تركيا والقوى الكبرى.. السير على حبال السياسة

12

طباعة

مشاركة

المحتويات
المقدمة.
روسيا في موريك
الولايات المتحدة.. احتواء الاحتواء
أوروبا.. الاتجاه المعاكس
خاتمة.

المقدمة.

تسير تركيا في حقل ألغام ضخم يُمثل علاقاتها بالقوى العالمية الكبرى التي لا يصدر عنها غالباً ما يُطمئن قطاعاً واسعاً من القيادات التركية، سواء في ذلك ما يتعلق بالمسالك والخيارات والمواقف الراهنة، أو فيما يتعلق بالخلفيات التاريخية التي تجمعها بهذه القوى.

فروسيا التي ترغب في تمديد نفوذها بالإقليم تتلاعب بالإطار الذي تتحرك فيه تركيا، عبر بناء شبكة علاقات مع الأكراد، تسببت مبكراً في توسيع الرقعة التي يسيطرون عليها بالقرب من الحدود التركية الجنوبية، فضلاً عن التطورات الأخيرة في "إدلب".

ومن جهة ثانية، فإن الولايات المتحدة – التي يُفترض أنها تعتبر تركيا حليفاً إستراتيجياً – تتخذ من قوات سوريا الديمقراطية، وفي القلب منها "وحدات حماية الشعب الكردية" وكيلاً لها في شمال سوريا.

ومن جهة ثالثة يماطل الاتحاد الأوروبي في البت في انضمام تركيا في الاتحاد الأوروبي استناداً لمواقف قبرص واليونان، فيما يستبقي تركيا داخل "الناتو" لما تسديه من خدمات للاتحاد.

وتطرأ على الإقليم حالة تحوّل ضخمة، لا يسع معها تركيا الركون إلى احتمال احترام حلفائها لمصالحها وأمنها، فالتهديدات الحدودية تتصاعد، ودول شرق المتوسط تحاول توزيع ثرواته الهائلة، واللاجئون يتدفقون إلى تركيا بمعدلات ضخمة، وهو ما يضطر تركيا للتحرك، وإلى المبادرة أحياناً، وهي مبادرات تُجابه بردود أفعال تحاول احتواء ما يعدّه خبراء تهديداً لتركيا، فيما يُقدّره البعض كمصالح حيوية، ويدعون العالم لاعتبارها، والتعاطي مع أهميتها بالنسبة لتركيا.

وفيما يبدو الدب الروسي براجماتيًا وراغبًا في سلخ تركيا من أنساق تحالفاتها التقليدية، يبدو الاتحاد الأوروبي أكثر تيبساً وأقل حيوية في التعاطي مع المتغيرات التي تلحق بالإقليم، فيما يبدو أن النشر الأمريكي قد تجاوز محاولة احتواء "التهديد التركي" باتجاه احتواء تركيا إيجابياً في محاولة لإبقائها في المساحة الوسط بين طرفي المعترك (روسيا وأوروبا).

هذه الورقة تحاول اختبار حدود محاولات احتواء تركيا، منطلقة من المعطى الإقليمي السوري بصورة خاصة، وما تفرع عنه من قضايا كالسلاح والتحركات العسكرية والتوازنات السياسية وتدفقات اللاجئين.


روسيا في موريك

رغم المصالح الإستراتيجية التي تجمع كل من تركيا وروسيا اليوم، وهي مصالح متوقع لها أن تُنشئ نمطاً مستمراً من العلاقات الإيجابية، إلا أن ذلك لا يمنع من أن الإشارة إلى أن تمدُّد رقعة هذه العلاقات الإستراتيجية محل تشكُّك، وبخاصة بسبب التضارب بين الطرفين في المصالح.

فالمصالح المتعلقة بخط أنابيب نقل الغاز "ترك ستريم" ومحطة "أكوكو" لإنتاج الطاقة النووية، فضلاً عن التعاون بخصوص منظومة الدفاع الجوي "إس 400"[1]، وإبداء أردوغان رغبته في استمرار التعاون في مجال الصناعات الدفاعية، ورغبته في شراء طائرات "سو 57"[2]، كل هذا لا ينفي أن هناك تباينات وأسس عدم توافق واسعة تتعلق بتطلعات نفوذهما في المنطقة.

وحسب خبراء، فإن كلا الدولتين تعملان على إعادة ترتيب أوراق سياستهما الخارجية في إقليم يموج بتحولات ضخمة، وكلاهما لديه المطمح في تحصيل أكبر قدر من النفوذ بهذا الإقليم، وهو ما يجعل مساحات التفاعل بينهما تشهد قدراً من التعاون، لكنها تشهد قدراً عالياً من التنافسية.

