نزيف مستمر.. لماذا تخسر مصر قضايا التحكيم الدولي؟

مهدي محمد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

لم يسمع المصريون عن قضايا التحكيم الدولي المرتبطة بالاقتصاد والعقود الاستثمارية، إلا بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، عندما بدأت قضايا الفساد في عهد محمد حسني مبارك تتكشف للعلن، واستنزفت جيوب المصريين.

آخر القضايا التي خسرتها مصر، تتعلق بالعاصمة الإدارية الجديدة، التي لطالما روج لها نظام عبدالفتاح السيسي باعتبارها إنجازا كبيرا ومشروعا قوميا، إلا أن روائح الفساد المنبعثة من قصورها ومبانيها باتت تزكم الأنوف، وتخطت حدود البلاد.

رائحة الفساد

الاقتصادي ورجل الأعمال المصري "محمود وهبة"، كشف جزءا من هذا الفساد، شهدت عليه 14 دعوى تحكيم دولي ضد مصر ينتظر أن يبلغ مجموع تعويضاتها نحو 10 مليارات دولار، بسبب تجاوزات في عقود المشروعات بالعاصمة الجديدة.

وعبر منشور في حسابه على "فيس بوك"، قال وهبة: إن مصر خسرت قضية تحكيم دولي جديدة في "المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار" ICSID هذا الأسبوع، موجها أصابع الاتهام لمجموعة من لواءات الجيش الذين "يتلاعبون بالمقاولين" من أجل تحقيق "مكاسب مالية شخصية دون انتباه للقانون الدولي والتحكيم".

وأوضح الخبير في قضايا التحكيم المقيم في واشنطن: أن الشركة المعنية بالقضية الأخيرة هي شركة الأنابيب الهولندية "فيتوشر بايب إنترناشونال بي.في" (Future Pipe International B.V) التي كانت تعمل في العاصمة الجديدة، ولجأت إلى التحكيم في المركز وربحت تعويضا جزئيا، فيما لا تزال القضية منظورة لمزيد من التعويضات.

 

وبالدخول إلى الموقع الإلكتروني لمركز "إكسيد"، ظهر الملف الخاص بقضية الشركة الهولندية، المرفوعة في 24 أغسطس/آب 2017، وتحمل الرقم (ARB/17/31)، وأنها لا تزال قيد الدراسة.

ويمثل مصر باعتبارها المدعى عليه في القضية، هيئة قضايا الدولة، ومكتب محاماة فرنسي يدعى "Derains & Gharavi".

بالإضافة إلى قضية الشركة الهولندية، كشف وهبة أن تحالفا يضم 13 شركة كويتية تعمل في مشروعات بالعاصمة الإدارية، رفعت دعوى جماعية في مركز التحكيم الدولي "إكسيد" ضد مصر.

وبتصفح القضايا المرفوعة ضد مصر في المركز من خلال موقعه الإلكتروني، تظهر قائمة تحتوي على 34 دعوى تحكيم دولي من شركات وأفراد، 24 منها مكتملة، أي تمت تسويتها بدفع التعويضات المقررة، و10 أخرى ما تزال قيد الدراسة.

اللافت أن أحدث تلك القضايا مرفوعة في 17 سبتمبر/أيلول الماضي من قبل فرع الشركة المعروفة اختصارا باسم (CTIP Oil & Gas) الإيطالية في الإمارات، والمتخصصة بتوريد معدات حقول النفط والغاز، وتتعلق باتفاقية لبناء خطوط أنابيب الغاز وتشغيلها، بحسب موقع "إكسيد".

وتشير تقديرات شبه رسمية إلى أن مصر خسرت خلال العقد الماضي فقط قرابة 74 مليار دولار سددتها خزانة الدولة كتعويضات لدول أجنبية في قضايا التحكيم الدولي، حصدت إسرائيل النصيب الأكبر منها برصيد 4 قضايا، بجملة تعويضات تجاوزت 13 مليار دولار.

