عام على اغتياله داخل قنصلية بلاده.. روح خاشقجي تطارد قاتليه

أحمد يحيى | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"قل كلمتك.. وامش"، 3 كلمات قالها يوما ما الكاتب الصحفي السعودي المغدور جمال خاشقجي، الذي يمر عام على رحيله، بعدما قُتل داخل قنصلية بلاده في إسطنبول يوم 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2018. 

يموت الشخص وتبقى القصة، وتظل كلماته ومقالاته التي دونها شاهدة له وعلى الذين قتلوه غيلة. آمن خاشقجي بضرورة الوصول إلى سعودية شاملة، ودولة تتشارك في إصلاحها جميع قطاعات المجتمع، وليست دولة تقع تحت مظلة حكم شمولي استبدادي، الأمر الذي عجّل بقتله على يد أكبر رؤوس الدولة فعليا، وبأمر مباشر منه، حسب الدلائل والمعلومات وتقارير المنظمات الدولية.

في فبراير/ شباط  2018، كتب خاشقجي قائلا: "القيود التي يفرضها ولي العهد (محمد بن سلمان) على حرية التعبير قد امتصت الأوكسجين من الساحة العامة التي كانت محدودة في السابق، ولكنها موجودة. يمكنك أن تقرأ بالطبع، ولكن عليك أن تفكر مرتين فقط في المشاركة أو الإعجاب بأي شيء لا يتماشى تماما مع تفكير المجموعة الحكومية الرسمية".

وكان من أبرز نصوصه، وتمنياته، ما خطه بيمينه: "أريد أن أوقف التطرف، ولكني لا أريد أن أستبدل المتعصبين الدينيين بفاشيين يمجدون فضائل القائد العظيم ويقمعون المعارضة دون رحمة".

وكتب: "أريد لبلدي أن يوقف التوسع الطائفي الإيراني في سوريا واليمن ولبنان، ولكن دون المخاطرة بحرب مفتوحة قد تدمر تلك البلدان. كما أريد أن تكون المملكة العربية السعودية حازمة ومؤثرة في المنطقة، ولكن من دون البلطجة على الدول الصغيرة. نحن بحاجة إلى تبني روح الربيع العربي بدلا من محاربته".

وصل نداء خاشقجي إلى السعوديين، وقصر الحكم في الرياض، لكن ولي العهد أزعجه النداء، وقتل خاشقجي على يد فريق اغتيال سعودي جاء إلى إسطنبول خصيصا لتنفيذ المهمة القذرة. 

منذ ذلك الحين بدأت المملكة تقع تحت ضغط دولي، ومساءلات لا تنتهي، بداية من سعي الإدارة التركية إلى محاسبة القتلة، على بشاعة الجريمة، ونيلها من اعتبار الدولة، مرورا بالولايات المتحدة الأمريكية، والرأي العام الدولي، المطالب بالكشف عن التفاصيل، وتحديد المسؤولية الكاملة، ومعاقبة المتورطين فيها.

اعتراف ابن سلمان 

في تحقيق مصور لبرنامج "60 دقيقة" الذي تذيعه شبكة "سي بي إس" الأمريكية، قال محمد بن سلمان: إنه "يتحمل المسؤولية الكاملة عن مقتل الصحفي جمال خاشقجي، لكنه نفى علمه بعملية القتل ذاتها".

وفي التحقيق الوثائقي الذي تم نشره يوم 30 سبتمبر/ أيلول الماضي، بسؤاله عما تردد عن توصل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية إلى معلومات تفيد بأنه استهدف خاشقجي بشكل شخصي وأنه ربما أمر بقتله، أكد ابن سلمان: "أرجو أن يتم نشر مثل هذه المعلومات علانية إن كانت موجودة".

وأردف: "التحقيقات كلها جارية اليوم، وبمجرد إثبات تهم على أي شخص على أي مستوى سيحاكم بدون استثناء". وعندما سأله الصحفي: كيف يمكن للجريمة أن تقع دون علمك؟ رد ابن سلمان: "هل لك أن تتخيل؟ لدينا 20 مليون شخص، ولدينا 3 ملايين موظف حكومي. لست غوغل ولا حاسوبا خارقا لمراقبة أكثر من 3 ملايين شخص".

وتابع ولي العهد: "حدث الأمر في ظل إدارتي، أتحمل كل المسؤولية لأنه حدث في ظل إدارتي. إنني أتعامل مع الأمر بجدية. لا أريد أن أقول لك لا، لم أفعلها أو فعلتها أو أي شيء آخر، هذه مجرد كلمات".

