رئاسيات تونس.. كيف انتصر قيس سعيّد على ماكينات المال والإعلام؟

زياد المزغني | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في الأشهر التي سبقت انتخابات الرئاسة في تونس، كانت جميع استطلاعات الرأي تشير إلى تصدّر رجل الأعمال والإعلام نبيل القروي توقعات الناخبين خاصة أنه يمتلك أحد أكثر القنوات مشاهدة في تونس "نسمة"، بالإضافة إلى أحد أكبر شركات التسويق في المغرب العربي عموما.

في المقابل، التزم قيس سعيّد بالمواعيد المحددة لانطلاق الحملة الانتخابية ورفض الظهور التلفزيوني، مؤكدا رفضه تلقّي أموال من مؤسسات أو رجال أعمال للقيام بحملته الانتخابية، كما رفض الحصول على المنحة التي تقدمها الدولة للمرشحين والمقدرة بـ170 ألف دينار تونسي (الدولار يساوي 2.9 دينار).

ماذا حدث إذا كي يقلب قيس سعيّد الطاولة على جميع منافسيه من المرشحين المدعومين حزبيا أمثال عبد الفتاح مورو (حركة النهضة) أو يوسف الشاهد (تحيا تونس)، وأخيرا نبيل القروي منافس سعيّد في جولة الإعادة، المدعوم من حزبه (قلب تونس)، ومن ماكيناته الإعلامية، وجمعياته الخيرية، ومشاريعه الاستثمارية؟

مفاجأة مدوية

في 15 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن فوز قيس سعيّد بنسبة 72.71% مقابل 27.29 % لصالح منافسه نبيل القروي.

مثلت النتيجة مفاجأة لكثيرين خاصة مع الفارق الكبير بين المرشحين، والذي بلغ قرابة الثلاثة أضعاف، في ثاني انتخابات رئاسية مباشرة تشهدها تونس منذ سقوط نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.

وفي مشهد أعاد للذاكرة أحداث ليالي يناير/كانون الثاني 2011، عاشت العاصمة تونس، ومختلف المدن ليلة 13 أكتوبر/تشرين الأول، على وقع احتفالات بخروج آلاف التونسيين إلى شارع الثورة "الحبيب بورقيبة" مباشرة عقب إعلان فوز قيس سعيّد الرئيس السابع للجمهورية التونسية بعد التحرير من الاستعمار الفرنسي 1956 وإلغاء النظام الملكي في البلاد.

وفق النتائج الرسمية التي أعلنتها الهيئة المستقلة للانتخابات، يكتسب قيس سعيّد شرعية شعبية واسعة  لم يسبقه إليها أي رئيس تونسي، حيث بلغ عدد الأصوات التي حصدها سعيّد 2 مليون و777 ألفا من جملة 3 ملايين و900 ألف ناخب مسجل، وهو رقم تجاوز بأشواط نسبة المصوتين للرئيس الراحل الباجي قايد السبسي في 2014، والذي بلغ مليونا و700 ألف صوت.

كما تجاوزت الأصوات التي حصل عليها الرئيس التونسي الجديد مجموع عدد الناخبين الذين شاركوا في الانتخابات التشريعية يوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.

وفق التقديرات التي نشرتها مؤسسة "سيغما كونساي" لسبر الآراء (خاصة)، فإن 90% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاما صوتوا لسعيّد. 

هذه النسبة الكبيرة والواسعة للمصوتين من فئة الشباب لصالح قيس سعيّد تؤكد ما راهن عليه الرئيس المنتخب منذ فترة، أي منذ إطلاق أفكاره ما بعد العام 2011، والذي أعلن فيها معارضته للنهج الذي سلكته البلاد في اختيار مجلس وطني تأسيسي مهّد لسن دستور جديد للبلاد.

وقال سعيّد في أول تصريح له بعد الفوز عن الشباب: "إنهم جيل جديد رغب في التغيير، وتاق إلى ثورة حقيقة تخرجه مما اعتبروه ظلما في حق ثورتهم"، وتابع أن: "تقدمه في التصويت يمنحه مسؤولية كبيرة في الالتزام بالعمل من أجل كسب ثقة الشعب"، متعهدا بالعمل على تحويل ما وصفه بالإحباط إلى الرجاء والأمل وبالاستثمار في الثروات وأهمها الثروة البشرية ممثلة في الشباب".

أنصار متطوعون

خلال الأسابيع التي شهدتها الحملة الانتخابية للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها، كانت الحملات الانتخابية للمترشحين للرئاسيات تجتاح مختلف الأماكن، بلوحات إشهارية عملاقة وحملات دعائية على الأرض واجتماعات عامة، إضافة إلى إعلانات مروجة على مواقع التواصل الاجتماعي.

في المقابل لم تسجل حملة قيس سعيّد أيا من هذه المظاهر، مما جعل الحديث عن منافسته على المراتب الأولى أمرا غير متوقع عند عموم التونسيين. إلا أن حملة انتخابية مختلفة تماما كان يسيرها عدد كبير من المتطوعين من شباب وطلبة في مختلف مدن الجمهورية جمعتهم مجموعات فيسبوكية نسقت ووزعت الأدوار بينهم.