وقضايا التحكيم هذه تستنزف الدولة المصرية ويستمر معها، مسلسل إفلات المسؤولين من العقاب، فالتعويضات تُدفع جبرا من ميزانية الدولة، بينما لا يلتفت أحد إلى المسؤول عن كل ذلك.

أصول التحكيم

والتحكيم وسيلة لحسم منازعات العقود التجارية والاستثمارية بين الأفراد والكيانات (الشركات والهيئات) في حال التحكيم التجاري، وبين حكومات ومستثمرين أجانب في حال تحكيم الاستثمار، ويطلق عليه القضاء الخاص.

وتحكيم الاستثمار تنظمه اتفاقيات دولية عدة، أبرزها اتفاقية واشنطن لتسوية المنازعات بين الدول المضيفة والمستثمرين لعام 1965، والتي أنشأت مركزا تابعا للبنك الدولي اسمه "المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار ICSID"، والمعروف باسم "إكسيد" اختصارا.

في هذه الآلية لا يشترط للمستثمر كي يرفع دعاوى ضد حكومة دولة ما أن يكون منصوص في عقده بشكل صريح على التحكيم الدولي، لكن يكفيه أن ينتمي إلى دولة بينها وبين مصر اتفاقية لحماية وتشجيع الاستثمار، وهي المظلة التي تشمل 100 دولة في حالة مصر، وأغلب تلك الاتفاقيات تتضمن نصوصا تسمح بمقاضاة الدولة أمام "إكسيد".

وتوصف قضايا التحكيم الدولي بأنها ملزمة وباتة ولا يجوز الطعن عليها وتلتزم الحكومات بدفعها في حال صدورها، وهذه النوعية من الأحكام التي تواجهها مصر لا يجوز النقض أو الاستئناف عليها، ما يعني أنها واجبة النفاذ.

فضائح الغاز

المثير أن تفجر قضايا التحكيم الدولي المرتبطة بالعاصمة الإدارية الجديدة، يأتي بعد عام واحد فقط من خسارة مصر لقضية تحكيم، صدر فيها قرار بإلزام مصر بدفع 2 مليار دولار كتعويض عن توقف إمداد الغاز لمحطة إسالة الغاز في دمياط التي تديرها شركة "يونيون فينوسا" الإسبانية.

قرار التعويض جاء على خلفية توقف إمدادات الغاز المصرية للمحطة في 2012 بعد قرار من الحكومة المصرية لحاجة السوق المحلي بسبب أزمة الطاقة خلال تلك الفترة. وبحسب هيئة التحكيم بالقضية المرفوعة عام 2014، فإن مصر أخفقت في توفير معاملة عادلة للمستثمرين، وأخلت باتفاقية حماية المستثمرين اللتي وقعتها الحكومة المصرية مع إسبانيا.

وآنذاك، نقلت صحيفة "فايننشيال تايمز" عن مصادر قولها: إن مبلغ التعويض سيتم تسديده من نصيب مصر في غاز حقل "ظهر" الذي تملك فيه شركة "إيني" الإيطالية حصة كبيرة، بصفتها شريكة للشركة الإسبانية الحاصلة على حكم التعويض.

ونقل بيان وزارة البترول حينها، عن دفاع مصر في القضية قوله: إن انخفاض كميات الغاز الموردة كان بسبب الأحداث المصاحبة لثورة يناير وما أعقبها، وهو ما ينطبق عليه وصف: "حالة القوة القاهرة".

لكن هذا الدفاع نسي أو تناسى، أن مصر خسرت قضية التحكيم في تصدير الغاز إلى إسرائيل رغم تعرض خط الغاز لتفجيرات متتالية لأن الحكومة مسؤولة عن تأمين الخط، فمن الطبيعي أن يتكرر الأمر عند قضية تتعلق بمحطة إسالة لم تتعرض لأية هجمات.