وعن مدى تأثر العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة بسبب مقتل خاشقجي وحرب اليمن، قال: "العلاقة أكبر بكثير، دورنا أن نعمل ليلا ونهارا لتجاوز ذلك، والتأكد من أن يكون مستقبلنا أفضل بكثير من أي شيء حدث في الماضي".

الرواية الرسمية السعودية ألقت بالمسؤولية على مجموعة من العاملين قالت إنهم تصرفوا من تلقاء أنفسهم. وقال النائب العام: إن "نائب رئيس جهاز المخابرات حينذاك أمر بإعادة خاشقجي إلى السعودية، غير أن رئيس الفريق المكلف بإحضاره أمر بقتله بعد أن فشلت مفاوضات إعادته".

وفي 19 يونيو/ حزيران 2019، قالت مقررة الأمم المتحدة الخاصة بالإعدام خارج نطاق القانون أغنيس كالامارد: إن "مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي هو إعدام خارج نطاق القانون تتحمل مسؤوليته الدولة السعودية"، مضيفة: "هناك أدلة موثوقة على تورط مسؤولين سعوديين كبار في قتل خاشقجي عمدا منهم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان".

وتابعت: "العقوبات الموجهة إلى سعوديين فيما يتعلق بمقتل خاشقجي يتعين أن تشمل ولي العهد والأصول الشخصية له في الخارج".

قنصلية للبيع

وبالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى للجريمة، نقل موقع "ميدل إيست آي" في 17 سبتمبر/ أيلول 2019، عن تلفزيون "خبر ترك" أن مبنى القنصلية الذي يقع في منطقة "ليفنت" تم بيعه لمشتر مجهول منذ نحو 45 يوما مقابل ثلث قيمته، حيث ستنتقل القنصلية إلى منطقة "ساريير" الراقية في إسطنبول إلى جوار مبنى القنصلية الأمريكية.

وكشفت القناة التركية أن "السعوديين يحاولون أيضا بيع المقر الرسمي للقنصل العام الذي يقع بالقرب من القنصلية، لكنهم لم يتمكنوا من العثور على أي مشتر حتى الآن".

وليس للسعودية قنصل عام في إسطنبول منذ أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، لكنها تقدم خدمات التأشيرة للراغبين في زيارة السعودية. وذكر محامون أن المبنى لا يزال مسرحا لجريمة قتل خاشقجي، وإذا غادره السعوديون فيمكن لمكتب المدعي العام في إسطنبول أن يغلق المبنى لفترة من الوقت لجمع الأدلة التفصيلية بخصوص الجريمة.

أردوغان يتوعد

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حمل على عاتقه منذ اللحظة الأولى "قضية خاشقجي"، ومع حلول الذكرى الأولى لجريمة اغتياله، خص الرئيس التركي صحيفة "الواشنطن بوست" بمقالة عن الموقف التركي من الجريمة، وقال: إن "السعي لمعاقبة قتلة خاشقجي دين في أعناقنا".

وأكد أردوغان: أن "اغتيال خاشقجي مثير للقلق بسبب بُعد القضية الإنسانية واستغلال مبدأ الحصانة الدبلوماسية".

وأضاف: أن "بلاده تتعهد بمواصلة بذل الجهود في المرحلة المقبلة، لكشف ملابسات جريمة مقتل خاشقجي"، وتابع: "نؤمن بأن العدالة لن تتحقق إلّا على يد المحاكمة الوطنية والدولية، وإن من مصلحة تركيا والإنسانية عدم وقوع مثل هذه الجريمة في أي مكان بالعالم".

وقال أردوغان: إن "ادعاءات إدارة المحاكمة بعيدا عن الشفافية، وراء الأبواب المغلقة وإخلاء سبيل المتهمين بشكل غير رسمي، يتنافى مع ما ينتظره المجتمع الدولي ويؤثر سلبيا على صورة السعودية. ونحن لا نريد هذا للسعودية الحليفة والصديقة".

وذكر أردوغان: أن "جريمة مقتل خاشقجي تعد أكبر حدث يحوم حوله الجدل في القرن الحادي والعشرين، بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول 2001 في أمريكا) الإرهابية الشهيرة".

واستطرد: "منذ أحداث 11 سبتمبر، لم نشهد أي حدث يهدد النظام العالمي ويتحدى القوانين الدولية، إلى هذا الحد، ورغم مرور عام على الجريمة، فإن بقاء المعلومات التي نعرفها حول الجريمة محدودة، وتُعد حقيقة محزنة يجب على المجتمع الدولي التفكير بها". 

