الأزمات تحرق لبنان.. لماذا تعجز الدولة عن محاصرة الفساد؟

مهدي محمد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

لم تكد أزمة الوقود تُحل، حتى طفت على السطح قضية نقص الخبز، ثم ابتُلي لبنان بحرائق غير مسبوقة أتت على الأخضر واليابس في مناطق عدة، لتضاف إلى أزمة اقتصادية طاحنة، ويكشف كل هذا عن عجز واضح من قبل المسؤولين على المستويات كافة.

وبينما يئن البلد المشتعل تحت وطأة الأزمات، تنشغل الدولة بطبقتها الحاكمة في قضايا فرعية، رغم أهميتها، لكن كان المواطن البسيط المحاصر بين النيران هو الضحية التي لم يلتفت إليها أحد.

وطلب وزير العدل ألبرت سرحان من سلك القضاء فتح تحقيق في الملابسات والأسباب التي أدت إلى اندلاع الحرائق، وذلك لمعرفة إن كانت مفتعلة.

الدولة عاجزة

على مدار يومين، عجزت الدولة اللبنانية عن احتواء أزمة سلسلة الحرائق غير المسبوقة التي التهمت مساحات خضراء شاسعة وحاصرت مدنيين في منازلهم بمناطق جنوب بيروت والشوف، قبل أن تتوسع لتطال مناطق في شمال البلاد وجنوبها.

وقُتل مدني على الأقل في منطقة الشوف أثناء تطوعه لمساعدة فرق الإطفاء على إخماد حريق، وفق ما أعلنت عائلته، وفي منطقة المشرف جنوب بيروت، أتت النيران، على عدد من المنازل وأحرقتها بالكامل، وأخلى سكان منازلهم بسبب الاختناق الشديد، وغطت سحب الدخان مداخل بيروت والشوف وصيدا جنوبا.

الدفاع المدني اللبناني أحصى اندلاع أكثر من 100 حريق، لم تتمكن فرقه من إخمادها لتساهم سرعة الرياح في اتساع رقعة النيران، قبل أن تتراجع تلك الحدة نسبيا مساء الثلاثاء، بعد تطويق عدد منها وبدء تساقط الأمطار في مناطق متفرقة.

العجز الذي قد يراه البعض مألوفا في حوادث مشابهة، تجلى عندما قرر لبنان الاستعانة بطائرات من دول مجاورة لإخماد الحرائق، فيما اتهم ناشطون الأجهزة المعنية بالتلكؤ في محاصرة النيران رغم توفر الإمكانات اللازمة لذلك.

بيان للجيش اللبناني، قال: إن قبرص أرسلت طائرتين شاركتا مع طوافات للجيش في عمليات إخماد الحرائق، كما وصلت 4 طائرات يونانية وأردنية بتقنيات متطورة، مع تعهد تركي بالمساهمة في الأمر.

رئيس الحكومة سعد الحريري عبر صراحة عن كم العجز والفشل الباديين في المواجهة الرسمية للحرائق، قائلا: "لم نترك جهة إلا واتصلنا بها للمساعدة، وأجرينا اتصالات بالأوروبيين الذين سيرسلون وسائل مساعدة".

وشهدت الأحداث تفاعلا كبيرا من جانب فنانين ونشطاء ومشاهير لبنانيين، عبر وسم #لبنان_يحترق، انتقد غالبيتهم التقصير الحكومي في مواجهة الحرائق، وكان أبرزهم المطرب راغب علامة الذي غرد عبر تويتر: "في لبنان وفي كل صباح نسمع عن عشرات بل مئات الفضائح لكن لا وجود على الإطلاق لمن يحاسب... مجلس النواب وأجهزة الرقابة أين أنتم؟".

الإعلامية منى أبو حمزة أعادت متعجبة تغريدة لأحد المواقع الإخبارية جاء فيها: "اشترى لبنان ثلاث طائرات سيكورسكي لإطفاء الحرائق بقيمة حوالي 14 مليون دولار أمريكي، وهي مرمية منذ سنوات في مطار بيروت بسبب عدم توافر نفقات لصيانتها، بينما أحراج لبنان تحترق والحكومة تُناشد نظيرتها القبرصية إرسال طائرات إطفاء للمساعدة!".

