وثائق سرية تكشف خفايا الدور الإيراني في العراق.. ما الجديد؟

محمد سراج الدين | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

لم تكن التسريبات التي نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية وتضمنت تفاصيل جديدة وخطيرة عن التوغل الإيراني في العراق، الوحيدة التي رأت النور خلال الساعات الماضية، وسط استمرار الحراك الذي يطالب باجتثات الفساد وإنهاء نفوذ طهران هناك.

وتزامنا مع ما نشرته الصحيفة، خرج موقع "انترسبت" الأمريكي، أيضا، بتسريبات أخرى عن لقاء جرى بين مسؤولين بارزين في فيلق القدس الإيراني، وقيادات مسؤولة بجماعة الإخوان المسلمين عام 2014، تتحدث عن الأوضاع الملتهبة في المنطقة العربية.

المعلومات التي حملتها التسريبات، تشير إلى أن نشرها على العلن ربما يكون بفعل فاعل، من داخل النظام الإيراني، رغم أن الرسالة المشفرة التي تلقاها موقع "انترسبت"، وحملت 700 صفحة من التقارير السرية، جاءت من مصدر اكتفى بالقول: "أريد إخبار العالم بما تفعله إيران في بلدي العراق".

إلا أن تحليلات أخرى نظرت للوثائق بشكل مختلف، حيث اعتبرت أن الهدف منها، صعود نجوم على ساحة المشهد الإيراني واختفاء آخرين، خاصة وأن العامل المشترك في كل ما تم نشره هو الدور البارز للجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس، سواء فيما يتعلق بدوره في الهيمنة على العراق، أو في لقاءاته مع مسؤولي الإخوان المسلمين.

ورغم أن الوثائق تتحدث عن دور إيران في الحفاظ على وحدة العراق، مقابل سياسة أمريكا، التي كانت تريد تحويله لساحة قتال طائفي، إلا أن المعلومات التي جاءت في الوثائق تدعم ما سبق أن كشفته وثائق أخرى لـ"ويكيلكس"، عن دور إيران في تدمير العقل العراقي ومقومات استعادة عافيته، واغتيال علمائه،  وكيف أن طهران عملت منذ البداية لئلا يعود العراق قوة إقليمية يمكن أن تهدد الجمهورية الإسلامية.

ويبدو التساؤل الملح الذي أفرزته هذه التسريبات، عن الجديد الذي جاءت به، وهل أضافت أمرا مغايرا عن سيطرة وتوغل إيران في العراق منذ رحيل صدام حسين؟.

700 وثيقة

حسب ما جاء في التقارير التي نشرتها كل من "نيويورك تايمز" و"انترسبت" الأمريكيتين، فإن التسريبات التي جرى ترجمتها من الفارسية للإنجليزية، شملت 700 وثيقة، قالت عنها الصحيفتين: إنها سرية للغاية، كما لم تتوار الصحيفتان، عن الحديث المفصل عن دور المخابرات الإيرانية التي قدمت من خلال الوثائق المسربة معلومات تفصيلية عن خطتها في السيطرة على العراق، من "ساسه لراسه"، كما يقولون.

وتأتي أهمية هذه التسريبات، والتي لم تعلق عليها الحكومة العراقية بشكل رسمي حتى الآن، في أنها قدمت جانبا هاما في كيفية سيطرة المخابرات الإيرانية على كبار القادة والساسة العراقيين، ومنهم من كان يعمل مع المخابرات والجيش الأمريكي خلال السنوات الأولى من الاحتلال.

وتأتي الملاحظة الثانية في أن الوثائق ورغم أنها مؤرخة بالفترة من 2014 وحتى 2015، إلا أنها تحدثت عن الدور الإيراني المخابراتي في العراق حتى قبل سقوط صدام عام 2003، واللافت للنظر أيضا، أن تحليل الصحف الأمريكية التي نشرت التسريبات، ربطتها بالدور الذي لعبه اللواء سليماني في الأحداث الأخيرة التي شهدها العراق، والدور الخفي الذي لعبه في تثبيت أركان حكومة عادل عبد المهدي رغم المظاهرات الحاشدة التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الإطاحة به.