أين الجثة؟

وأكد أردوغان: أن "تركيا التزمت سياسة الشفافية منذ اليوم الأول لوقوع الجريمة، مبينا أن كشف ملابسات مقتل خاشقجي أو بقائها مغلقة، سيحدد ماهية العالم الذي سيعيش فيه الأجيال القادمة".

وأوضح: "خلال الفترة الماضية تابعت أجهزة الاستخبارات والقضاء والأمن التركية حيثيات القضية وأقدمت على الخطوات اللازمة لإطلاع الرأي العام المحلي والعالمي على المستجدات المتعلقة بالجريمة".

وأردف: "تجوّل القتلى بجوازات سفر دبلوماسية، وتحويلهم مبنى دبلوماسي إلى مسرح لجريمة، ومحاولة الدبلوماسي السعودي الأول في إسطنبول التستر على الجريمة، تعدّ سابقة خطيرة للغاية، وربما الأخطر من هذا أن يواصل الجناة حياتهم في بلادهم دون أي عقاب".

واختتم الرئيس التركي مقالته بطرح الأسئلة التالية: "أين جثة خاشقجي؟ ومن أصدر أمر قتل خاشقجي؟ ومن أرسل القتلى إلى إسطنبول؟"

في 26 سبتمبر/ أيلول الماضي، أدلى أردوغان بتصريحات لشبكة تلفزيون "فوكس نيوز" الأمريكي على هامش مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بمدينة نيويورك، ناقش فيها مسألة مقتل خاشقجي مع الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، كما ناقش الموضوع أيضا مرتين مع ولي العهد محمد بن سلمان.

وذكر أن ولي العهد السعودي تعهد له بأن "دم خاشقجي لن يذهب هدرا"، لكن الرئيس التركي استدرك بالقول إن بلاده لم تر أي خطوات متخذة في هذا الصدد.

ولفت الرئيس التركي إلى أن خاشقجي "لم يكن شخصا عاديا، كان صحفيا محترما في الأوساط الإعلامية، وأجرى عدة لقاءات صحفية معي أيضا، وأعرفه عن قرب، وخلال الفترة الأخيرة خطب سيدة من تركيا، وكانا يستعدان لعقد الزواج، ولذلك ذهبا إلى مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول".

تواطؤ ترامب

وفي 29 سبتمبر/ أيلول 2019، قالت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية: إن "ولي عهد السعودية أصبح منبوذا بفعل الجريمة، مشيرة إلى مساع للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لإعادة "ابن سلمان" إلى المسرح الدولي".

وأضافت الصحيفة، التي كانت تنشر مقالات لخاشقجي، أن ترحيب قادة العالم بـ"ابن سلمان"، خلال قمة العشرين بمدينة أوساكا في يونيو/ حزيران الماضي، يؤشر إلى ترحيب على مضض بعودته إلى المجتمع الدولي، وهذا ما كان ليحدث لولا مساعدة ترامب ووزير خارجيته، مايك بومبيو.

وقال كاتب المقال بواشنطن بوست "روبرت ميندز" عن تواطؤ إدارة ترامب حيال دم زميلهم خاشقجي: "كان على السعوديين أن يعلموا أن قتل مواطن وصحفي مثل جمال خاشقجي، سيؤدي إلى إعادة نظر أساسية في الطريقة التي يفكر بها الأمريكيون في بيت آل سعود.. ولكن للأسف، كان ينبغي لنا أن نعرف أن الرئيس ترامب سيجد طريقة لاستخدام هذه المأساة لإسقاط مكانة أمتنا كداعية لقيم مثل حقوق الإنسان وحرية الصحافة".

وتابع الكاتب الأمريكي: "لقد كان ميل جمال خاشقجي، كاتب العمود في الواشنطن بوست، للمساهمة بقول الحقيقة، هو الذي أكسبه غضب المملكة العربية السعودية، ومنذ عام مضى، بناء على طلب من العائلة المالكة السعودية، قُتل وتم تقطيع جثمانه بطريقة بشعة داخل القنصلية السعودية في إسطنبول". 

أفكار حية 

ليس دم جمال خاشقجي وحده من يطارد محمد بن سلمان، وإدارة الحكم في المملكة، بل أفكاره الإصلاحية أيضا، التي يرى فيها نخبة من المفكرين والسياسيين المعارضين السعوديين ضرورة تطبيقها.

