عن العدالة الانتقالية

أحمد ماهر | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

مصطلح العدالة الانتقالية لا يزال مبهماً في مصر منذ قيام ثورة 25 يناير حتى اليوم، ما أن يُثار في أحد الكتابات أو اللقاءات حتى تتفتح شلالات الاتهامات والتخوين، بالرغم من أن العدالة الانتقالية كان لها دور رئيسي في نجاح العديد من التجارب والثورات، وقد ظهر المفهوم على استحياء بعد ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، وبرز اسم المحامي الحقوقي ناصر أمين في الحديث عنه، ولكن كان هناك بعض الرفض أو عدم القبول الكامل لدى عدد من القطاعات التي تنتمي للثورة تجاه تلك الكلمة، فالعدالة الانتقالية تحمل في إجراءاتها احتمالية العفو مقابل الاعتراف، أو إمكانية دمج مرة أخرى لأعضاء حزب مبارك ونظامه رغم كل ما اشتركوا فيه من جرائم حتى ولو بدون قصد، وفي ذلك الوقت كانت جماهير الثورة تشعر بزهو كاذب للنصر وتُطالب بالقِصاص والمحاكمات الثورية.

وعندما طُرح مصطلح العدالة الانتقالية مرة أخرى بعد ٣ يوليو ٢٠١٣ كان هناك دائما رد فعل متشنج من أنصار السلطة، اتهامات بالخيانة والانتماء للإخوان لكل من يطرح فكرة العدالة الانتقالية للنقاش، بالرغم من ورود بند يتحدث عن العدالة الانتقالية فيما أطلق عليه خارطة الطريق وقتها وبالرغم من وجود وزارة تحمل اسم العدالة الانتقالية.

فقد كان هناك  وقتها ما يُطلق عليه وزارة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، فوجود مصطلح العدالة الانتقالية سواء في ديباجة الدستور أو ما أطلق عليه خارطة الطريق أو ضمن التشكيل الوزاري في ذلك الوقت يعني أنه يمكن البدء في مرحلة جديدة بدون انتقام وبدون دم، وبدون إقصاء وتصفية حسابات، وأنه يمكن الوصول –في يوم ما– إلى حل وسط بين الطرفين الرئيسيين المتصارعين على السلطة منذ خمسينيات القرن الماضي.

وفي 23 يناير 2014 أصدر حازم الببلاوي –رئيس الوزراء آنذاك– قرارا يحدد أخيرا أهداف ومهام وزارة العدالة الانتقالية بعدما ظلت لشهور طويلة بدون مهمة واضحة منذ الإطاحة بالرئيس الدكتور محمد مرسي، وقد كان من الأهداف المعلنة وقتها: ضمان العبور الآمن للمرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد بأقل تكلفة وأكثر عائد على نحو يدعم الوحدة الوطنية ويحقق المصالحة الوطنية الشاملة، وتحديد المسائل والموضوعات التي تؤثر في وحدة نسيج المجتمع ووضع حلول جذرية لها وآليات تنفيذها، وترسيخ قواعد المساءلة ومعنى العدالة، ودعم احترام حقوق الإنسان وتعزيز دور منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية ونشر ثقافة التسامح والعيش المشترك، وتكريم المضارين من انتهاكات حقوق الإنسان في الفترات السابقة على المرحلة الانتقالية والعمل على جبر الأضرار ماديا ومعنويا، والإصلاح والتطوير المؤسسي الكامل بما يضمن بناء نظام ديمقراطي يرسخ لقيم الديمقراطية التي تقوم على المشاركة وقيم الإدارة الرشيدة.

ولكنها كانت مجرد ديباجة تهدف للمزيد من استهلاك الوقت، فقد كان هناك البعض ممن لا يزال لديهم بعض الأمل فى وقف المذابح والاعتقالات وبدء عملية العدالة الانتقالية والمصالحة ووقف النزيف وترميم الشروخ العميقة التي حدثت فى المجتمع المصري، ولكن مع الوقت أصبحت كلمة مصالحة منبوذة، وأصبح من ينطق بها خائن، وشيئا فشيئا أصبحت كلمة عدالة انتقالية كذلك، ومع مرور الوقت أصبحت المصالحة بعيدة، وبعد فترة تم تغيير المسمى إلى "وزارة العدالة الانتقالية وشؤون مجلس النواب"، إلى أن تم إزالة جزئية العدالة الانتقالية تماما من المسمى في 2015، فأصبحت وزارة الشؤون القانونية ومجلس النواب.

ولكن بشكل عام يمكن القول أن مصطلح العدالة الانتقالية كان غائبا أيضا منذ البداية، تردّد بصوت خافت بعد ثورة يناير ٢٠١١، فقد كان الصوت الأعلى وقتها أيضا هو الانتقام من رموز النظام السابق، فهل اخطأت ثورة يناير عندما طالبت بالتطهير التام للمؤسسات والتخلص من كل ما أو من كان يرتبط بالنظام السابق؟ هل أثار ذلك مخاوف ورعب قطاعات عريضة وزادت من نفورها من الثورة؟ أم كان خطأ الثورة أنها كانت متسامحة بالقدر الزائد مع مؤيدي نظام مبارك لدرجة أن الثورة سمحت لأعدائها بالتظاهر والاعتصام بحرية وترويج كل أنواع الشائعات والأكاذيب المضللة بمنتهى الحرية والأريحية تحت دعوى الدفاع عن حرية الرأي والتعبير؟ البعض يتعجب الان كيف كنا نسمح لهم بحرية التظاهر والاعتصام ومهاجمة الثورة والتشكيك فيها في وسائل الاعلام ونحن الآن قد يتم حبسنا لشهور وسنوات في حالة إن تجمعنا في مكان ما على سبيل الصدفة.