غير أن هذه التنافسية ترتبط بتباينات جوهرية في وجهات النظر، أهمها ما يتعلق بأنماط حلفائهما في المنطقة. ففي سوريا تنحو روسيا نحو بشار الأسد فيما تدعم تركيا المعارضة السورية.

وفي فلسطين، تميل روسيا لمكافحة الإسلاميين وتدعم منظمة التحرير الفلسطينية، فيما تدعم تركيا حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، نفس الأمر ينطبق على مصر، حيث يُعد نظام السيسي هو الجناح المفضل لإدارة بوتين، فيما تحتوي تركيا جماعة الإخوان المسلمون.

وفي ليبيا اختارت روسيا العسكري خليفة حفتر فيما تدعم تركيا الحكومة المعترف بها دولياً. هذا بالإضافة للخلافات الاقتصادية، وأهمها المتعلق بتضارب المصالح بين الطرفين في أمور عدة أبرزها تسعير النفط بين روسيا المنتج وتركيا المستهلك الكبير[3].

في 19 أغسطس/آب 2019، تعرّضت قافلة عسكرية تركية في سوريا لغارة جوية على الطريق السريع خارج مدينة معرة النعمان. تضم دبابات ومدرعات وذخيرة في طريقها إلى "نقطة موريك"، وأعلنت تركيا مقتل 3 مدنيين وإصابة 12، فيما نشرت "بي بي سي" أن القتلى كانوا ركاب السيارة التي تقدّمت القافلة العسكرية[4].

ورغم أن وسائل الإعلام العالمية أعلنت أن الطائرة التي شنّت الهجوم سورية، فإن وسائل إعلام تركية أعلنت أن الطائرة التي نفّذت الغارة "قد" تكون روسية، وأن نبرة صوت وزير الدفاع التركي تشي بأن تركيا تُحمل روسيا المسؤولية عن هذا القصف، وكان تصريح وزير الدفاع التركي قد تضمن الإشارة إلى أن الضربة أتت بعد نحو 3 ساعات من إبلاغ تركيا لروسيا بالتحرُّك العسكري[5].

وفي 20 أغسطس/آب، كشفت روسيا عن وجود قوات لها في محيط محافظة "إدلب"، هددت بالرد على أي استهداف لعسكريها هناك"، الأمر الذي اعتبره محللون رسالة مشفرة إلى تركيا[6].

الهجوم على القافلة العسكرية التركية تبعها دعم روسي لقوات نظام الأسد لمحاصرة قطاع جغرافي من بينه مدينة "خان شيخون"، ما أدى عملياً لحصار النقطة العسكرية التركية التاسعة في "موريك"[7].

وفي معرض الرد على الاتهام التركي المبطن، صرّح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف "لقد أكدت بشكل واضح أنه إذا واصل (الإرهابيون) هجماتهم انطلاقاً من تلك المنطقة على الجيش السوري والمدنيين وقاعدة "حميميم" الجوية الروسية، فإنهم سيواجهون رداً حازمًا وقاسياً".

وفسّر - خلال مؤتمر صحفي عقده مع نظيره الغاني شيرلي أيروكور بوتشويه، في موسكو - تصريحاته بأن "الجيش التركي أنشأ عدداً من نقاط المراقبة في إدلب وكانت هناك آمال معقودة على أن وجود العسكريين الأتراك هناك سيحول دون شن الإرهابيين هجمات، لكن ذلك لم يحدث".

وحلل مراقبون تصريح "لافروف" بأنه بدوره يبلغ حد تحميل تركيا المسؤولية عن تمدُّد الرقعة التي تُسيطر عليها المعارضة السورية إلى 90% من رقعة محافظة "إدلب"، وهو ما يلفت لكون روسيا تتعامل مع كل المعارضة السورية باعتبارها "إرهابية"، لتتذرع روسيا بعد ذلك بإخلال تركيا بالتزاماتها في نزع سلاح "هيئة تحرير الشام"، وإقامة منطقة منزوعة السلاح تفصل القوات الحكومية وقوات المعارضة[8].

كانت الخارجية الروسية قد حمّلت تركيا مسؤولية الهجوم على قاعدة "حميميم" قبل أشهر، وأوعزت السبب في حدوث الهجوم لعدم توفير تركيا نقاط المراقبة اللازمة لمنع تحرُكات المسلحين السوريين[9]، وأعقب الموقف بدء الهجوم على نقاط المراقبة التركية في 18 مايو/آيار 2019[10]، وتكرّر ذلك في 5 أغسطس/آب 2019[11]، ومرشّح للتكرار مستقبلاً من دون احتمالات حدوث مواجهة مفتوحة.

الخلاف حول "إدلب" وإن كان له حدوده التي تمنع الأمر من بلوغ درجة توتّر نوعية قد تفضي لمواجهة واسعة النطاق، إلا أنه يُشير لحيوية هذه المحافظة السورية القريبة من الحدود التركية بالنسبة للقيادة التركية.