ومن أشهر قضايا التحكيم التي خسرتها مصر، قضية شركة الكهرباء الإسرائيلية وشركة غاز شرق المتوسط (حسين سالم) بسبب وقف تصدير الغاز لإسرائيل، والتي حُكم فيها على مصر، ديسمبر/كانون الأول 2015 بتعويض 1.7 مليار دولار لشركة الكهرباء، و288 مليون دولار لشركة الغاز.

تقارير إعلامية مصرية وإسرائيلية، كشفت أن التعويض الذي لم تفلح جهود تخفيضه، سيتم سداده من نصيب الحكومة المصرية من الصفقة الأخيرة الخاصة باستيراد الغاز الإسرائيلي لصالح شركة "دولفينوز" التي ستعيد التصدير بعد إسالته لأوروبا، بحكم ملكية الحكومة لنسب معينة في خطوط ومحطات تسييل الغاز.

وربما لا ينسى كثيرون التصريح المثير لرئيس النظام عبدالفتاح السيسي في فبراير/شباط 2018، بعد توقيع اتفاقية استيراد الغاز الإسرائيلي، بتعبيره الذي أثار موجة من الجدل حين وصف الصفقة بقوله: "إحنا جبنا جون يا مصريين في موضوع الغاز".

ورغم حديث المسؤولين حينها، عن اشتراط تنازل إسرائيل عن قضايا التحكيم لتوقيع الصفقة، إلا أنه جرى توقيعها، وقيمة التعويض وجدت طريقها إلى تل أبيب.

من المسؤول؟

وعلى الرغم من الأسباب الفنية والقانونية التي أدت لتحول قضايا التحكيم الدولي في منازعات الاستثمار إلى باب يستنزف قوت المصريين، إلا أن الأسباب السياسية تأتي في المقدمة.

بحسب مراقبين، فإن الفساد الذي شاب عهد مبارك أسفر عن قضايا تحكيم عديدة خاصة في مسألة الغاز وعقود خصخصة شركات الدولة، الأمر الذي عانت منه مصر على مدار سنوات.

الآن، بجانب الفساد، فإن ما شهدته القضايا الخاصة بالعاصمة الإدارية الجديدة وربما ما ستشهده لاحقا يكشف زاوية أخرى من الفساد المبني على تحكم المؤسسة العسكرية في مفاصل الاقتصاد، وسيطرة مجموعة صغيرة من الجنرالات النافذين على مقاليد الأمور.

في يوليو/تموز 2016، أعلنت مصر تمسكها برفض بند التحكيم الدولي في عقود شركات الطاقة المتجددة التي كان يفترض أن تعمل بمحطات الطاقة الشمسية الجديدة بمدينة أسوان، فأدى ذلك إلى انسحاب 25 شركة من تنفيذ المشروع.

ولعل السبب الرئيس لرفض المستثمرين، اقتصار النص على اختصاص مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي بالتحكيم في عقودهم، أن المحاكم المصرية ستكون مختصة بنظر بطلان حكم التحكيم، الأمر الذي يدفع لاتجاهين، إما تطبيق قوانين مصرية بحقهم أو تحمل شبهة الانحياز القضائي للطرف الحكومي، خاصة أن عدة محاكم أصدرت بالفعل أحكاما سابقة ببطلان عقود المستثمرين.  

رغبة الحكومة في خفض أعداد القضايا المرفوعة ضدها لمحو الصورة السيئة عن مناخ الاستثمار في مصر، هي السبب وراء إصرارها على رفض التحكيم الدولي، إلا أن إلغاءه في عقود المستثمرين يقود إلى النتيجة ذاتها وربما أسوأ.

الخبير محمود وهبة، طالب المسؤولين المصريين باحترام العقود وحقوق المستثمرين، والتوقف عن القرارات العشوائية والمتضاربة التي تضر بمصر اقتصاديا ولا يدفع ثمنها إلا المواطن البسيط.

