"أمير مؤمنين" يقودها.. لماذا يمنع المغرب الحركات الإسلامية من الدعوة؟

منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

يخرّج المغرب منذ عام 2003 آلاف الأئمة والمرشدات الدينيات الأجانب سنويا، مقدما بذلك نفسه كنموذج دينيّ وسطيّ معتدل، إذ ينص الدستور المغربي دائما على حرية ممارسة الشؤون الدينية. وجعل الملك محمد السادس تطوير الشأن الديني من أولوياته منذ وصوله إلى الحكم في 1999، لكن التفجيرات التي وقعت عام 2003 في البلد؛ كانت دافعا قويا لإعادة ترتيب الأوراق.

مرَّ نمط السياسة الدينية للسلطة المغربية وتعاملها مع أماكن العبادة بمراحل مختلفة، إذ يقوم النظام المغربي ككل على توظيف قويّ للدين؛ فالملك هو أميرٌ للمؤمنين وإمام يجمع السلطة الدينية والسياسية والعسكرية.

تراقب الدولة المساجد؛ خوفا من أن تتحول مع منابر خطبائها إلى أسلحة تهاجمها عبر مشاريع دعوية. هذا الحرص طال حتى مناهج التدريس. فلماذا كل هذا الخوف من المجال الدينيّ مع أنّ المغرب يعتمد نموذجا بعيدا عن التشدد؟ وهل هذا المجال الدينيّ هو الضامن للملكية في المغرب؟

2003 إعادة الترتيب

يصف محمد الطوزي، دكتور علم الاجتماع الديني والأنظمة السياسية، تفجيرات مدينة الدار البيضاء بالمغرب عام 2003، بأنها "نقلت الدين من فضاء المشروعية إلى فضاء الأمن، جاعلة من الضروري بلوَرة سياسة دينية جديدة".

أبرز المغرب، من خلال شخص الملك، خصوصيته واستقلاليته الدينية بتأكيد تشبثه بالمذهب المالكي، الأمر الذي يعني أخذ مسافة عن المذهب الحنبلي. ويرى الطوزي في إحدى دراساته عن المجال "الديني - السياسي" في المغرب، أنّ التفجيرات "أظهرت أنّ السياسة الدينية لملك المغرب السابق الحسن الثاني كانت قد بلغت منتهاها أمام ضغوط الإسلام المعولم المسنود بقوة من طرف الوهابية".

ساهمت هذه الأزمة الحادة في التشكيك في استقرار النظام القائم وفي مشروع الاندماج السياسي للإسلاميين المعتدلين، كما تسببت بموجة من الاعتقالات شملت نحو 3 آلاف سلفي.

"كان النظام مجبرا على التصرف بهذه الطريقة"، يقول دكتور علم الاجتماع الديني، وذلك لمواجهة العديد من التحديات المستجدة، جرى اتخاذ إجراءات لإعادة هيكلة الوزارة الوصية، وإعادة النظر في مجالس العلماء وإصلاح التعليم الديني.

استهدفت التدابير الجديدة مراجعة سياسة تدبير المساجد، وجرى إنشاء مديرية خاصة بها داخل وزارة الأوقاف، وإيقاف عدد من الخطباء والقضاء على المساجد "العشوائية"، حسب وصف الحكومة. وأطلقت الوزارة المختصة مشروعا جديدا لإعادة هيكلة الحقل الديني.

وإنْ كان عبد السلام البلاجي، دكتور الدراسات الإسلامية والعلوم السياسية والنائب البرلماني عن حزب العدالة والتنمية المغربي، ما زال يتساءل عن الجهات التي قامت بأحداث 2003؛ خصوصا بعدما تبرأت منها المدارس السلفية في المغرب، فإنه يرى رد الفعل القوي للدولة "أمر طبيعي، وأنه كان بحجم صدمة المجتمع من الأعمال العنيفة التي أسقطت أرواحا بريئة".

ما استدعى، حسب البلاجي، حذرا وتشددا أكثر في الاستناد إلى المرجعية الإسلامية. وزاد في حديثه لـ"الاستقلال"، قائلا: "حتى من انقلبوا على الخلافة الرشيدة ادعوا أن مرجعيتهم دينية". ويرى البلاجي أنّ "المقاربة الشاملة كانت ستصبح أنجع من الاقتصار على الأمنية فقط".

