هل ستنتصر ثورة يناير أخيرا؟ 

فرح أشباب | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

لا تزال صورة تلك الشاحنات البيضاء التي دهست عدداً من الشباب المصري المتظاهر في الشوارع أثناء الانتفاضة على حكم مبارك بكل سلمية راسخة في ذاكرتي تنبثق كلما ذكر أحدهم سيرة مصر كجميع تلك الذكريات الحزينة التي تقبع في قعر ذاكرتنا، فلا نعرف كيف نمسحها ولا كيف نتخلص منها إلى أن تصير جزء لا يتجزأ من هويتنا المشروخة التي ترسّبت فيها الكثير من العوالق فجعلتها مشوهة إلى حدٍ ما.

كنت أسمع عن البؤس في مصر وعن "الناس الغلابة لي ماحيلتهمش حاجة" فكنت أتخيّل أوضاعاً كالتي في بلدي المغرب لفقراء لا يملكون شيئاً، يخرجون كل صباح يسترزقون الله ثم يعودون لبيوتهم ليلاً حاملين ما استطاعوا لإطعام أبنائهم وتلبية طلباتهم البسيطة، لكن الأمر لم يكن بالهيّن حيث رأيت أن الفقر في مصر يمشي على قدمين وأن الثورة لم تؤتِ أُكُلَها وأن الأمور لا تزال كما كانت عليه إن لم نقل أنها تدهورت كثيراً في الكثير من القطاعات كالنقل والتعليم والصحة وغيرها.

في أكتوبر/ تشرين الأول من سنة 2017 تلقيت دعوة لحضور مؤتمر الشباب العالمي في مصر في شرم الشيخ فقبلت لأنني كنت أعتقد أنه حدث منظم من طرف الأمم المتحدة لمناقشة مشاكل شباب العالم والحديث عن حلول ومقترحات لوضع اللبنات الأساسية لمشاريع تنموية تسعى إلى حل مشاكل الدول النامية عامة والدول العربية بصفة خاصة.

كانت الرحلة من الدار البيضاء إلى شرم الشيخ تخلو من الحماس شيئاً ما خصوصاً وأنني لم أنسَ قط صور الشهداء في ميدان التحرير ورابعة والفيديوهات المتداولة لقناصة يقتلون أشخاص عُزَّل في شرفات منازلهم فقط لأنهم خرجوا.

كنت أريد حقاً أن أشعر بتلك الفرحة لأنني ذاهبة إلى مصر أم الدنيا، أرض الأهرامات والفن والجمال، موطن أم كلثوم والعندليب وسعاد حسني وعادل إمام وغيرهم من الفنانين الذين بصموا حياتنا عبر الشاشة الصغيرة.

كان لدي حنين إلى قاهرة المعز وخان الخليلي والحارات التي تكلم عنها نجيب محفوظ في رواياته، كانت روحي في يوم من الأيام متشوّقة لعبق التاريخ والفن والأدب الذي وصلني عبر الكتب والتلفاز منذ وعيي بما يدور حولي لكن عقدة ما كانت تحُول دون ذلك، كان عقلي لا يزال في حداد على وطن ليس وطني لكنني أُكن له الحب الكثير، حداد على شهداء غادروا الحياة في ربيع أعمارهم تاركين جمرات ملتهبة في قلوب أمهات ثكالى وآباء رحل عنهم آباؤهم فرحلت البسمة عنهم إلى الأبد.

لم يكن الأمر بالهيّن علي مطلقاً أن أزور مصر بعد كل الذي وقع وكل الذي رأيت لكنني زرتها لأكتشف في يوم الافتتاح أن المؤتمر من تنظيم رئيس الدولة عبدالفتاح السيسي وليس الأمم المتحدة.