بعض الباحثين في شؤون العدالة الانتقالية يرون أنه كان خطأ كبيرا ذلك العداء المُفرط ضد كل رجال مبارك الذي شمل نسبة ضخمة من المجتمع، فهناك ملايين الموظفين في الحكومة الذين تم إجبارهم على خدمة ودعم الحزب الوطني الحاكم فى عهد مبارك، وهناك مئات الآلاف الذين تم إجبارهم على الانضمام لذلك الحزب من أجل الحصول على وظيفة أو الاستمرار في وظيفة أو فقط من أجل العيش في سلام، وهناك آلاف رجال الأعمال الذين تم إجبارهم على الانضمام للحزب الحاكم لكي تستمر استثماراتهم بدون تضييق أو إغلاق أو إجراءات عقابية، ولذلك كان يجب البدء فورا في تطبيق إجراءات للعدالة الانتقالية ويكون هذا هو المخرج الرئيسي لتجنُب كل ما حدث بعد ذلك.

في رسالة نيلسون مانديلا لشباب الثورة عام ٢٠١١ نصحنا بالإسراع فورا في عملية العدالة الانتقالية وعدم الانسياق وراء أي رغبات انتقامية مع رموز النظام القديم، فذلك سيزيد خوفهم وسيزيد من اتحادهم وتحفزهم ضد ثورة يناير، نصح كذلك بعدم طرد أو إقصاء من يحاول التلون بلون الثورة ممن كانوا يتعاونون مع النظام القديم، فقبولهم أفضل من إقصائهم وتحويلهم لأعداء.

ولكن رغم ديمقراطية ثورة يناير ومحاولة ابتعادها عن إجراءات الثأر والانتقام العنيف والإعدامات والتصفية الجسدية التي كانت رائجة في ثورات القرن العشرين وما قبله، إلا أن فكرة العدالة الانتقالية أو استيعاب بعض رموز مبارك أو عدم ملاحقتهم لم تلق قبولا واسعا في الأوساط الشبابية والثورية، بل أحيانا كانت تُثار فكرة المحاكم الثورية والاستثنائية كلما يكون الشعور بتواطؤ المحاكم الطبيعية والنيابة العامة التي تتسامح مع سرقة الأدلة التي تُدين رجال مبارك أو مع ما تم إتلافه بشكل مُتعمد من الوثائق.

البعض يتساءل، هل يمكن تطبيق العدالة الانتقالية في ذلك الوضع المعقد في مصر، ولكن عند استمرار القراءة في التجارب التي تم تطبيق العدالة الانتقالية بها سنجد أن الوضع كان أكثر تعقيدا مما هو عليه الحال في مصر الآن، وما حدث في مصر بعد ٣ يوليو ٢٠١٣ مليء بالتعقيدات ويصعب تجاوزه بسهولة، ولكن هناك دول استطاعت طي صفحة الماضي رغم مجازر أكثر وحشية من مجزرة رابعة، ورغم أعداد معتقلين وإعدامات وتعذيب واختفاء أكثر مما يحدث في مصر الآن, ولكن لا يُمكن القول أن هناك خط ثابت أو نموذج ثابت لتطبيق العدالة الانتقالية، فما نجح هنا قد لا ينجح هناك، وما تم رفضه هناك قد يُمكن القبول به هنا، ولكن بشكل عام هناك أُسس للعدالة الانتقالية لا هناك حيد عنها، وهل المكاشفة ثم المحاسبة ثم المصالحة ثم إعادة الهيكلة.

البعض يتساءل، وهل يمكن تطبيق عدالة انتقالية رغم كل ما حدث من جرائم وانتهاكات؟ ولكن ما يجب الاعتراف به أولا وقبل كل شيء أن الكل شارك في الأخطاء والجرائم، كل الأطراف بدون استثناء، منذ أن سارع البعض بترك ميدان التحرير قبل الاتفاق على أي شيء، مرورا ببدء الإخوان في نفاق العسكر ظنا منهم أن ذلك سيأتي بمكاسب سياسية على حساب باقي الشركاء، مرورا بجرائم في حق شباب الثورة ارتكبها المجلس العسكري وباركها الإخوان مثل مذبحة ماسبيرو وشارع محمد محمود ومجلس الوزراء، مرورا كذلك بأخطاء الإخوان أثناء وجودهم في السلطة ابتداء من الإعلان الدستوري الذي بدا دائرة الهلاك، مرورا بممارسات الإخوان في السلطة التي اتسمت بالإقصاء والغرور والتعالي، مرورا بكوارث ما يُطلق عليه التيار المدني والثوري الذي استسهل وبارك قتل وقمع وإقصاء المخالفين ظنا منهم أن ذلك هو السبيل نحو بعض المكاسب، أو على الأقل ظنا منهم أن ذلك قد يعصمهم من التنكيل بهم مستقبلا.

ويتبقى بعض الأسئلة الهامة التي يمكن الوصول لبعض الإجابات عليها بعد استعراض عدة تجارب ونماذج للعدالة الانتقالية الناجحة، فمثلا ما الذي يجبر ديكتاتور عنيد لديه القوة والمال والسلاح على التخلي عن بعض مما عنده ويقبل بمسار يجعل الآخرين يشاركونه في السلطة والثروة، وما الذي يجبر الجنرالات عن التخلي عن المسار الذى يضمن لهم الانفراد بكل شيء وعدم المحاسبة عن أي شيء؟ وكيف يمكن تحقيق بعض العدالة إذا كان هناك احتمالية لعدم تطبيق القصاص والثأر على المجرم؟

وللحديث بقية.