وبحسب عبدالإله السطي، الباحث في الإسلام السياسي: "بعد تفشي مظاهر التطرف وتنامي خطاب الكراهية والعنف المادي باسم الدين، أصبح ضمان الأمن الديني من واجبات والتزامات الدول".

ولفت السطي، في حديث لـ"الاستقلال": إلى أنّ "المغرب منذ أحداث 2003 وما شكلته من تداعيات اجتماعية وسياسية وأمنية، بدأ في إصلاح الحقل الديني؛ عبر اتخاذ مجموعة من الإجراءات والتدابير المؤسساتية من أهمها إعادة هيكلة أدوار القنوات الدينية، والمعرفة الدينية".

وكانت من مخرجات الإصلاح، إعادة الاعتبار لدور المسجد وخطب الجمعة بالأساس، وتسخيرها خدمة لنقل الخطاب الديني الداعي إلى الانفتاح والقبول بالاختلاف والتسامح مع الآخر، وكذلك إصلاح المدارك والمعارف الدينية من خلال الكتاب المدرسي عبر إدخال مناهج دينية مواكبة للعصر، لهذا يمكن القول أن الهاجس الأمني شكّل أحد العناصر الأساسية لتزكية وصاية الدولة على الشأن الديني في المغرب.

"سدّ الثغرات"

حتى وإن كان يتبع نموذجا بعيدا عن التشدد فإن منتصر حمادة، الباحث بمركز المغرب الأقصى للدراسات، يرى أن "الرقابة على المجال الديني تهم جميع الدول الإسلامية، مع استثناء الدول المسيحية بمقتضى تباين علاقة الدين بالدولة".

وأعرب عن اعتقاده بأنه "يكفي مقارنة تدبير أي دولة مسلمة للمجال الديني، مع وجود فوارق بين التدبير بين هذه الدولة أو تلك، وخاصة الفوارق المرتبطة بمؤشر الحرية أو التعددية الدينية، بحسب وجود أقليات دينية مثلاً، أو أقليات مذهبية، كما هو الحال في السعودية مع الأقلية الشيعية، أو في إيران مع الأقلية السنية، بخلاف الحالة المغربية التي لا تضم أقلية مذهبي".

هذه الرقابة، حسب تصريح حمادة لـ"الاستقلال"، متوقعة لاعتبارات عدة، منها ما هو خاص بالدين الإسلامي، وبالتحديد أهمية وتأثير الخطاب الديني. هذا التأثير يظهر في الاستقطاب والدعاية، كما هو الحال مع المشاريع الإسلامية الحركية، أو في الحفاظ على "شوكة الدولة" حسب الاصطلاح الشرعي. إضافة إلى أهمية هذا الخطاب الديني في تمرير رسائل توعية للمجتمع، ذات صلة بالهوية أو الثقافة أو السياسة أو الاجتماع، وكل تفريط أو فوضى في ضبط هذا الخطاب، يغذي الانقسام والصراع.

لا تتوقف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية عند مراقبة خطب الجمعة التي يلقيها الخطباء على منابرهم، بل إن الأمر يصل إلى مراقبة صفحاتهم على شبكات التواصل الاجتماعي، حتى "لا يخرجوا عن ما يتوافق مع الثوابت وما يناسبها من شرح أحكام الدين ومكارمه".

تفسيرا لذلك، لجأ السطي، لما تقدمه "السوسيولوجيا الدينية" من تفسيرات تبسيطية في هذا الباب، من خلال النظر للدين من زاوية وظيفته الاجتماعية، فلطالما شكّل المقدس الديني مجالا للصراع السياسي والاجتماعي من أجل خدمة مصالح طائفية أو فئوية. وهو بذلك يتحول إلى أداة أيديولوجية  لخدمة مصالح القوى السياسية المتناقضة في المجتمع، مما يعرّض النص الديني لتأويلات مختلفة ومتعارضة، فينتقل النص الديني بذلك من مجال المقدس إلى مجال المدنس، حسب تعبيره.

