شيء من الخوف.. شيء من الأمل

يوسف الدموكي | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

حين خطر لي الموضوع قبل يومين، قلت سأكتب عن قليل من الخوف وكثير من الأمل، وفي ليلة أمس، قلت سأكتب عن كثير من الخوف وقليل من الأمل، واليوم قلت سأكتب عن الخوف والأمل معاً، وأنا بداخلي شعور بالا شيء، ولعل هذا هو الشيء الأكثر صدقاً، خصوصاً في جيلنا المتألم المتأمل، وقدرنا القائم الناقم، وزماننا الذي بألف وجه، بعد زمانٍ ماضٍ كان يُقاسي فيه أهله أن وجهه الوحيد يتقلّب أحياناً.

شيء من الخوف.. أن شيئًا لن يتغير، شيء من الخوف، الرواية التي تحكي عن القرية المظلوم أهلها، شيء من الخوف، الفيلم الذي ترسّخ في عقولنا أن زواج كل عتريس من كل فؤادة باطل، شيء من الخوف، الشيء الذي قتلناه مرة حين رفعنا أصواتنا بالهتاف، وقتلنا ألف مرة حين عدنا نهمس به ولا نقوله، حين بكينا لأن الهتاف لم يجد له مخرجاً إلا من خلال العيون لأن الأفواه مغلقة بالضبة والمفتاح، حين متنا كمداً لأن الخوف وإن مات مرة فإن له سبعة أرواح، أما نحن فروحنا طلعت من أول مرة.

شيء من الأمل.. أن شيئاً ما قد يحدث، أن المطار قد يسمح لنا بشيء غير الاستقبال والتوديع، أننا سنزور دولةً لن نحتاج قبلها إلى حجز فندق ولا تذكرة عودة ولا تصريح سفر ولا ختماً من القنصلية؛ لأن الوجهة ستكون إلى القاهرة. شيء من الأمل أن الذين يتسللون ليحدثوننا هاربين من سجن الجدران إلى حرية الكلام، سنعانقهم، ويضمهم من تبقّى من أهلهم بعد فراق طويل، سيتنفسون الهواء بلا حساب، وسيخرجون إلى الرياضة بدلاً من التريض، وسيقفون أمام عم شعبان البقال بدلاً من شعبان القاضي؛ سيرمون كل ملابسهم البيضاء في القمامة عدا جلابية الجمعة، وسيطيلون شعورهم كما يريدون مهما كانت قبيحة، وسيرفعون أصواتهم مهما كانت مرهَقة، وسيتحركون جيئة وذهاباً بلا مبرر، وسيُبقون الأبواب –كل الأبواب- مفتوحة.

شيء من الخوف.. أن هذا قد يحدث، شيء من الخوف أننا مضطرون لاستعمال "قد" التي تفيد الاحتمال والتشكيك وتنفي التأكيد واليقين، شيء من الخوف أن هذا قد لا يحدث، وأننا حتى وإن استعملنا "قد" من دون أن نجزم بالسيناريو الأسوأ، فإن الاحتمال يظل قائماً. شيء من الخوف أننا لدينا شيء من الأمل، وشيء من الأمل أن الشيء من الخوف الذي بداخلنا عساه ينتهي حين نرى الفجر بأم أعيننا.

شيء من الأمل.. أنَّ الخوف اختفى عند أول هتاف ارتفع أعلى من كاب الجنرال القصير، عند أول صورة كبيرة لسيادته داستها أقدام العوام، عند أول "يسقط" سكنت في الحناجر مجدداً، عند أول "الشعب يريد" امتلأ بها الهواء ثانية، عند أول عبدالمنعم رياض، ووسط التحرير، وآخر طلعت حرب، عند العرب في مطروح، وعند السوايسة في الأربعين، وعند الصعايدة في قنا، وعند الفلاحين، والإسكندرانية.

شيء من كل شيء، يتجمعون في "خلاط" رؤوسنا، يجعلوننا في نافورةٍ من المياه الهادرة، ثم يرموننا في بحيرة من الجليد، يناولوننا الحلم بيدٍ، ويحشرون الكابوس في جنوبنا باليد الأخرى، يصيبونا بالرصاص وينزعونه من أجسادنا، وتطيب أجسادنا فيعدمونها رمياً بالرصاص، يشيرون إلينا ملوّحين بثمرات التين من بعيد، حتى إذا هرولنا سقطنا بوجوهنا في شوك التين نفسه، نريد قطف الزهرة، فتموت الزهرة، وتحيا الأشواك.

شيء من كل شيء يُلخصون مأساة جيلنا الحالي، في أن الصدمات تأتي تباعاً، والمشاعر تتتابع بلا مراعاة للتوقيت ولا الترتيب ولا المنطق، فنبكي أملاً، ونضحك ألماً، ونأمل ساعة، ونيأس دهراً، ونتجرأ مساءً، ثم مع الصباح نعود مرعوبين من جديد.

شيء مُحيّر في كل شيء مبهم، لأننا فقدنا شيئًا واضحاً، كان بالنسبة لنا كل شيء.. شيء من الخوف.. يتبعه.. شيء من الأمل.. شيء من الأمل.. يُتعبه.. شيء من الخوف.

لكن عزاءنا أن جُرْحنا الموروث من فعل الأرض ببني الأرض، وظلم الإنسان لبني الإنسان، أعلى منه، وأكبر منه، وأقرب منه، أمل آتٍ من الأعلى، وعدل إلهي، يقول: "{وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا}".

شيء من الأمل.. أكبر من أشياء الخوف مجتمعة.. هتاف من الأمل أكبر من صراخ في التلفاز، عناد من الحديد أكبر من جرأة الرصاص، إصرار على التكملة أكبر من إصرار على التكبر، ثأر في العيون أكبر من صفرة في العيون، وأمل في الله.. أكبر.. من خوف من الإنسان، وأمل في "الله أكبر" من خوف من الإنسان.