أما الملاحظة الثالثة للتسريبات فهي في طريقة سردها، وكيفية عمل عملاء المخابرات الإيرانية داخل العراق، وكيف كان يتم تجنيد العملاء وإدارة الاجتماعات معهم، وأماكن هذه الاجتماعات، وطريقة رصد وتتبع الجنود والتحركات الأمريكية، في المطارات والميادين وساحات المواجهة، والمقابل المالي الذي كان يتلقاه العملاء مقابل خدماتهم.

معلومات خطيرة

وفق التحليلات التي تحدثت عن الوثائق، في مختلف وسائل الإعلام العربية والأجنبية، فإن صحيفة "نيويورك تايمز"، لم تبالغ عندما وصفت التسريب بأنه "غير مسبوق"، وأنه يصل لنتيجة أساسية، وهي تفوق إيران في كل مراحل الأزمة العراقية، منذ أن وضعت القوات الأمريكية أقدامها في العراق بعد سقوط صدام حسين.

كما تحدثت عن أن المخابرات الإيرانية لعبت في عكس سير نظيرتها الأمريكية، حيث أفشلت الأولى وفق "نيويورك تايمز"، كل الخطط التي وضعتها الثانية، لجر العراق نحو حرب طائفية بين الشيعة والسنة والأكراد، ما يؤدي في النهاية إلى تقسيم الدولة.

ويدلل على التحليلات السابقة، ما جاء في نص إحدى تقارير تقدير الموقف للمخابرات الإيرانية، عن موقف واشنطن من الدعم الإيراني لرئيس الوزراء الحالي عادل عبد المهدي، عندما كان وزيرا للنفط في الحكومة التي تشكلت بعد رحيل صدام عام 2014. وحسب الوثيقة، فإن أحد المسؤولين الأمريكين حذر إدارته من العلاقة القوية التي تجمع بين عبد المهدي بإيران، منذ أن كان معارضا في الخارج لنظام صدام.

وحسب الوثيقة فإن المسؤول الأمريكي الكبير الذي لم تكشف الوثيقة عن اسمه، واكتفت بالقول: إنه كان مسؤولا سابقا، قال في تقييمه لعلاقة عبد المهدي بإيران: إن "العلاقة الخاصة يمكن أن تعني الكثير من الأشياء، وهذا لا يعني أنه وكيل لشركة الحكومة الإيرانية، لكن لا يمكن لأي سياسي عراقي أن يصبح رئيسا للوزراء دون مباركة إيران".

وعلقت "نيويورك تايمز" على ذلك قائلة: "في عام 2018 عندما طرح اسم عبد المهدي لرئاسة الوزراء، كان ينظر إليه كمرشح توفيقي مقبول لدى كل من إيران والولايات المتحدة".

ساحة تجسس

وتشير الوثائق إلى جانب آخر مهم، وهو أن إيران كانت تستخدم الأراضي العراقية، كساحة تجسس مفتوحة، وكان المدخل لذلك هو قناعة المسؤولين الإيرانيين أن متابعة الأنشطة الأمريكية في العراق أمر يحظى بأهمية حيوية لأمن إيران القومي، ولذلك قررت نقل العديد من ضباط النخبة في مخابراتها لبغداد فور سقوط نظام صدام، ثم طورت نشاطها بعد ذلك عبر تجنيد عملاء محليين من داخل العراق.

ثم تطور الوضع لمحاولة تجنيد أحد العناصر داخل الخارجية الأمريكية نفسها، وفي النهاية فإن هذه الفئة قدمت الكثير من الخدمات للجانب الإيراني حسب تحليل الصحيفة.

وكشفت الوثائق جانبا آخر من التركيبة الداخلية لأجهزة المخابرات الإيرانية، حيث تنقسم لجهازين الأول وهو المعروف والمقصود به وزارة الاستخبارات، والتي تعد النسخة الإيرانية من وكالة الاستخبارات المركزية، ومهمتها تحليلية ومهنية.

أما الوكالة الثانية صاحبة النفوذ، والتي لها الكلمة الأولى والأخيرة في كل شأن إيراني، فهي منظمة الاستخبارات التابعة للحرس الثوري بقيادة الجنرال قاسم سليماني، والتي تأسست رسميا عام 2009 بأمر من المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، وهي الوكالة التي كان لها أدوار بارزة وهامة في خدمة المصالح الإيرانية في العراق ولبنان وسوريا، والتي تعتبرها طهران حاسمة بالنسبة لأمنها القومي.