هذا ما يفسر، حسب الباحث في الإسلام السياسي، وصاية الدولة على الشأن الديني، وقنوات تصريفه سواء بالمساجد أو بالزوايا أو عبر المعارف التعليمية أو الإعلامية، حتى لا يوظف لخدمة توجهات أو فئات سياسية. من جهة أخرى، ما يفسر هذه الوصاية أيضا هو خشية الدولة من أن يتسرب خطاب التطرف، والتشدد لقنوات التنشئة والتعبئة الدينية، وما يشكل ذلك من مخاطر على المستوى الأمن الديني والروحي للمواطنين.

 الدولة ليست وحدها صاحبة القرار

في عام 2016، أخضعت وزارة التربية الوطنية المغربية مناهج ومقررات التربية الإسلامية، في المدارس المغربية، للمراجعة الشاملة، مراعاة "للهوية الوطنية بثوابتها الدينية ومكوناتها المتعددة".

المقررات ليست نصا مقدسا، يقول المفكر الإسلامي عبد السلام البلاجي، موضحا أن الدولة المغربية رغم كونها إسلامية دستوريا لكن هناك تيارات فكرية متعددة تسير مع شرعية الدولة.

ورأى البلاجي في تصريحه لـ"الاستقلال" أنه من الطبيعي أن يكون هناك من يطالب بإلغاء المناهج الدينية من التعليم، وهناك من يدّعي أنها تتناقض مع التزامات المغرب الدولية في مجال حقوق الإنسان والاتفاقيات التي عقدها.

ووصل الصراع الثقافي المجتمعي حول المرجعية، إلى حد ادعاء البعض أنها هي السبب في "الإرهاب والتمييز بين الجنسين"، وهذا الصراع تكون فيه الغلبة للاتجاه العام للمجتمع المحافظ وهو الاتجاه الإسلامي، وأحيانا تكون الغلبة لمراكز القرار التي تراعي التزامات دولية للمغرب أو ضغوطا خارجية تؤدي إلى نوع من الإرضاء لهذه الأطراف؛ حتى لا يتم عزل المغرب دوليا ومعاقبته اقتصاديا.

وبعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001 والحملة الإعلامية الأمريكية على المدارس القرآنية في العالم، سارعت عدد من الدول ومن بينها المغرب إلى إعادة تنظيم ومراقبة المدارس العتيقة والكتاتيب القرآنية، فصدر قانون التعليم العتيق في المغرب سنة 2002 لتنظيم الترخيص لهذا النوع من التعليم ومناهجه ومواده وضبط عمليات التفتيش والشهادات والتوظيف.

 علاقة الدين بالملكية

وتعد "إمارة المؤمنين" هي المرجعية الإسلامية العليا للشعب المغربي، حسب ما ينص عليه الدستور، وهي التي تقدّم التفسير والتأويل المعتمد للدين، وهي التي ترجّح الاجتهاد اللازم اتباعه. هذا السمو مستمد من الفقه الإسلامي عموما، وخصوصا الفقه المالكي المعتمد رسميا في المغرب، والذي يقرر أن رأي أو حكم الحاكم يرفع الخلاف في الأمور الاجتهادية.

في كتابه "الحقل الديني المغربي.. ثلاثية السياسة والتديّن والأمن"، اعتبر الباحث المغربي المتخصص في التنظيمات الإسلامية، محمد ظريف، أن "الثلاثية تتحرّك ضمن نسق سياسي يرفض أن يكون علمانيا".

منذ استقلال المغرب، لم تكن السلطة السياسية راغبة في إحداث فصل مطلق بين الفعل الديني والفعل السياسي، كما لم تكن راغبة في إحداث تماهٍ أو تماثل مطلقين بينهما. ويكشف ذلك، حسب الكاتب، "طبيعة النسق السياسي الذي يراد له أن يكون شبه علماني أو علمانيا مع وقف التنفيذ، بالقدر ذاته الذي يفسر طبيعة السياسة الدينية المعتمدة".

ترتكز السياسة الدينية في المغرب على الوصل بين الدولة والسياسة على مستوى الملك بوصفه أميرا للمؤمنين؛ حيث يحق للملك وحده أن يجمع في شخصه بين الصفة الدينية والصفة السياسية.

