١١، بل كان هناك الشيخ حازم أبو إسماعيل وأنصاره، حيث كان يتميز بخطابه الراديكالي عن باقي فصائل الإسلام السياسي، وكان لا يخفي عداءه للولايات المتحدة ومعاهدة كامب ديفيد والحكم العسكري.

وجدير بالذكر أيضا أنهم شاركوا مع المجموعات الشبابية الثورية في اعتصامات وتظاهرات محمد محمود ومجلس الوزراء مطالبين بسرعة تنحي المجلس العسكري وتسليم السلطة، وكذلك رفضوا خطاب التخوين ضد المجموعات الشبابية الثورية.

بالتأكيد لا فائدة من الدائرة المغلقة في التنابذ أو مسلسل إلقاء كرة اللوم الملتهبة في يد الآخر، فهل بدأت المأساة وشق الصف الثوري في ٣٠ يونيو ٢٠١٣ أم في ١٩ نوفمبر ٢٠١١ أم في استفتاء مارس ٢٠١١، ولكن يمكن محاولة تخيل سيناريوهات أخرى مع طرح بعض الأسئلة، ربما يفيد ذلك إن كانت هناك محاولة أخرى في المستقبل القريب أو البعيد.

فهل كان سيكون الحال أفضل لو ساندت جماعة الإخوان موقف شباب الثورة في أحداث محمد محمود ودعمت مطالب تسليم السلطة لمجلس رئاسي مدني؟ وكيف كانت ستكون التطورات بعد ذلك؟

وعلى الجانب الآخر يمكن التساؤل حول دور الصوت الثوري العالي الذي كان أحيانا يرفض الحلول الوسط ويقوم بإدانة أي محاولات للتهدئة، هل كان الحال سيختلف لو لم يتم الرضوخ للصوت العالي والتصعيد غير المبرر والمزايدات؟ هل كان يمكن تجنب العنف وحمام الدم في محمد محمود، وبالمثل يمكن طرح السؤال هل كان يمكن تجنب مذبحة رابعة؟