"إدلب بهذا المعنى تُمثل خط الدفاع الأول عن المنطقة الآمنة، وتمنح تركيا ورقة تفاوض للحفاظ على هذه المنطقة ضمن المحادثات النهائية، ولا يمكن تصوّر استعداد تركيا لخسارة هذه المنطقة التي تتمتع فيها بنفوذ واسع بما لها من هيمنة - إن لم تكن سيطرت على المعارضة السورية.

سيكون ذلك خسارة عسكرية مباشرة لكليهما، وسينعكس ذلك على طاولة التفاوض والحل السياسي والتأثير في مستقبل سوريا، وقد يضع الوجود التركي في منطقتي درع الفرات وعفرين موضع التساؤل من قبل النظام وروسيا لاحقاً. بهذا المعنى، إدلب هي خط الدفاع الأول لأنقرة عن وجودها داخل الأراضي السورية[12].

هذا فضلاً عما لهذه المنطقة من أهمية إستراتيجية، وبخاصة طريق «إم 4»، الذي تُعزز السيطرة عليه عملية تحوّل الأراضي السورية مسرحاً لمقايضات إستراتيجية بين واشنطن وموسكو وأنقرة[13].

ومن جانب آخر، نجد أن الموقف الروسي في هذا الإطار يبدو مبنياً على بعدين أساسيين[14]: أولهما يتعلق بتأمين "قاعدة حميميم الجوية" في جنوب شرق مدينة اللاذقية، والتي حصلت عليها روسيا بموجب اتفاق مع بشار الأسد في أغسطس/آب 2015، يمنح الحق للقوات العسكرية الروسية باستخدام القاعدة في أي وقت من دون مقابل ولأجل غير مسمى.

وثانيهما يتعلق باحتياجات نظام بشار الأسد بتحجيم قوة التنظيمات الثورية السورية، خاصة تلك التي تراجعت باتجاه "إدلب" قبل توقيع اتفاق خفض التصعيد في مايو/آيار 2017، ثم توقيع اتفاق تثبيته في سبتمبر/أيلول 2018.

وقد بدا عدم التفاهم التركي-الروسي واضحاً من خلال الرسائل المتبادلة على الأرض، إذ تم استهداف نقاط المراقبة التركية المنتشرة في إدلب منذ 4 مايو/آيار[15] والمستمر حتى اليوم بمساندة روسية – بحسب مراقبين[16]، وهو ما أدى لتسليم تركيا صواريخ مضادة للدروع لقوات المعارضة السورية، ومشاركة فصائل من منطقة درع الفرات في مواجهة تقدُّم قوات النظام شمالي حماه[17]، وهو نهج تصاعد بعد شروع تركيا في حماية اتفاق خفض التصعيد بتسليح المعارضة السورية في إدلب في 2018[18].

ويرى مراقبون أنه لولا مناورات الإدارة الأمريكية للإبقاء على علاقة دافئة نسبياً مع تركيا، لتوجهت روسيا – كما الولايات المتحدة - لدعم الحركة الكردية، واستعادة العلاقات الممتازة التي سادت خلال فترة وجود الاتحاد السوفيتي، والتي أدّت لتعزيز عضوية ونشاط "حزب العمال الكردستاني"[19]، خاصة في التسعينات.

ورغم وجود اتصالات روسية كردية بالفعل، ورغم أن توسُّع حزب العمال الكردستاني في "عفرين" في 2016 تم تحت غطاء روسي[20]، إلا أن مراقبين يرونها خطوة لن تلجأ إليها روسيا إلا في حالة استمرار مناورة ومقاومة أردوغان لتصورات روسيا لمعالجة الشأن السوري، وهو تصوّر يقوم في رؤيته المثالية على عدة اعتبارات، وهي[21]:

  • وضع حد لهجمات الطائرات دون طيار على قاعدتها الجوية في قاعدة "حميميم"، والتي تؤكد روسيا على أنها تنطلق من مناطق سيطرة فصائل المعارضة المسلحة.
  • سيطرة قوات النظام على جميع الطرق الرئيسة في محافظة إدلب والمناطق المحيطة بها.
  • دعم الجهود التركية في إقناع التنظيمات "الإرهابية" بالخروج من كامل محافظة إدلب، وهو هدف مشترك للدولتين.
  • استعادة قوات النظام السيطرة على محافظة "إدلب" كجزء من الإستراتيجية الروسية في استعادة كامل الأراضي السورية لسيطرة قوات النظام.
  • إعادة الحركة الآمنة على الطرق السريعة التي تمر عبر محافظة إدلب لتصل حلب، المركز الاقتصادي والتجاري الأهم، بمحافظتي اللاذقية على الساحل السوري والعاصمة دمشق.

