الفن الساخر في اليمن.. ما دوره في تشكيل وعي العامة؟

منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

يروي أحدهم أن الحوثيين اعتقلوا أحد اليهود من أبناء مدينة عَمران اليمنية وأودعوه السجن إلى جانب معتقلين آخرين من حزب الإصلاح، وبعد مرور أيام قال السجان لليهودي: "أسلم يا فلان وسوف نفرج عنك، فرد اليهودي: أفرجوا عن المسلمين أولا".

ارتبط الفن والأدب الساخران بنقد الحالة السياسية والاجتماعية، وقام بدوره في كشف الحالات السائدة متخذا أساليب عدة كالتندر والمجاراة والمحاكاة والتعريض.

وفي اليمن، برز هذا النوع من الفن، ورافق الثورة الشبابية السلمية، وكان ضمن أجندة شباب الثورة في ساحات الاعتصام، واتخذ أشكالا عديدة، منها التندر، والمحاكاة، والتمثيل، والمجاراة، كما ظهرت برامج تلفزيونية عدة تضمنت هذا النوع من الفن.

الكوميديا السوداء

تروي كتب التاريخ نصوصا قديمة عن أبو لينوس الساخر السياسي الأول في الإمبراطورية الرومانية، ثم في العصر الإسلامي "الحطيئة" ومن بعده إسماعيل بن القاسم (أبو العتاهية) وأبو العلاء المعري، وبشار بن برد والبحتري في العصور العباسية، وهي سخرية اتخذت طابعا أدبيا، الفن الأكثر شيوعا في ذلك العصر، وليس انتهاء بمُلَح برنادر شو السياسية، و"قفشات" الماغوط، وغيرهم.

ليس الغرض الأول للسخرية إضحاك العامة، وهي إن كانت تفعل؛ إلا أن القصد منها خلق وتشكيل وعي العامة تجاه قضايا سياسية حساسة انتهجتها الأنظمة، أو اجتماعية درج الناس على ممارستها، يقول الأديب الناقد الدكتور عبد الرحمن قحطان: إن "اتساع فضاءات الأدب الساخر في اليمن اليوم يأتي بسبب توالي الأحداث، وخروج النقد السياسي من دوائر الممنوع والمحظور".

ويضيف قحطان: "الأدب الساخر يندرج تحت لافتة الكوميديا السوداء التي تعكس الأوجاع السياسية والاجتماعية، في لغةٍ تبدو طريفة ومحايدة، لكنها في حقيقة الأمر متمرّدة، وتحمل من قيم الرفض الشيء الكثير".

حالات الرفض للواقع، إحدى موضوعات الأدب الساخر، وهو تعبير عن حالة العامة، وناطق بلسانها، وكلما كان النص الفني أو الأدبي ذكيا وصادقا كان أكثر فاعلية. وفي الدول التي ترفع سقف الديمقراطية، يستطيع الفن الساخر أن يتجاوز التبعات القانونية لما يقدمه، فهو يقولب نفسه بأشكال وأساليب تبدو ناعمة، في ابتعادها عن العنف، لكنها حادة وأكثر فتكا في أثرها على القضايا والمواقف.

الفن الساخر..  وتردي الحالة المعيشية

وارتبط الفن الساخر بالحالة الاقتصادية، على اعتبار أن الحالة المعيشية تمس العامة، ويكتوي بها المواطن البسيط بشكل مباشر، ذلك المواطن الذي لا يشعر بكارثية القرارات السياسية إلا في مخرجاتها الاقتصادية. يردد الناس مقولة قديمة أنه قال: "إذا رأيت الناس تكثر الكلام المضحك وقت الكوارث؛ فاعلم أن الفقر قد أقبع عليهم، وهم قوم بهم غفلة واستعباد ومهانة؛ كمن يساق للموت وهو مخمور".

وإن كانت هذه المقولة تحتاج لإثبات بالطرق العلمية المعتبرة، إلا أن الملاحظ أن التندر والسخرية ارتبطت بالوضع المعيشي للعامة، وتطورت لتتخذ أشكال الظواهر الاجتماعية السائدة في المجتمعات الفقيرة والأكثر فقرا.

هناك علاقة تفاعلية بين الفن الساخر، كوسيلة من وسائل النقد، وبين فرض القيود على حرية التعبير، فكلما فرضت القيود ولوّح الحاكم بالعقوبة على انتقاد الوضع السياسي أو حتى الاجتماعي، لجأ الناس للتندر والسخرية، بحسب ما هو متاح لديهم، وهي غريزة لا يمكن التحكم بها أو السيطرة عليها، فالفن الساخر بطبيعة الحال، متمرد في دوافعه، ومتمرد في طبيعة ما يقدمه من نصوص حادة ولاذعة.