في 18 أبريل/ نيسان 2018، كتب خاشقجي مقالة لصحيفة "الواشنطن بوست" بعنوان "ما الذي يمكن للسعودية أن تتعلمه من فيلم (بلاك بانثر)؟"، حيث قال: إن "أرادت المملكة اتخاذ خطوة أخرى إلى الأمام، فهي بتشجيع الديمقراطية والمشاركة الشعبية في الشرق الأوسط فسوف يكون ذلك الوسيلة الأكثر فعالية لضمان استقرار المنطقة وأيضا تحمي نفسها من تهديدات جيرانها".

وأكد: "سيبدو غريبا دعوة بلاد تفتقر للديمقراطية مثل السعودية، أن تستخدمها لاستعادة السلام من حولها، الفرق هنا أن السعودية تحتاج الديموقراطية للوصول الى حكم راشد بينما السوريون واليمنيون يحتاجونها لكي يتوقفوا عن قتل بعضهم البعض". 

وفي 5 يناير/ كانون الثاني 2018، ومع اندلاع الاحتجاجات الإيرانية العارمة التي اجتاحت العاصمة طهران وعدد من المدن الإيرانية الأخرى، كتب خاشقجي مقالة بعنوان (لماذا على ولي العهد السعودي أن يقلق من الاحتجاجات الإيرانية؟).

وقال فيها: "لقد حان الوقت أن يتحرر ابن سلمان من مخاوفه من الديمقراطية والربيع العربي الحقيقي، بعدما تحرر من قلقه المستحق من التوسع الإيراني. ما الذي يمنع السعوديون من التساؤل عن سبب قبول الدولة باحتفالات الحرية والديمقراطية والعدالة فقط للإيرانيين؟".

مضيفا: "في الواقع، يجب على العديد من السعوديين أن يشعروا بتناقض وسائل إعلامهم الذين يشيدون باحتجاجات الإيرانيين ضد ارتفاع الأسعار في إيران، في حين يُحظر على السعوديين الاحتجاج ضد تضاعف تكلفة الوقود وفرض الضريبة على المبيعات لأول مرة".

استباحة الدم

تحدثت العديد من التقارير والمقالات الصحفية أن ولي العهد السعودي كان يعتبر خاشقجي تهديدا خطيرا لسلطته لعدة أسباب، أولها، لم يكن خاشقجي محللا أو معلقا غربيا، ومن ثَم لم يكن باستطاعة النظام رفض انتقاداته باعتبارها محاولات أجنبية لتشويه سمعة المملكة. 

علاوة على ذلك، لم يكن خاشقجي مواطنا سعوديا فحسب، بل كان أيضا عكس العديد من الشخصيات السعودية المعارضة التي أجبرت على اختيار طريق المنفى منذ عقود، وانفصلت منذ ذلك الحين عن المجتمع السعودي "عضوا بارزا في المجتمع السعودي ومنظومته الحاكمة حتى وقت قريب جدا".

كما سبق له أن عمل في الصحف المحلية لسنوات، وكان في فترة من الفترات مستشارا موثوقا للنظام الملكي واستقر في المملكة حتى العام 2017. ونتيجة لذلك، كان خاشقجي في نظر العديد من المواطنين السعوديين، واحدا منهم، ما أضفى مصداقية وتأثيرا غير مسبوقين، بينه وبين المواطنين.

بالإضافة إلى ذلك، كانت صلاته الوثيقة بأعضاء المؤسسة الحاكمة القديمة، الذين يشعرون بالامتعاض من الاتجاه الذي يقود به محمد بن سلمان البلاد، تشكل منذ فترة طويلة، ما سبب قلقا مضاعفا لولي العهد.

مكانة "خاشقجي" المرموقة ككاتب عمود ثابت في صحيفة "واشنطن بوست" كانت يمكن أن توفر له قدرا من الحماية الأمريكية والدولية لا يتوفر لأقرانه من المعارضين المغمورين.

لعل تلك الأسباب إضافة إلى الضغوط الحياتية التقليدية هي ربما ما أقنعت خاشقجي بالاستجابة إلى الطلب المريب لسفارة بلاده في واشنطن بالسفر إلى إسطنبول من أجل إنجاز إحدى المعاملات الورقية.

هناك في صباح يوم الثلاثاء الموافق الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2018، دلف إلى قنصلية بلاده في إسطنبول، ليدخل إليها معطيا الأمان لإخوانه في الدين والإنسانية والوطن، لكنه لم يخرج منها للأبد.