ويُرجح خبراء أن يكون العامل الأساسي خلف تنكُّر روسيا لمسار "سوتشي"، خاصة التفاهمات حول "إدلب" إلى "التفاهمات الأمريكية – التركية" حول المنطقة الآمنة في الشمال السوري[22]. في تثبيت تفاهمات "سوتشي"، وتجريد تركيا من أهم أوراقها التفاوضية ضمن حراك المستقبل.

أعادت روسيا – مع زيارة أردوغان قبل أيام- تأكيد تفهمها لاحتياجات تركيا الأمنية، وتضمنت الحديث عن ترتيبات شَرَعت وفود البلدين في بحثها بعد انتهاء القمة، ترمي لوضع "تدابير مشتركة إضافية من أجل تطبيع الأوضاع"، وإجراءات أخرى تُمثل ترتيبات لحماية الجنود الأتراك الموجودين على التراب السوري، و"إجراءات إضافية مشتركة تستهدف القضاء على الإرهابيين"[23].

هذا الترتيب الأخير ربما يواجه هوى لدى تركيا التي ترغب اليوم أكثر من أي وقت مضى في إخضاع "جبهة تحرير الشام"/ جبهة النصرة سابقاً، والتي تُمثل أحد أهم معوقات رؤية تركيا لحماية "إدلب"[24].

حاول أردوغان إسالة لعاب روسيا بالتعاون في مجال الصناعة الدفاعية ومشتريات السلاح، وسعى لكسب الوقت فيما يتعلق بِـ"إدلب" ومصيرها في الأمد المنظور، كما أنه ناور بالتفاهم مع الولايات المتحدة، وهي نقاط يُمكن أن تُؤدّي لكسب بعض الوقت، لكن التفاهمات مع الولايات المتحدة تُمثل ورقة ضغط قوية على روسيا، وربما تكون العامل الحاسم في قرارها الأخير بتوفير عامل الوقت لأنقرة من عدمه.

ويتبقى لأنقرة الفاعلون في "إدلب" نفسها، حيث يُمكنهم أن يزودوها بورقة ضغط قوية ترفع تكلفة إسقاط "سوتشي"، لكن استهانة "روسيا" بحياة المدنيين السوريين تمثل القيد الوحيد على توظيف هذه الورقة والحفاظ على النفوذ التركي بهذه المنطقة، ما يُمكِنها بدوره من مناورة الولايات المتحدة، ولعل هذا الاعتبار وحده ما سيدفع "بوتين" للتفكير ملياً في منح "أنقرة" فرصة تنفيذ كامل تفاهمات "سوتشي".


الولايات المتحدة.. احتواء الاحتواء

ترتفع أصوات داخل مؤسسات التفكير في كل من الولايات المتحدة وتركيا لمحاولة احتواء تدهور العلاقات بين البلدين، وتُعوّل هذه المراكز على قدرة المؤسسات الأمريكية في ضبط ردود أفعال الرئيس الأمريكي، والتي بنظر الكثيرين تُمثل المتغير المستقل الذي يؤدي لإبعاد تركيا عن حلفائها التقليديين.

غير أن نفس الأصوات ترتفع من المعسكر التركي والعربي في محاولة لمطالبة القيادة التركية بالحرص على التوازن في علاقاتها الثنائية لتجنب موقف دولي واهن.

بدأت هذه الحملة مع مواجهة بين الطرفين شملت اتجاه الولايات المتحدة لتدريب 30 ألف جندي من "قوات سوريا الديمقراطية"[25]، فيما اتجهت تركيا لشراء منظومة الدفاع الجوي الروسية الشهيرة "إس 400".

بداية، يمكن القول بأن العلاقات الأمريكية التركية قد شهدت تحسناً طفيفاً خلال أغسطس/آب 2019، بعد التفاهمات التي حدثت حول المنطقة الآمنة في الشمال السوري، وذلك رغم أن تركيا لم تحصل على مرادها كاملاً.

فبعد تردٍّ واضح شاب هذه العلاقات، وأّدى بتركيا للتوجُّه شرقًا، وبناء مسار علاقات جادّة مع روسيا، وسط تحذيرات من الخبراء من كلا الجانبين بضرورة التوازن، بدأت الولايات المتحدة تحاول استدراك الخطأ الإستراتيجي الذي وقعت فيه منذ البداية بإتاحة الفرصة أمام القوات الكردية لاستباحة الشمال السوري، من دون مراعاة لتاريخ دامٍ من الصراع بين حزب العمال الكردستاني وتركيا بدأ منذ 1984، ولم يتوقف إلى اليوم بعد تطوّر علاقة واشنطن بوحدات حماية الشعب الكردية التي تطوّرت عن "قوات سوريا الديمقراطية" التي شكلتها الولايات المتحدة في أكتوبر/تشرين الأول 2015، واستخدمتها لمحاربة تنظيم الدولة.

