إذا الشعب يوما أراد الحياة

فرح أشباب | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

لم يكن أبو القاسم الشابي، الشاعر التونسي الذي وُلد قبل 110 سنوات، مدركاً أن أبياته التي نظمها آنذاك  في وجه المستعمر الفرنسي الذي كان يفتك بتونس ساعتها، ويمتص خيراتها على هواه، ستظل سارية المفعول لكن في وجه مستعمر من نفس الجنس والعرق والدين.

أحكم قبضته على وريد البلدان العربية منذ فجر الاستقلال، وجعل منها دولا لا تظهر في ترتيب دول العالم في التعليم والصحة والجامعات والاقتصاد ومؤشر التنمية البشرية، إلا من أجل أن تتذيله. لدرجة أن شركات إنتاج الأفلام العالمية التي تقصد الدول العربية من أجل تصوير لقطات الحروب أو حقبة السبعينات أو الثمانينات لا تحتاج إلى تغيير الديكور، بل المشاهد كفيلة بالعودة بك إلى زمن ولى.

غيّرت صفعةٌق من يد شرطية على وجه شاب يعمل بائعا متجولا تاريخ الدول العربية؛ فأزاحت حكاماً، ظنوا أنفسهم خالدين، من على عروشهم، وأخرجت شباباً وشيبا من قوقعتهم في مظاهرات تطالب بالعدالة والديمقراطية، بعدما ظنوا أن الدهر لن يتغير أبدا وأن الواقع الذي فرضته طبقة معينة هو ما سيظل حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

تعالت الأصوات في الشوارع مطالبة بالكرامة فقط لا غير، فاستجاب لها القدر وانكسر القيد اللامرئي الذي طوقنا به أنفسنا، وسرت فرحة في أرواحنا حسبنا لقوتها أنها خيال فقط فانتشينا بها وفخرنا؛ لأنها ثورات جميلة ليس فيها تخريب متعمد أو دماء. خرجت من رحم المعاناة والذل، نحن من صنعها، ويحق لنا أن نعتد بها كمن كُتب له أن يأتي بولد إلى الحياة؛ بعدما ظن أن خريف العمر لن يُزهر أبدا.

لكن الرياح هبت بما لا تشتهيه ورقة معلقة على شجرة يابسة وأسقطتها أرضا، فشاهدنا ثوراتنا تجهض في أرحامها، ورأينا سيولا من الدم تسري وملايين المهجرين واللاجئين يقطعون إلى الضفة الأخرى؛ بحثا عن الأمان بعدما قضى العديد منهم غرقا في مياه المتوسط.

كانت صفعة واحدة إذن كافية ليضرم محمد البوعزيزي النار في جسده وتشعل نار الثورة، ولزمنا بعدها سنوات عجاف تصفعنا بقوة لندرك أن ما حلمنا وافتخرنا به ذهب مع الريح، وخلّف الكثير من الإحباط والفراغ في نفوس لم تطالب بشيء غير الكرامة.

ولزمنا كذلك أن نرى مشاهد آلاف الشهداء وعشرات الجثث المتفحمة في محطة رمسيس بمصر؛ بسبب إهمال واستهزاء بأرواح الناس من طرف المسؤولين، أن ندرك أن حياة المواطن هي أقل أهمية من فوائد تتراكم في البنوك. لزمتنا نار حتى ندرك أن الكرامة حق ونار أخرى وجثث حتى ندرك أننا لا زلنا متأخرين، وكأن النار وحدها قادرة على إيقاظنا بعد سبات ووهم طويل.

يلزمنا إذن الكثير من الحيادية والصبر لنقف وقفة صادقة مع ذواتنا، ونُقرّ بأننا جيل مُحبط، شاهد على ثورة فاشلة في أوطاننا مقابل ثورات اقتصادية وتكنولوجية وثقافية ناجحة في الجانب الآخر من العالم، حيث المواطنون واعون بحقوقهم وواجباتهم في منظومات تسهر على تسهيل الحياة والسير قدما بالدولة والمواطن، في احترام شامل لروح الدستور والديمقراطية وحقوق الإنسان.

"إذا الشعب يوما أراد الحياة ... فلا بد أن يستجيب القدر"، هذا البيت الشعري ليس تحدياً صارخاً للقدر، بل تأكيد على أننا جزء لا يتجزأ منه وأننا نصنع أقدارنا. فرغم كوننا مسيرين إلا أننا مخيرون كذلك، وإذا أردنا أن نغير ونتغير، واستثمرنا كل جهدنا من أجل ذلك فسيستجيب حتما القدر. وإن لم يكن بمقدورنا الآن أن نغير الوضعية الراهنة فبمقدورنا أن نتغير إلى الأفضل، ونجعل من أنفسنا ذلك التغيير الجميل الذي نريد أن نراه في العالم بالعلم والوعي، والقبض على المبادىء كالقابض على الجمر؛ لأن الأصل في الأشياء هو التغيير، ولا يمكن لليل حالك أن يدوم أبداً.