زاد ذلك الأمر تعقيداً فعُدت إلى غرفتي بواحد من أكبر وأفخم الأوتيلات بشرم الشيخ وأشعر بالذنب لأنني أشارك في أمر لست راضية عنه مطلقاً. لم أذهب إلى المؤتمرات سوى مرتين خلال أسبوع كامل: ورشة حول المشاريع التنموية الشبابية ومؤتمر آخر قضى فيه السيسي ساعة إلا ربع يمدح فيها نفسه بجميع الطرق المباشرة وغير المباشرة. 

حاولت وبكل موضوعية أن أدون أقواله خلال مداخلته التي طالت وطال معها تصفيق الجالسين في المقاعد الأولى؛ تصفيق لم أفهم سببه لحد الساعة خصوصاً أنه وبعد مراجعة ما دونته أكثر من مرة لم يكن هناك شيء يستحق التصفيق والتنويه. مر الأسبوع بكل ثقله ولم أكن أغادر الغرفة في المنتجع السياسي الضخم الذي يُطل على البحر إلا للضرورة القصوى.

اتصلوا بالحاضرين مرة لتسوية مسألة إدارية، فجلست أنتظر في ردهة الفندق رفقة شباب من دول عربية مختلفة، تحدّث شاب تونسي عن الصراع آنذاك في تونس من أجل الإصلاح وإكمال المشروع الديمقراطي والنهوض بالوطن فجذبنا ذلك إلى الحديث عن السياسة. تحدّث كل شخص عن الإحباطات بعد الربيع العربي وعن الآمال التي لا تزال تنبض بالحياة بعد الربيع. لم يتبقّ سوى شاب واحد لم يدلِ بدلوه. سألته فأجابني وجبينه يتصبّب عرقاً: "بصي ياستي، احنا هنا فمصر كلو تمام، بس لو كنا فدولة أخرى هقولكم كلام ثاني.. هنا الحيطان عندها أذان وأنا وحيد أمي، حضرتك..".

لم أحاول أن أسأل سؤالاً آخر لأن الارتباك كان واضحاً في جوابه خصوصاً أن نظراته يميناً ويساراً كانت تُوحي بأنه غير مرتاح البتة للحديث عن موضوع سياسي لذلك غيّرنا الموضوع وصرنا نتكلم عن عمرو دياب الذي لا يشيخ أبداً. 

انتهى المؤتمر وفضلّت أن أتوجّه إلى القاهرة التي طالما حلمت بزيارتها منذ الطفولة خاصة وأنني أُفضّل الأماكن التاريخية على المنتجعات الصيفية الباذخة التي قضيت أياماً وسط أسوارها. 

تحوّلت القاهرة عبر قرون من تلك القلعة الشاهقة التي تقهر الأعداء والمُغيرين إلى مدينة ذات لون حزين تقهر كل يوم عدداً كبيراً من سكانها الفقراء. 

تملك القاهرة ما لا تملكه الكثير من العواصم والمدن العالمية، وتتفرد بشيء غريب يجعلك تقع في غرامها غصباً عنك. أهرام وتاريخ وفن ومعالم وحضارة وأزقّة قديمة لا تزال تحكي قصصاً من الماضي الجميل لكن شيئاً من الحزن كان يُخيّم عليها مستمداً ذلك من حزن سكانها "الغلابة".

كان الفقر حقاً يمشي على قدمين، التقيت أشخاصاً من جميع الطبقات الاجتماعية كان يجمعهم شيئان: كرم شديد وحزن يسكن المقلتين؛ حتى النكتة الجميلة التي كانت تخرج من أفواههم من حين لآخر كانت تنطوي على شيء من الحزن. تكلّمت مع باعة متجولين، باعة ورود، باعة تذكارات، سائقي أجرة، معلمين، تجار، نساء ورجال من مختلف الأعمار، لم ألمس في كلامهم سوى القليل جداً من الأمل وكأن القطار قد فات الجميع وكأنه "ما فيش فايدة" وكأنهم يعيشون بدون أمل، يشغلون ثلاث أربع وظائف يومياً حتى يدفعوا ثمن الكراء ويسددوا فواتير نقل أبنائهم ومصاريف تعليمهم وغيرها من متاعب الحياة.