ما أقلق تركيا هو توسيع قوات حماية الشعب الكردي عملياتها لتوسيع المنطقة التي تُسيطر عليها، وعبورها الفرات للسيطرة على منبج، ما أدى لتنفيذ تركيا عمليتي "درع الفرات" و"غصن الزيتون" لتأمين حدها الجنوبي[26]، ثم توسيع نطاق سيطرتها على نطاق الشمال السوري للحفاظ على التكتلات الكردية ممزقة، وإعادة توطين اللاجئين السوريين.

الموقف الأمريكي لا يمكن قراءته بالاستناد لمنظور القيادة، كما هو الحال بالنسبة للموقف التركي الذي يلعب فيه اقتراب القيادة دوراً فاعلاً في فهم المواقف التركية. فعدد من قادة الولايات المتحدة أبدوا حرصاً على العلاقات مع تركيا، وسبق أن تدخل ساسة أمريكيون لوضع حدود لتصرفات القوات الكردية، ومن ذلك تحذيرات نائب الرئيس الأمريكي السابق "جو بايدن" بضرورة التراجع عبر الفرات، وإلا فستخسر الدعم الأمريكي، وهو التحذير الذي لم يُنفّذ بسبب هجمات تنظيم الدولة التي أعادت ترتيب أولويات الولايات المتحدة[27].

غير أن ذلك لا يمنع من أن ثمّة ضيق تركي من منهج إدارة الرئيس "دونالد ترامب"، وهو ما يُمكن تلمّسه في تعليق وزير الخارجية التركي "مولود تشاووش أوغلو" على النبرة المتفائلة في التصريحات المشتركة الإيجابية بين وزيري دفاع الولايات المتحدة وتركيا إثر تفاهمات المنطقة الآمنة.

لوحظ أن التفاهمات بين وزيري الدفاع الأميركي والتركي، قوبلت بتحفظات من وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو الذي قال: "يجب أن يكون الأميركيون أولاً صادقين، ويجب أن يفهموا أن تركيا لن تتحمل أي أساليب تأخير"، وهو ما يعكس قلقاً من تكرار واشنطن لسيناريو "خطة منبج"[28] والبطء في تنفيذها لشراء الوقت وتمييع البرنامج الزمني[29].

وتحاول بيوت الخبرة وثيقة الصلة بدوائر صنع القرار في الولايات المتحدة ترشيد الموقف الأمريكي وتهذيبه عبر دفع المؤسسات لمواجهة طريقة تفكير الرئيس. نبرة تهدئة بيوت الخبرة للرئيس الأمريكي بالتأكيد على أن العلاقة بين تركيا وروسيا غير مُقدّر لها الاستمرار باتت نبرة واضحة لدى قطاع واسع من الباحثين[30].

وبلغ الأمر حد نصح الإدارة الأمريكية باسترضاء تركيا وطمأنة مخاوفها من دون أن تفقد صلاتها بوحدات الشعب الكردية التي كانت تُمثل وكيلاً فعالاً للولايات المتحدة في مواجهة تنظيم الدولة، وتُمثل اليوم وكيلاً يدعم النفوذ الأمريكي في مواجهة التلاعبات الإيرانية والروسية في سوريا[31].

هذه النبرة قائمة كذلك في الصف العربي والإسلامي، وتدعو تركيا لضرورة وقف التحولات في سياستها الخارجية، وبناء سياستها على أساس من التوازن في تنويع علاقاتها الثنائية، لئلا يتسبب الاندفاع نحو روسيا في إنتاج "معضلة" تعوق علاقات تركيا بحلفائها التقليديين في الغرب[32].

جهود تهدئة العلاقة بين الرئيسين الأمريكي والتركي بدأت في الإثمار، وتبدو أولى ثمارها في تزامن زيارة الرئيس التركي لروسيا في 27 أغسطس/آب 2019 مع ما ذكره مسؤولون من "وحدات حماية الشعب الكردية" السورية أنها قد قامت بسحب قواتها وأسلحتها الثقيلة من منطقتي "تل أبيض" و"رأس العين" على الحدود مع تركيا، مما يُظهر التزامها بالمحادثات الجارية[33].