الاستهداف السري

ورغم أن الوثائق لم تتحدث صراحة عن الدور الخفي الذي لعبته المخابرات الإيرانية في تصفية العراق، واغتيال علمائه، وإرهاقه المستمر، إلا أنها تشير لأمر آخر أكثر أهمية، يكشف قيامها بهذا الدور من خلال حصولها على فائض غير طبيعي من المعلومات التي قدمها عملاؤها الجدد، الذين عملوا في السابق لصالح المخابرات الأمريكية.

وتأتي أهمية المعلومات التي نقلها العملاء الجدد، من كونها معلومات حديثة وجرى الحصول عليها من خلال برامج تجسس أمريكية خاصة، وهو ما دعم بعد ذلك خطة إيران في تصفية العراق وقتل علمائه.

وحسب الوثائق المسربة، فإنه بعد قرار الإدارة الأمريكية الانسحاب من العراق، أصبح كثير من عملاء المخابرات الأمريكية المحليين في بغداد، بدون عمل، ومهددين بالاغتيال، ما دفعهم للبحث عن طريق للوصول إلى المخابرات الإيرانية، وقدموا لها كنزا من المعلومات لإثبات ولائهم لها.

وتشير إحدى الوثائق، لتقرير مخابراتي إيراني عن اجتماع جرى في طهران بين أحد العملاء العراقيين البارزين، والذي جاء مبعوثا خاصا من اللواء حاتم المكصوصي، قائد الاستخبارات العسكرية في وزارة الدفاع العراقية، وأخبرهم صراحة أنهم في "خدمة إيران وتحت تصرفهم.. فنحن شيعيون ولدينا عدو مشترك". وتضيف الوثيقة عن مبعوث المكصوصي قائلا لمسؤول المخابرات الإيراني: "كل معلومات مخابرات الجيش العراقي اعتبرها لك".

وحسب الوثيقة فقد قدم العميل للمخابرات الإيرانية أهم برنامج أمريكي لتدمير العراق وهو برنامج "الاستهداف السري" الذي قدمته الولايات المتحدة للعراقيين، ونظام آخر شديد الحساسية للتنصت على الهواتف المحمولة.

وثائق ويكليكس

وانطلاقا من التسريبات، فإن ما كشفته وثائق "ويكليكس"، عن الدور الإيراني والإسرائيلي في اغتيال علماء العراق، منذ سقوط صدام عام 2003، أصبح لها أساس من الصحة، وخاصة الدور الذي لعبه رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي خلال فترة توليه الحكومة، والذي كان يعد بمثابة العصر الذهبي للمخابرات الإيرانية في تصفية أبرز العلماء العراقيين.

ووفق وثيقة نشرها "ويكيلكس" عام 2006، وكانت المحور الأساسي لفيلم وثائقي أعدته قناة الجزيرة عن اغتيال العلماء العراقيين، فإن المالكي وقع مع الأمم المتحدة برنامجا لإعادة العلماء العراقيين في الخارج، من حملة شهادة الدكتوراة، ووضع ضمن أهداف برنامج حكومته، بندا أسماه "رعاية الكفاءات العلمية وتوفير الأجواء الأمنية والمعيشية المناسبة بما يحول دون هجرتها".

إلا أن الوثيقة كشفت أن المالكي، زود كل من الموساد الإسرائيلي والمخابرات الإيرانية، بمعلومات ساهمت في تصفية المئات من هذه الكفاءات، قدرتهم الوثائق بـ 350 عالم نووي و180 ضابط طيران من القوات الجوية العراقية.

وحسب الوثيقة فإن المالكي قدم السيرة الذاتية للعلماء العراقيين وطرق الوصول إليهم بغرض تصفيتهم، وسُلمت هذه المعلومات إلى فرق اغتيال تابعة للموساد الإسرائيلي وإيران، وكشفت وثيقة أخرى تعود لعام 2007، أن المالكي نسق بشكل مباشر مع الحرس الثوري الإيراني لتصفية شخصيات عراقية، وبرلمانية، كما دعمت القبضة الأمنية للمالكي وتبنيه للمليشيات الشيعية، اغتيال العديد من العلماء تحت مبرر الطائفية.