أزمات تحاصر لبنان

المثير أن حرائق لبنان، تتزامن مع العديد من الأزمات التي تمس الحياة المعيشية اليومية للمواطن البسيط، فلم تكد أزمة الوقود ترواح مكانها، حتى استيقظ اللبنانيون على بلادهم بلا خبز، والأفران موصدة أبوابها.

وتمت معالجة أزمة المحروقات وأنهت محطات الوقود إضرابها، قبل أيام، إثر تعميم لمصرف لبنان المركزي، أجاز للمصارف فتح اعتمادات بالدولار الأمريكي لمستوردي كل من المحروقات والأدوية والقمح.

وشمل التعميم: "أنه يمكن للمصارف التي تفتح اعتمادات مستندية مخصصة حصرا لاستيراد المشتقات النفطية (بنزين، ومازوت، وغاز) أو القمح أو الأدوية، الطلب من مصرف لبنان تأمين قيمة هذه الاعتمادات بالدولار الأمريكي، على أن تتقيد بفتح حسابات خاصة لكل عملية موضوع الاعتمادات المستندية، لدى مصرف لبنان".

إلا أن أصحاب المطاحن - الذين علقوا إضرابهم لاحقا بصفة مؤقتة بعد وعد الحريري بحل أزمتهم - قالوا: إن التعميم لا يغطي الآلية المعتمدة لاستيراد القمح، بما يعيقهم عن العمل في ظل مخزون لا يكفي الأسواق سوى لشهر ونصف الشهر.

وأوضحوا: أن المطاحن لا تعتمد في عمليات استيراد القمح على وسيلة فتح الاعتمادات المصرفية بل تتبع طريقة السيولة مقابل المستندات cash against documents، وبالتالي تعمل على تحويل الأموال مباشرة عبر المصارف إلى الموردين مقابل إرسال أوراق الشحن، أي أنه لا يتم فتح أي اعتمادات.

وبعد مشهد أرتال السيارات أمام محطات الوقود الجمعة الماضية قبل حل أزمة الوقود، تكرر مشهد الازدحام، حيث شهدت الأفران، مساء الأحد الذي يليه، ازدحاما غير اعتياديا من قبل مواطنين تهافتوا على شراء كميات من الخبز الإضافي، تحسبا لاستمرار الإضراب، وحتى قبل بدء موعد الإضراب المفتوح، اختفى الخبز من المحلات التجارية تحت وطأة تهافت المواطنين على تخزينه في منازلهم.

وزارة الاقتصاد شددت على أن: "لقمة المواطن خط أحمر" وأن وزيرها سيستخدم صلاحياته القانونية لمنع المس بربطة الخبز أو تخفيض وزنها من كيلو إلى 900 جرام.

وعلى وقع تراكم الأزمات المعيشية على خلفية الاستيراد بالدولار والبيع بالليرة، عاد الضباط والعسكريون المتقاعدون إلى الشارع متوعدين بالمزيد من التصعيد، احتجاجا على بعض بنود الموازنة التي تمس مستحقاتهم المالية، تخفيضا للنفقات.

ما يحدث من توالي الأزمات جراء شح الدولار، يثير مخاوف اللبنانيين من أن تطل أزمة الدواء برأسها، نظرا لارتباطها بالدولار أيضا، وما قد ينتج عن فقدانه من مخاطر على حياة مئات الآلاف من المرضى.

اقتصاد ينهار

القاسم المشترك في كل الأزمات المعيشية التي تضرب لبنان حاليا، هو الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعتبر الفساد أحد أهم أسبابها فضلا عن فوائد ديون إعمار لبنان بعد اتفاق الطائف، ثم العقوبات الأمريكية على حزب الله.

وخلصت دراسة، أعدها مركز الجزيرة للدراسات، إلى أن الانكماش الاقتصادي وارتفاع الدين العام والعجز المالي هو نتاج تراكمات لنظام سياسي يحمل في طياته بذور التناقضات والصراعات، ولنهج اقتصادي ريعي غير منتج تمتد جذوره منذ نشأة الجمهورية اللبنانية.