ويعكس التوجُّه بإبراز سرعة الالتزامات بالتفاهمات الأمريكية – التركية، سعياً للحفاظ على علاقات أمريكية دافئة بتركيا، وذلك برغم أن التفاهمات المذكورة لم تُرضِ كلا الطرفين، التركي الذي كان يطمع في منطقة بعمق 40 كم ومساحة 460 كم2، فيما كانت تطمح القوات الكردية في خفض عمق المنطقة الآمنة إلى 5 كم فقط، فيما خلصت التفاهمات الأولية إلى الآتي[34]:

  • إقامة ترتيبات عسكرية (تسمية أميركية جديدة للمنطقة الأمنة) بطول 70 – 80 كلم بين مدينتي رأس العين وتل أبيض في محاذاة الحدود السورية – التركية وبعمق بين 5 و14 كم.
  • تسيير دوريات أمريكية – عسكرية، وكي يتم ذلك لا بد من تشكيل مركز عمليات مشترك جنوب تركيا.
  • الترتيبات عسكرية بحتة لا تتضمن أي إطار له علاقة بالحكم المحلي ولا علاقة لها بالتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة.
  • سحب السلاح الثقيل و"وحدات حماية الشعب" الكردية من هذه المنطقة.
  • إبعاد السلاح الثقيل مسافة 20 كلم من حدود تركيا في هذه المنطقة.
  • تسيير طائرات استطلاع من دون طيار. للتحقق وتبادل المعلومات.

= لم تكن قضية تأمين الحدود التركية وحدها ما أدى لتفاقم العلاقات الأمريكية التركية سلباً، حيث تضمن ملف تدهور هذه العلاقات قضية التعاون التركي – الروسي في مجال الدفاع والصناعات الدفاعية، وكان محوره الأساسي إصرار تركيا على شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية "إس 400".

سبق لتركيا أن طلبت من الولايات المتحدة تزويدها بمنظومة الدفاع الجوي "باتريوت"، وألحّت في الطلب، من دون أن تستجيب لها الولايات المتحدة[35]، ولا ينشر الطرفان معلومات حول سبب التأجيل، إلا أن الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" ألقى باللائمة على إدارة الرئيس السابق "باراك أوباما" في عدم الاستجابة لمطلب تركيا[36]، ومع اتجاه تركيا لشراء منظومة "إس 400" قدّمت الولايات المتحدة عرضين متتاليين[37]، لم يطابق أولهما مواصفات طلب الشراء التركي، في حين تقدّم العرض الثاني بعد التعاقد الفعلي على شراء المنظومة الروسية.

أقدمت الولايات المتحدة على سحب عرض بيع صواريخ باتريوت لتركيا كإجراء عقابي مباشر في أعقاب بدء تسليم وحدات منظومة "إس 400"، كما أنها علّقت تدريبات الطيارين الأتراك ضمن برنامج قيادة الطائرة "إف 35" التي كانت تركيا تنوي شراء 100 منها، بالإضافة للمشاركة في تصنيعها.

لم تلبث أن قررت واشنطن إخراج تركيا من البرنامج المشترك لصناعة المقاتلة[38]، غير أن ذلك لا يُمثل نهاية المطاف، حيث تُثار مخاوف من أن تُشدد العقوبات على تركيا بموجب قانون مكافحة أعداء الولايات المتحدة من خلال العقوبات أو Countering America's Adversaries Through Sanctions Act المعروف اختصاراً باسم "CAATSA".

القانون الذي أصدره الكونجرس ووقعه الرئيس "ترامب" في عام 2017، يتضمن 12 فئة من العقوبات، تبدأ بعدد من العقوبات للشخصيات والشركات التي تتعاون مع "أعداء الولايات المتحدة"، وتبلغ حد أن يطلب الرئيس من ممثلي الشعب الأمريكي التواصل مع المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين لعرقلة أية قروض تطلبها الجهات الموقع عليها العقوبات[39].

ويرى خبراء أن المخاوف الأمريكية الحقيقية تتمثل في أن يُؤدّي لجوء تركيا لمنظومة الدفاع الجوي الروسية إلى فتح الباب في الإقليم لسيل من المشتريات من هذه الأسلحة، وهو ما تريد الولايات المتحدة أن تمنعه عبر تقديم "عبرة" من خلال معاقبة طرف قام بعملية الشراء بالفعل.

غير أن خبراء يرون أن معاقبة "شريك" مثل تركيا قد يُؤدّي لتعزيز قدرة روسيا على إحداث شرخ بين شركاء حلف شمال الأطلنطي، كما أنه قد يُؤدّي إلى توسع تركيا في مواجهة "وكلائها" الأكراد في الشمال السوري[40]، هذا فضلاً عن الحاجة الأمريكية لتركيا في توقيت ترتفع فيه عقيرتها بالتصعيد مع إيران.

إضافة لذلك، يرى خبراء أنه يمكن لأنقرة تحمُّل عقوبات مؤقتة، أو رمزية أو متوسطة المستوى، وهو ما لن تحوّلِ الأمر لأزمة مع واشنطن. إلا أن عقوبات حقيقية وذات آثار دراماتيكية على الاقتصاد التركي ستكون اختباراً صعباً للعلاقات الثنائية بين البلدين[41].