أما العنصر الثاني، فيقوم على الفصل بين الدين والسياسة حين يتعلق الأمر بباقي الفاعلين؛ حيث لا يجوز لأي فاعل سياسي أن يتدخل في قضايا ذات طبيعة دينية، كما لا يجوز لأي فاعل ديني أن يتدخل في قضايا ذات طبيعة سياسية. وبهذه الصيغة، سعى النظام السياسي المغربي إلى الحفاظ على توازناته من جهة، وإلى احتكار التأويل الديني من جهة أخرى.

حتى وإن كان سياقه السياسي، والذي طبعه وصول رياح الربيع العربي إلى المغرب التي رفعت شعار الملكية البرلمانية، فإن دستور 2011 عاد لينص على المرتكزات الدينية الأساسية للنظام. ورغم تقسيم الفصل 19 إلى فصلين (41 و42) والتخلي عن الصيغة القديمة التي كانت تنص على قدسية شخص الملك، فقد تم الحفاظ على المكانة السامية للملك.

على مستوى البنية الدستورية المغربية، نجد في الشق المتعلق بسلطات الملك، حقلين أو فضاءين أساسيين؛ فضاء سياسي وهو ما ينص عليه الفصل الـ41 الذي يبسط صلاحيات الملك وسلطاته كرئيس للدولة، ثم الفصل الـ42 الذي يبسط صلاحيات الملك كأمير للمؤمنين وكوصي على الشأن الديني بالمملكة.

النص الدستوري، حسب الباحث في الإسلام السياسي عبدالإله السطي، هو مؤشر على أن "الدين يشكل مجالا للحكم في المغرب، من خلال آلية البيعة وحقل إمارة المؤمنين الذي يستمد وجوده وشرعيته من الدين، وقد برز دور هذا الحقل بشكل أساسي من خلال الوظائف التي قام بها  بعد الصراع السياسي الذي نشب بعد الاستقلال مع المعارضة السياسية لأحزاب الحركة الوطنية، ثم بعد تنامي بعض مظاهر التطرف والتشدد الديني الذي عبرت عنه أحداث 16 مايو/ أيار".

"لا مجال للمنافسة"

ليس في المغرب فقط، بل إن المجال الديني في البلدان العربية والإسلامية هو مجال حساس لارتباطه بعقيدة الناس وسلوكهم وحياتهم، حسب الباحث الإسلامي البلاجي. وأي فاعل اجتماعي أو ثقافي أو سياسي إذا استند إلى هذا المجال يجد قبولا في المجتمع، أما إذا تنكر له فهو سيجد رفضا في المجتمع، وفق تعبيره.

 المجال الديني، هو ميدان للاستناد والاحتكاك وأيضا للمنافسة، والسلطة تستند إلى المرجعية الدينية ولا تريد أن يكون لها منافس في هذا المجال. حتى فرنسا، العريقة في العلمانية لديها حساسية في المرجعية الإسلامية، وليست لديها أي حساسية في مرجعيات أخرى؛ لأن الدين الإسلامي ليس طقوسا تعبدية فقط، بل إنه منهج حياة. هذا المنهج يتقاطع أحيانا مع المنهج الذي تتبناه الدولة ويختلف معها، منطقة الاختلاف هذه تشكل مجالا للتنازع في حالة الدول العلمانية.

وفي حالة الدول الإسلامية التي لها مرجعية دينية، نقاط الاختلاف تشكل نقط تقاطع، لذلك هي تفضل أن لا يكون هناك طرف ينازعها فيها، حتى إن لم تكن تستند إليها؛ لأنها تنظر إليه كمنافس قوي لا يمكنها مجابهته.

أما عن العلاقة المضطربة بين الدولة المغربية والحركات الإسلامية وأبرزها "العدل والإحسان"، يعتقد السطي أن "خصوصية الدولة المغربية في التعامل مع هذه الحركات تكمن بشكل أساسي في أن الشأن الديني هو شأن للدولة، ومجال الدعوة والتنشئة الدينية هو مجال محفوظ لسلطة الدولة، وبالتالي التوظيف السياسي للدين يستمد جوهره من منطوق الدستور الذي يجعل من المؤسسة الملكية هي الوصي الوحيد على الشأن الديني، من خلال آليات ومؤسسات الدولة الرسمية".