وربما يتوقع أفضل المتفائلين، انهيارا لاقتصاد البلاد، خاصة بعد التصنيفات من وكالات التصنيف الدولية: فيتش التي خفضت تصنيف لبنان إلى CCC، وموديز التي كان تصنيفها بمستوى C، وبانتظار ستاندرد آند بورز والتي يعتبر تصنيفها بمنزلة الإنذار الأخير.

التصنيف المنخفض يعني انعدام الثقة بسندات الخزينة اللبنانية وبقدرة الدولة على سداد مستحقاتها المالية، ما يحدث مزيدا من ارتفاع الفوائد وبالتالي ارتفاع كلفة الدين العام، وأيضا مزيدا من الضغط على الليرة اللبنانية.

لم يتجاوز نمو إجمالي الناتج المحلي في لبنان، بحسب البنك الدولي، 0.2% في عام 2018، وارتفع معدل التضخم في العام نفسه ليبلغ في المتوسط 6.1%، وارتفع في نفس العام عجز الحساب الجاري إلى أكثر من 25% من إجمالي الناتج المحلي بسبب اقتران النمو المنخفض للصادرات مع ارتفاع واردات المحروقات، وتراجع صافي تحويلات العاملين في الخارج إلى لبنان.

وصرح حاكم مصرف لبنان لوكالة "رويترز" على هامش مؤتمر "يوروموني"، في 25 يونيو/حزيران 2019، في بيروت، أن معدل النمو في البلاد بلغ صفرا % منذ بداية 2019، ولكن في حقيقة الأمر، وبحسب المعطيات الاقتصادية، فإن النمو الاقتصادي الحقيقي قد يصبح سلبيا، وفق الدراسة.

النمو السلبي ينعكس على حياة الناس وحاجاتهم اليومية ومستوى معيشتهم، حيث تزداد معدلات البطالة وتقل الاستثمارات وتزداد الحاجة إلى الاستيراد ويزداد الطلب على الدولار.

ويعتمد الاقتصاد اللبناني بشكل كبير على الاستهلاك؛ إذ بلغ متوسط الاستهلاك الخاص 88.4% من الناتج المحلي خلال الفترة 2004-2016، بل يتم استيراد الجزء الأكبر من البضائع الاستهلاكية، وهذا يعني بحسب الدراسة، أن اللبنانيين يأكلون مما يستوردون أكثر مما ينتجون.

ولم تعد الدولارات التي يحصل عليها لبنان كافية لتسديد ما يتوجب عليه للخارج، وبلغ العجز التراكمي حتى الآن 18 مليار و351 مليون دولار، وهذا يعني استنزافا متواصلا لصافي الأصول الأجنبية في لبنان، فأحدث هذا العجز مزيدا من الطلب على الدولار وتهديدا لاستقرار سعر الليرة.

بينما يعاني الشعب اللبناني الأمرين، انشغلت طبقته الحاكمة بمعارك سياسية أشعلت حرائق لا تقل ضراوة عن حرائق جبال لبنان، وكأن تلك الطبقة غير معنية بأزمات الناس، فهي في واد والشعب في واد آخر.

المعارك السياسية امتدت إلى ما قال الحريري إنها افتراءات تسعى لتشويه صورته، بعد أن نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية وثائق من محكمة في جنوب إفريقيا قالت إنها تشير لتقديم رئيس الوزراء اللبناني أكثر من 16 مليون دولار لعارضة أزياء في عام 2013.

ورغم الانتقادات الواسعة التي قوبل بها الخبر، إلا أن ما يضعه في خانة المعارك السياسية عدة أمور أبرزتها الصحيفة، فعند تحويل الأموال لم يكن الحريري رئيسا للوزراء، كما أنه لم ينتهك القوانين اللبنانية أو الجنوب إفريقية، كما لا توجد دلائل على أن مبلغ الهدية قد حُوّل من المال العمومي اللبناني، وأن الحريري، كان غنيا بما يكفي لإرسال هذا المبلغ.