وتبدو قضية تخويف الولايات المتحدة من استفادة تركيا من هذه العقوبات ذات صدقية عالية في الوقت الراهن، والذي يشهد تصاعد نبرات تصوير السياسة الغربية في المنطقة وكأنها سياسة احتواء مزدوج لكل من إيران وتركيا[42].

غير أنه في إطار تزايد الجهود لاحتواء الخلاف الأمريكي التركي، يرى مراقبون أن رد الفعل الأمريكي سيتضمن فرض عقوبات لن تكون حادة ولا دائمة، تحمل صفة إثبات الموقف أكثر من معنى المواجهة مع تركيا والإضرار بها. ويُعلق المراقبون هذه الرؤية العقلانية على قدرة المؤسسات الأمريكية على ضبط رد فعل الرئيس الأمريكي[43].


أوروبا.. الاتجاه المعاكس

على نقيض التوجُّه الأمريكي الذي يتجه لاحتواء تركيا إيجابياً، وإن كان توجهاً وئيداً، فإن الاتجاه الأوروبي يتحرك في الاتجاه المعاكس. انتقل المشهد الأوروبي حيال تركيا بين ملمحين، الأول نراه مع دعوة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الاتحاد الأوروبي في مايو/آيار 2017 إلى إبداء مرونة أكبر في التعامل مع تركيا وعدم دفعها بعيدًا عنها، والسعي للحفاظ عليها شريكاً فعالاً في حلف شمال الأطلنطي، يتمتع بروابط قوية مع الاتحاد الأوروبي، فيما بدا وكأنه محاولة لاحتوائها بعد ظهور بوادر لاتجاه أنقرة شرقًا[44].

أما الملح الثاني فيتمثّل في اتفاق الاتحاد الأوروبي، في 15 يوليو/تموز 2019، على اتخاذ إجراءات عقابية بحق تركيا، تتضمن وقف المفاوضات معها بشأن إبرام صفقة طائرات، وإلغاء اجتماعات سياسية رفيعة المستوى بين مسؤولين أتراك ونظرائهم في الاتحاد، وخفض المخصصات المالية لتركيا باعتبارها مرشحة لعضوية الكتلة الأوروبية.

أتت هذه العقوبات بعد دعوة قبرص مفوضية الاتحاد لاتخاذ إجراءات بعد أن أرسلت تركيا سفينتين للتنقيب عن الغاز الطبيعي في المياه التي تعتبرها قبرص جزءاً من المنطقة الاقتصادية الخالصة لها[45].

دعوة ميركل المشار إليها أعقبت سلسلة من التصعيد بين تركيا والاتحاد الأوروبي، بدأت برد فعل الرئيس التركي على المماطلة في البت في طلب تركيا الانضمام للاتحاد، حيث هدد بدعوة الأتراك للاستفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي[46]، وهي خطوة تُشير لحالة مراجعة حيال قرار الانضمام للاتحاد.

تصريح أردوغان أعقبه تصريح آخر لرئيس المفوضية الأوروبية "جان كلود يونكر" بأن تركيا غير مؤهلة لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي قريباً[47]، ثم قرار الجمعية النيابية للاتحاد الأوروبي بوضع تركيا ضمن قائمة الدول المراقبة[48].

ويكشف تفاعلات فرض العقوبات على تركيا عن وجود تيار أكاديمي تركي يُرجِّح أن الاتحاد الأوروبي لن يقبل بتركيا عضواً كاملاً ودائماً، ويرون أن ثمّة نظر داخل الاتحاد الأوروبي يتسم بالسلبية تجاه تركيا باعتبارها دولة إسلامية لها تاريخ سلبي مع أوروبا، وهو ما دفع "الاتحاد" للتذرُّع بضعف قدرة تركيا على تطبيق قواعد حقوق الإنسان الخاصة بالاتحاد الأوروبي بشكل كامل، والفروق الثقافية التي تتبدّى خلال الفترة الأخيرة بين الهوية التركية وهوية الاتحاد الأوروبي[49]، فضلاً عن القوة الديموجرافية الإسلامية التي ستضاف للاتحاد الأوروبي، ما قد يُؤثّر على هوية "الاتحاد"، فيما يرى باحثون أن قوة الاقتصاد التركي مهددة بتقلبات الإقليم وما يرتبط بها من عمليات عسكرية وتكلفة عالية[50].

يمكن القول بأن ثقة الأتراك بشكل عام في إمكانية الانضمام للاتحاد كحاضنة اقتصادية قد تراجعت بعد تاريخ طويل من التفاوض بدأ بتوقيع "اتفاقية أنقرة" مع المجموعة الأوروبية في 12 سبتمبر/أيلول 1963، والتي دخلت حيِّز التنفيذ في 1 ديسمبر/كانون الأول 1964، ثم تجاوزها المرحلة التحضيرية باتجاه توقيع الاتفاقية الانتقالية الخاصة بالعضوية في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1970، ثم نجاحها في دخول الاتحاد الجمركي في الأول من يناير/كانون الثاني 1996، وهو الإجراء الذي يُشكل أهم مرحلة من مراحل تكامل تركيا مع الاتحاد الأوروبي.