ولعل هذا يبدو واضحا في تمرد الشاعر والأديب عبدالله البردوني، إذ يروي عنه أصدقاؤه، أنه كان إذا قال قصيدة ساخرة، في فترة الحكم الإمامي في اليمن، جهز فراشه ومتاعه استعدادا لدخول السجن،

أنواع الفن الساخر ورسالته

انتهج الفنان اليمني محمد الربع، أحد أبرز رواد الفن الساخر في اليمن، ومقدم برنامج "عاكس خط" الرمضاني الشهير، فن "المجاراة" في سخريته، فهو لا ينكر تصريحات الساسة ابتداءً ولا يصطدم بمقدماتها، بل يبدو كما لو كان يجاريهم في المقدمات التي يضعونها، ويجيزها لهم، ولكنه يخلص إلى نتائج متناقضة، ثم يضع العامة في مواجهة تلك النتائج بأسلوب ساخر، تلك التصريحات التي عادة ما تكون نتاج مغالطات منطقية، تنطلي على البسطاء، يقوم الربع، في هذا المسار، وبجهد شخصي، بتوثيق آلاف الساعات المصورة، ثم فرزها واستخراج التناقضات، وتقديمها للعامة بأسلوب فريد ساخر .

يقول الربع في حديث لـ"الاستقلال": إن "النكتة" السياسية صناعة تختصر رسالة طويلة في أحرف بسيطة، قادرة على الوصول إلى جميع فئات المجتمع، سواء كانت مجتمعات النخبة أو فئات البسطاء. وعن قياس أثر الفن الساخر على العامة، يقول الربع: نقدم الفن الساخر ونتناول القضايا السياسية والاجتماعية وحتى الدينية، ولدينا طريقتنا في قياس تأثير النكتة السياسية، إما بتداول الناس لجمل وعبارات مبتكرة على نحو واسع، من أمثال عبارة (فلان أكل تفاح) للدلالة على أنه لقي مصرعه، أو قياس حجم التفاعل وردود الأفعال على مواقع التواصل الاجتماعي.
أما محمد الأضرعي، الفنان اليمني الأشهر، فيعمد في أحد أساليبه إلى التمثيل، في أسلوب ساخر يتقمص فيه أحيانا شخصيات دينية، وشيعية بالذات، وفي سؤال للأضرعي عن مدى خطورة تناوله للرموز الدينية، أجاب في تصريح خاص بـ"الاستقلال" أن الأسلوب الساخر يكسر تلك التابوهات، و يكشف إلى حد كبير ذلك الدجل الذي يمارسه رجال دين في خطابات لا يقرها دين ولا منطق ولا عقل سليم. وأضاف الأضرعي: "هذا الأسلوب هو الأوضح والطريقة المباشرة لكشف ذلك الزيف، ولا رمزية دينية في الدجل، والضحك على البسطاء".

وكان الأضرعي قد نشط في ساحة الشباب إبان الثورة، وقدم عروضا  فنية ساخرة، وأعمالا أدبية مغناة، لاقت قبولا شعبيا واسعا، كما اشتهر بالتندر وقول الطرفة السياسية.

يقول علي الحجوري، الفنان التمثيلي الساخر، في تصريح خاص بـ"الاستقلال" إن العامة تكون، عادة، هي الفئة المستهدفة، وبما أنها كذلك فإن أقرب طريقة لإيصال ذلك النقد هو الفن الساخر؛ لسرعة انتشار النكتة السياسية في مجتمع يعيش وضعا مأساويا، وتكون النكتة السياسية فاعلة كلما كانت قادرة على تشخيص وتوصيف الأزمة، كما أن النكتة الساخرة قادرة على كسر صنمية ما يعتقد البعض أنها من المسلّمات، أما عن أداته لقياس هذا الوعي، يقول الحجوري إن ذلك متاح له من خلال وضع استبيانات على مواقع التواصل الاجتماعي.

أما محمد الحاوري، الفنان الأشهر في تقليد الأصوات، فيعتمد على فن المحاكاة، وتقمص شخصيات سياسية واجتماعية، في خطاباته، يؤدي فيها دورا في النقد؛ لإدراك ما يعتبره وضعا سياسيا واقتصاديا كارثيا.

تتعدد أنواع الأدب الساخر، فقد يكون فنا تمثيليا أو غنائيا، وقد يكون أدبا شعريا منظوما أو منثورا، وقد يكون مُلَحا وتندّرا، وكلها تعمل على خلق قيم سياسية واجتماعية وثقافية لدى العامة، وتمثّل أسلوبا موازيا لمناهج التوعية المنظمة، والملاحظ لهذا النوع من الفن والأدب يرى أنه لا يغيب في كل المجتمعات، ولا يمكن السيطرة عليه، سواء في تلك المجتمعات التي تضع سقفا عاليا من الحرية، أو تلك المجتمعات التي تعيش قدرا عاليا من القمع والرقابة، ويمكن إدراك ذلك من خلال مواقع التواصل الاجتماعي الذي مثلت وسيلة فاعلة لتداول الطرفة السياسية والأدب الساخر بجميع ضروبه وأشكاله، ووفرت أداة لقياس ذلك الأثر عبر المسح والاستبيان وقياس ردود الأفعال.