وكشفت وثيقة أخرى لـ"ويكيليكس" عام 2009، أن إيران شنت حملة منظمة بعد احتلال العراق عام 2003 لاغتيال الطيارين العراقيين الذين شاركوا في قصف أهداف إيرانية خلال الحرب بين البلدين، وتمكنت من قتل 182 منهم، وتشير برقية سرية للمخابرات الأمريكية إلى أن: "كثيرا من الطيارين العراقيين الذين نفذوا طلعات أثناء الحرب العراقية الإيرانية، باتوا على قائمة إعدامات أعدتها إيران، وإنها بالفعل اغتالت 180 منهم".

فرق الموت

ويدعم ما نشرته ويكليكس وقتها، ما كشفته حركة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة، في مؤتمر صحفي عقدته في ألمانيا عام 2017، قدمت فيه قائمة بأسماء 32 ألف عراقي قالت إنهم: "عملاء للنظام الإيراني في العراق ويتقاضون أجورا من طهران، وأنه تم تشكيل فرق موت من بينهم لاغتيال العلماء والسياسيين المخالفين لتوجهات إيران، أو عملائها من السياسيين العراقيين، وأن هذه الفرق بدأت عملها قبل سقوط صدام حسين، من خلال اغتيال عدد من العراقيين في مجالات الأمن والدفاع والخارجية والإعلام وضباط الجوازات والجنسية".

وفي نفس الإطار كشف فاضل الجنابي رئيس منظمة الطاقة الذرية العراقية السابق، في حوار أجرته معه وكالة "روافد نيوز" الاخبارية العراقية، في مارس/ آذار 2019، أن إيران وإسرائيل اغتالتا عددا من العلماء العراقيين في مجال الطاقة النووية وأن مئات الأكاديميين قتلوا بعد احتلال العراق.

أما الأكاديمي العراقي البارز إسماعيل الجليلي، فقدم وثيقة هامة في إبريل/ نيسان 2006، لمؤتمر مدريد الدولي حول اغتيال الأكاديميين العراقيين، أكد فيها أن مسؤولين عراقيين وأمريكيين قدموا معلومات هامة للموساد الإسرائيلي كانت سببا في اغتيال 530 عالما عراقيا، وأكثر من 200 أستاذ جامعة وشخصيات أكاديمية أخرى، وأن الموساد وضع خطة شاملة لتصفية علماء الذرة والبيولوجي لرفضهم التعاون مع الولايات المتحدة.

وحسب وثيقة منسوبة لمركز موارد المعلومات بالسفارة الأمريكية في العراق، فإن أجهزة الأمن الأمريكية قدمت لإسرائيل خلال الفترة من 2003 وحتى 2006، سير حياة كاملة للعلماء العراقيين والأكاديميين من أجل تسهيل عملية التصفية، كما جرى تجنيد 2400 عنصر استخباراتي لهذه المهمة، بالإضافة لوحدة نخبة سرية تتضمن أكثر من 200 عنصر مؤهل من قوات البيشمركة.

طلب التوضيح

ورغم الصمت الذي غلف المشهد الرسمي العراقي، إلا أن رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، نفى صحة ما جاء في تقرير "نيويورك تايمز"، عن اللقاء الذي أشارت إليه الوثائق بينه وبين شخص يدعى "البروجردي" (مجهول الهوية).

وقال العبادي في بيان رسمي: إن هذا اللقاء " لم يحدث، ولا وجود لهكذا لقاء في جدول مواعيده، وشخصية مثل رئيس الوزراء لا يعقل أن يلتقي وينسق مع شخص برتبة ضابط مغمور!! إنه ادعاء غبي ومشبوه".

ورغم النفي، إلا أن العبادي الذي أكدت الوثائق أن الجانب الإيراني لم يكن على وفاق كامل معه، طالب بتوضيح من إيران عما جاء في التسريبات.

وقال في بيانه: "إننا نعرب عن قلقنا من محاولات دول بعينها تدعي أنها جارة وصديقة أن تتجاوز أجهزتها الاستخبارية على السيادة العراقية، أو أن تجعل قضايا العراق الوطنية جزءا من حرب الأجندات والمصالح، وبالتالي نطلب توضيحا وموقفا من هذه الدولة حول هذه الادعاءات".


المصادر