الشعبوية والدكتاتورية.. هل عاد الربيع؟ 

نزار كريكش  | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

نشرت مجلة "فورين أفيرز" عددها الأخير تحت عنوان "عودة الأوتوقراطية" والعدد شمل نماذج من صعود بعض القيادات السياسية في بلدان كروسيا والصين وتركيا والفلبين والهند والمجر، وملخص النمط الذي تريده المجلة أن مجموع هذه القيادات جاءت بعد فشل ذريع للنخب السياسية أو من خلال أحزاب كانت تبحث عن قيادات تعيد لها سطوتها وقتها كما في روسيا والصين. "بيت الحرية" وهو المؤسسة التي تعطي مؤشرات عن الديمقراطية في العالم يقول: إن الديمقراطية تشهد الركود الثالث عشر لها على مدى تاريخها منذ القرن التاسع عشر.

يبقى السؤال ما هي العلاقة بين الديمقراطية والشعبوية مفتوحا لصعوبة إدراك السياقات التاريخية لنشأة الشعبوية وعلاقتها بالفاشية والأنظمة الفاشية التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية.

يمكن إعادة الشعبوية لما بعد الحرب العالمية الأولى، حيث نشأت حركات تنادي بتجاوز النظم الليبرالية والالتفات للشعوب كما حدث في الأرجنيتين والبرازيل عام 1930؛ كانت الظروف صعبة فالنظام الدولي مفكك والعالم يبحث عن مسار جديد، وذكريات الحرب كانت مؤلمة جدا.

الشعبوية ليست دكتاتورية بل إن الموجه الشعبوية التي يشهدها العالم لا تناقض الديمقراطية لكنها -بكل تأكيد- ليست ليبرالية؛ النظام الدولي في حالة تفكك كما كتب ريتشارد هاس مؤخرا، النظام العالمي لم يعد أولوية للسياسة الأمريكية كما كتب بيتر زيهان عدة كتب في هذا السياق، النظام الدولي تحول إلى إمبراطورية كما كتب هيردت نيجري الفيلسوف الإيطالي.

هكذا إذا درست كثيرا مما يُكتب عن المستقبل ستجد قلقا حقيقيا مما يحدث في العالم سواء في المتغيرات الكبرى عن الديمغرافيا أو البيئة أو في مجال الطاقة؛ كلها مسارات كبرى تلقي بظلالها على بنية الدول العربية التي نشأت في أحضان المجتمع الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.

المنطقة العربية أكثر المناطق خوفا من نقص الغذاء (الأمن الغذائي)؛ المنطقة العربية من أكثر المناطق في العالم جفافا؛ المنطقة العربية فيها أكثر نسبة من الشباب الذي يعاني من البطالة؛ كما أنها أكثر إقليميا من يعاني من الصراعات والحروب التي لا تنتهي. كل ذلك جعل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حوت كل أزمات العالم، وصارت مرآة لمستقبل ينتظر البشرية جمعاء. 

هذا يعني أننا لا يمكن بحال من الأحوال أن نعزل ما يجري في المنطقة عما يحدث في العالم؛ وأن انزواء أمريكا بعد ثورة شيل واعتمادها على ذاتها في مجال الطاقة، الأمر الذي ظهر جليا بضرب منشأت النفط السعودية، قد يزداد مع الوقت ليعطي مجالا للشعوب أن تواجه الأنظمة التي تحكمها بلا تدخل من النظام العالمي، وتطالب تلك الشعوب أنظمتها لتواجه بشكل واضح ما تعانيه من إهمال للمسارات الكبرى في التنمية والغذاء والماء.

سؤال التنمية سيحتاج لتغيير كل المقاربات التي حكمت العالم العربي والتيارات الإصلاحية منذ بداية القرن، نحن أمام خلق جديد للمنطقة سواء حدث هذا قريبا أم بعيدا لكن كرة الثلج بدأت تتدحرج ولن يستطع أحد أن يوقفها.

في تونس كانت الانتخابات مؤشرا لتلك البداية؛ وفي مصر بدأت أماراته في الظهور، ربما ستحاول القوى الداعمة للدكتاتورية تعطيل هذه التحولات حتى يمكنها تصميم نظم سياسية في المنطقة على مقاسها، لكن ما يتناساه هؤلاء أن حلولا حقيقة للمنطقة لم تر النور بعد، ستظل الأسئلة التي تشغل بال الناس تلح على كل الحكام، ولن تستمر خدعة السياسة قبل التنمية التي فرضتها الدول الاستعمارية على المنطقة كما ذكر زعيم غانا السابق الراحل كومي نكروما.

يمكن تصور أن المسار سيبدأ بتجاوز الجماعات والأحزاب السياسية عبر شخصيات ليس لها انتماءآت واضحة، وستبدأ القوى المناهضة للشعوب بالبحث عن أي تصنيف لهذه الشخصيات حتى يمكنها وضع التغيير في سياق سياسي يمكن من خلالها قمع أي محاولة للوصول لمراكز السلطة وشبكات المصالح في المنطقة.

المرحلة القادمة ستصبح المواجهة مباشرة بين قوى الشعب وراسمو الخرائط ومصممو النظم السياسية، وسيصبح الصراع على أشده في ليبيا لأنها صارت مؤشرا لمدى قوة أي المسارين وسيتأثر الجميع بالأحداث من حولهم.

وإذا ما استمرت الأوضاع في مصر  في حالة من التوتر والحيرة؛ وإذا ما استطاع الشعب التونسي أن يفرض إرادته، فإن حالة من احترام إرادة الشعوب ستنشأ بالتدريج؛ وهذا ما يبدو واضحا في الحالة الليبية فإن كثيرا من التصريحات والمحاولات التي تترأسها ألمانيا وتحاول فيها إشراك تركيا وباقي الدول الإقليمية كمصر والإمارات؛ وتصريحات عديدة من هذه القوى خاصة فرنسا المنخرطة عسكريا في ليبيا، بأن هناك وهم للحسم العسكري في ليبيا؛ والحديث كذلك عن لجنة إعداد دستور في سوريا وتعثر قوات التحالف في اليمن.

كل ذلك يشير إلى أن فشل الدول الإقليمية خاصة في مصر والسعودية والإمارات في إدارة أزمات المنطقة، بل تعقيدها وإدخالها في حلقات مفرّغة من العنف والعنف المضاد، كل ذلك سيجعل السياق الشعبوي أقرب من عودة الدكتاتوريات للمنطقة.  

سيحتاج الأمر -بالطبع- لقصة قيادة أو حالة من الانتشار السريع بفعل وسائل الاتصال، لكن لايمكن بحال من الأحوال الجزم بشيء أو القول بأن هذه الموجه القادمة ستكون أنضج من غيرها، بقدر ما يمكن القول بوضوح أن كل الحجج الأيديولوجية التي خلقتها المخابرات المصرية والإماراتية عن غول اسمه "الإسلام السياسي"، يختطف أحلام الشعوب سقطت سقوطا مدويا؛ فمن أراد أن يحكُم، عليه بأن ينفق المال لمعالجة مشاكل المنطقة التنموية، وأن يصمم النظام السياسي لمواجهة تلك التشققات التي تركتها النظم المستبدة السابقة، أما التفكير في عودة التاريخ في المنطقة فهذا لن يكون. للتاريخ منطقه الذي لن يجدي معه لا تفاوض ولا خلق صراعات ولا عمل لوبيات في الدول العظمى هذا هو الدرس الذي يجب أن لا ينسى.