لن أنسى أبداً نظرة كهل في الخمسين وهو يُخبرني أنه وزوجته لم يأكلا اللحم منذ مدة، يطبخون القليل منه لأبنائهم حتى لا تهزل أجسادهم ويكتفيان بالعيش والجبنة والبصل والجرجير. 

من بذخ شرم الشيخ وقصوره السياحية ومؤتمراته الفاخرة المُزيّنة بالألوان الباهية وألذ الأطباق انتقلت إلى قاهرة الغلابة لأعيش تجربة أخرى. 

كنت أتجوّل في الأزقّة وأحاول أن تلتقط عيناي كل الذكريات والصور والأصوات والروائح التي كنت أحلم بها، أصوات الباعة المتجولين ونوادل المقاهي الشعبية ونساء يبعن فراخاً وخضراً على الرصيف، روائح شيشة وبخور، سياح من جميع الألوان، ألوان الأزياء الشعبية الفريدة وصور السّتَّ والعندليب وعبدالوهاب، صورة المنتخب المصري متوجاً ببطولة إفريقيا تُزيّن جدار إحدى المقاهي وأضواء خافتة في الأزقة تزيد خشب البيوت القديمة في الحسين وخان الخليلي جمالاً.. فوضى جميلة لن أنساها أبداً.

ركبت سيارة أجرة سألني سائقها عن بلدي لأن لهجتي غريبة. كان يشرح لي عند كل شارع تاريخه إلى أن تحدّث بكامل إرادته عن حال مصر المزري. أخبرني بكل حرقة وهو يدخن سيجارة، استحيت أن أطلب منه رميها، عن مؤتمر الشباب العالمي الذي نُظّم مؤخراً في شرم الشيخ وعن الملايير التي سُخّرت له، التي يستحقها الغلابة عوض ذلك البذخ.

أخبرني أن التعليم والصحة والصناعة أولى من تزيين صورة رئيس أحاط نفسه بالمطبلين. استحيت مجدداً أن أخبره أنني كنت مدعوة لذلك المؤتمر الذي سُخّرت له الملايير فلجأت إلى الصمت وأرخيت سمعي له طيلة المسافة التي قطعتها السيارة ماعدا بعض "نعم" "طبعاً" نطقتها لأؤكد له أنني مقتنعة تماماً بأقواله وأنه طبعاً على حق.

اليوم وبعد مرور سنتين على تلك الزيارة، كشف أربعيني اسمه محمد علي من مصر عن أوراق فساد وتبذير يندى لها الجبين، عن بذخ شديد من طرف الرئيس وحرمه وحاشيته وشطط في استعمال السلطة ضرب بعرض الحائط كل تلك الوعود التي وعد بها رئيس عسكري شعبه بأنه سيُخرجهم من العوز ويجعلهم أمة يضرب لها ألف حساب.

بين رغبتي الجامحة في تغيير الأوضاع في مصر و خوفي من تكرار نفس سيناريو القتل والاعتقال والاختفاء القسري والتعذيب ناهيك عن آلاف الشباب المصريين الهاربين من جحيم الوطن لا تزُل أتمنى أن تحدث معجزة تحقن الدماء وتُعيد المعتقلين إلى أحضان أهلهم.

بعيداً عن كل التأويلات السياسية حول كون الحراك مدبراً من داخل الجيش أو كون السيسي الديكتاتور المفضل لدونالد ترامب أو كون محمد علي شجاعاً أو دَعِّيَاً.. خرج المصريون ليلة الجمعة الماضية منادين بسقوط نظام خانق لم يروا معه ماكانوا يحلمون به منذ زمن وبرهنوا أنهم عكس ما كان يروّج عنهم ليس مفعولاً بهم بل هم أحرار فاعلون كسروا أصنام الخوف التي جثمت عليهم لست سنوات تقريباً وخرجوا ليبرهنوا أنه إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.