ضمت شبكة أنصار الرئيس التونسي الجديد بالأساس طلبة متطوعين، إلى جانب شخصيات كان حضورها بارزا خلال احتجاجات "القصبة 1" و"القصبة 2" عام 2011 والتي كانت منعطفا في مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد إثر سقوط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.

هذه الشخصيات انطلقت منذ  العام 2011، في العمل ميدانيا، بحملات داعية إلى مقاطعة انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ومن ثم لمقاطعة الانتخابات التشريعية والرئاسية في العام 2014، اعتمادا على رفض المسار الذي انتهجته تونس، المخالف لرؤية قيس سعيّد الداعية إلى انتخابات محلية على الأفراد.

كما ذكر عدد من النشطاء السياسيين أن نشطاء مقربين من قيس سعيّد عرضوا عليهم فكرة الانتماء إلى جمعية "مؤسسون" والتي اعتبرها البعض نواة للماكينة الانتخابية لسعيّد.

لكن في الوقت نفسه، شهد الالتفاف حول سعيّد وحملته الانتخابية خاصّة خلال الدور الثاني توسعا كبيرا شمل عديد الأطياف، حيث تم تدشين عشرات المجموعات الفيسبوكية التي ساهمت في الترويج لمرشحهم.

فئة الطلبة

ونجحت هذه الحملات في ابتكار وسائل لتشجيع ومساعدة أنصار قيس سعيّد على التصويت، خاصة من فئة الطلبة، إذ أن الدور الأول للانتخابات الرئاسية تزامن مع العطلة الجامعية، وهنا بدأت مخاوف مناصري سعيّد من تراجع النسبة في الدور الثاني الذي تزامن مع العودة الجامعية وعودة الطلبة إلى جامعاتهم البعيدة عن مراكز الاقتراع المسجلين بها، إضافة إلى تكلفة السفر التي لا يقدر على تحملها جميع الطلبة.

أطلق أنصار سعيّد مجموعة تسمى "covoiturage présidentielle" على موقع فيسبوك، ضمت مسافرين بين مختلف المدن التونسية يمتلكون سيارات وآخرين يبحثون عن وسيلة نقل، يعرض صاحب السيارة موعد سفره وعدد المقاعد الشاغرة معه على شرط أن يكون من يرغب في السفر ممن سيدلون بأصواتهم في الانتخابات.

تلك الحملة سرعان ما توسعت لتشمل تنظيم رحلات مجانية للطلبة عبر الحافلات بمساهمة عدد من أنصار سعيّد في مختلف المدن، كما انتشرت إعلانات لأصحاب سيارات الأجرة عن عروض للنقل المجاني إلى عدد  من المدن. 

ونشر "حمزة" وهو أحد الشباب المتطوع في الحملة الانتخابية لقيس سعيّد على حسابه على فيسبوك ليلة الانتخابات أنه: "بدون تمويل ولا دعم ولا مكينات حزبية استطعنا جمع 13000 مراقب متطوع ليس بوقته وتعبه فقط بل وبتحمل مصاريف تنقله وطعامه واستعداده للعمل في أي مركز اقتراع.. في مقابل 19 ألف موظف للمنافس (القروي) تكلف عليهم الملايين الملايين".

وأضاف حمزة الذي اعتذر عن التصريح للاستقلال بسبب ما أسماه التزاما أخلاقيا مع "الأستاذ الرئيس" في إشارة إلى قيس سعيّد، الذي دعا الشباب المتطوع في الحملة إلى عدم التصريح لوسائل الإعلام إلى حين تنصيبه رسميا رئيسا للجمهورية: "نحن نشهد حالة وعي جماعي واحساس بالمسؤولية الجماعية في بلد يعتبر من العالم الثالث، لحظات سيشهدها التاريخ نحن من نصنع مستقبلنا".

المال والإعلام 

وفي تعليقه على ذلك، اعتبر الناشط السياسي أمان الله الجوهري أن: "قيس سعيّد ظل جزءا من ذاكرة الثورة التونسية وحالة الأمل والرغبة في التغيير التي عبّرت عنها، فقيس سعيّد ليس شخصية نكرة بل هو أحد الرموز الاعلامية في تونس ما بعد الثورة والتي تمثل الأستاذ المثقف طليق اللسان المناصر لقيم الثورة وصاحب المواقف المتزنة البعيدة عن الاصطفاف السياسي. وهو ما يفسر قدرته على كسب ثقة فئة كبيرة من التونسيين لم تشارك في انتخابات 2014 وهي التي كانت حاسمة في صعوده".

وقال الجوهري لـ"الاستقلال": "خلال الدور الأول، عبّر صعود قيس سعيّد عن رغبة في إسقاط الأحزاب وتحجيم نفوذها وهيمنتها على المشهد السياسي. وقد أنتج ذلك حالة من الأمل والثقة ترجمها الناخبون في الإقبال الكبير على التصويت في الدور الأول".

رئيس قائمة "بلادنا" للانتخابات التشريعية الأخيرة اعتبر أن صعود نبيل القروي للدور الثاني كان عاملا حاسما في فوز سعيّد قائلا: "إذ وجد الناخب التونسي نفسه أمام اختيار سهل: إما فسح المجال أمام أحد رموز الفساد للرئاسة البلاد أو التصويت لصالح رجل ينتمي إليهم ولم تتعلق به أي شبهة".