أما من الناحية الفنية والتقنية، فإن مصر تصر على إسناد القضايا المرفوعة ضدها إلى ذات مكاتب المحاماة بالخارج التي خسرت مصر معها قضايا سابقة، فضلا عن غياب إلمام المسؤولين بالقواعد القانونية في صياغة عقود الاستثمار.

أسباب الخسارة

يقول رئيس الغرفة العربية للتوفيق والتحكيم، والرئيس الأسبق لقسم القانون الدولي بجامعة عين شمس، إبراهيم أحمد: إن خسائر مصر فادحة من قضايا التحكيم الدولي المرفوعة ضدها.

وفي تصريحات سابقة، عدد خبير التحكيم الدولي أسباب خسارة مصر لمعظم قضايا التحكيم: أبرزها عدم صياغة العقود وبنود التعاقد مع المستثمرين بالصيغة الملائمة من البداية، بجانب إبرام عقود دون مراجعة قانونية تضمن حق الدولة، وعدم مراقبة المستثمرين منذ الخطوات الأولى للمشروعات ومتابعة تنفيذها، وعدم إثبات الأخطاء بشكل قانوني وإنذار المستثمر في حالة استمرار مخالفات المشروع.

وانتقد دور الدولة في منح إعفاءات ومزايا جمركية وضريبية لمستثمرين وهميين وغير جادين، وعدم الجدية في التعاقد على مشروعات حقيقة وليست وهمية من البداية.

وأوضح: أن تدريب كوادر شبابية على أصول وقواعد التحكيم الدولي، وعدم التعاقد مع محامين أجانب واستغلال الخبرات المصرية سيكون الحل الأمثل لتعزيز فرص مصر في الفوز بقضايا دولية وتقليل تكلفة تلك المرافعات وكذلك عدم الإساءة لسمعة مصر كما يفعل المحامون الأجانب.

في حين، أوضح الخبير الاقتصادي، أحمد رشدي: أن خسارة مصر لقضايا التحكيم الدولي ليست مادية فقط، لافتا إلى أن كثرة النزاعات المصرية مع المستثمرين الأجانب يسيء كثيرا إلى سمعة الاقتصاد القومي، ويؤثر سلبا على الاستثمارات والتعاقدات الجديدة، كما أن تصاعد نزاعات الحكومة مع المستثمرين وخسارتها للقضايا تباعا يكون له بالغ الأثر السلبي على التصنيف الائتماني للدولة.

وأشار رشدي في تصريحات سابقة لـ "العربي الجديد"، إلى أن: هناك العديد من الأسباب التي تُصعب موقف الحكومة المصرية في قضايا التحكيم، من أهمها نقص الكوادر والكفاءات والخبرات القانونية والاقتصادية في إبرام التعاقدات مع المستثمرين الأجانب، وكذلك ضعف الكوادر التي تتولى قضايا التحكيم، إضافة إلى شرط التحكيم في العقود الاستثمارية وسوء إدارة العقود التي تنص بنودها على شرط التحكيم.

وتم إنشاء مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي سنة 1979. والملاحظ هو إصرار المستثمرين الأجانب على عدم التعامل مع المؤسسات القضائية المصرية بدعوى تراكم القضايا وصعوبة إجراءات التقاضي والتمسك باشتراط اللجوء إلى مراكز التحكيم الدولية.

وحذر خبير القانون الدولي، أيمن سلامة، من خطورة استمرار ضعف موقف مصر في قضايا التحكيم الدولي وخسارتها قضية تلو الأخرى، لافتا إلى أضرار ذلك جسيمة على الاقتصاد المصري وخزانة الدولة وسمعتها في الأوساط التجارية والاقتصادية وكذلك القانونية.

وشدد على ضرورة تغيير الدولة لفلسفة تعاملها مع مثل تلك القضايا بإسنادها للكفاءات والخبرات المصرية وعدم مواصلة الاعتماد على محامين أجانب.