يُضاف إلى ذلك جهود ما بعد تقدُّم تركيا بطلب الترشح في "قمة هلسنكي" في 10 ديسمبر/كانون الأول 1999، وقبول طلب الترشح في 17 ديسمبر/كانون الأول 2004 خلال "قمة بروكسل"، أي بعد 5 أعوام، وإعلان بدء مفاوضات الانضمام بعد ذلك بعام كامل في 3 أكتوبر 2005[51]، وهي المفاوضات التي تعثرت لنحو 14 عاماً، ليبلغ عمر المفاوضات مع الاتحاد نحو 56 عاماً.

وكانت آخر مصادر تعثرها اعتراض أوروبا على انتهاكات حقوق الإنسان، والتي – برغم أهميتها القصوى - بات يُنظر في العالمين العربي والإسلامي باعتبارها اعتراضات تكتيكية وغير جادة تصدُر عن قادة الدول الغربية، حتى باتت دول ذات نُظُم استبدادية تراجع دولاً غربية بموجب حقوق الإنسان[52]، ولا تأخذ دول أوروبا بعين الاعتبار الانقلاب العسكري الذي شهدته تركيا في 15 يوليو/تموز 2016، والذي كانت تركيا ستلقى إثره نفس الاعتراضات الحقوقية الأوروبية.

كانت مواقف الولايات المتحدة من الانقلاب عند وقوعه تميل للإمساك بالعصا من المنتصف، ولم تنحُ منحى التأكيد على احترام السلطة المنتخبة مدنياً إلا بعد اتجاه معادلة الانقلاب للانكسار[53].

قُبيل حادث التنقيب التركي عن الغاز، صوّت البرلمان الأوروبي في 15 مارس/آذار 2019 على قرار غير ملزم يطلب من المفوضية الأوروبية والدول الأعضاء التعليق الرسمي للمفاوضات مع تركيا بسبب التدهور الشديد في حقوق الإنسان والحريات وحكم القانون في تركيا.

وذكر تقرير البرلمان أن هذا القرار رمزي في الغالب حيث أن عملية انضمام تركيا متوقفة منذ فترة طويلة بسبب مشكلات بين تركيا وبعض الدول الأعضاء، حتى قبل أحداث ما بعد محاولة الانقلاب الفاشلة[54].

من جانبها انتقدت وزارة الخارجية التركية تصويت البرلمان بعد وقت قصير من انتهائه، قائلة إنه "أحادي الجانب ولا أساس له"، وأكدت على أن "عضوية الاتحاد الأوروبي لا تزال هدفاً إستراتيجياً".

وذهب وزير الخارجية التركي لأبعد من ذلك ناشراً مقالاً بعدد من المواقع الرصينة الغربية، داعياً لإعادة تفعيل مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، منوّهاً للخدمات التي تقدمها تركيا لأوروبا، وموضحاً طبيعة الإصلاحات التي تتخذها تركيا على صعيد الحالة الحقوقية[55]، كما دعا تشاووش أوغلو أيضاً في 20 أغسطس/آب 2019، دول أوروبا إلى العمل المشترك مع أنقرة للتغلب على الصعوبات التي تواجه الطرفين[56].

ثمّة جناح قوي في حزب العدالة والتنمية، وتيار قوي خارج الحزب، يرى أن الاتحاد الأوروبي سيُمثل رافعة اقتصادية قوية لتركيا، ويُعد وزير الخارجية التركي أحد القيادات الرسمية لهذا التيار، فيما يبدو الرئيس التركي ميالاً للحلول العملية، وبرغم رغبته في تحصيل عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، إلا أنه يبدو غير مستعد لترك ثروات البحر المتوسط تذهب لأطراف إقليمية لديها أضواء خضراء للسيطرة، فيما تتوقف المفاوضات مع تركيا لأجل غير مسمى بسبب مواقف نفس الدول التي تنازعه حق التنقيب عن ثروة تخص الإقليم التركي من قبرص.

وتبدو في الأفق عملية تأجيل وتشدد مع تركيا على خلفية محاولة كبح اليمين الأوروبي، من شأنها أن تستهلك وقتاً لا يبدو أن الرئيس التركي سيقبل التضحية به.


خاتمة.

دقة الموقف التركي، وصعوبة الخيارات المتاحة أمام القيادة التركية يكاد يشبه بيتي الشعر الذين صاغهما الشاعر السوداني "إدريس جمّاع"، وفيهما قال:

إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه *** ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه

إن محاولاتها الموازنة في علاقاتها بحلفاء يبدو من مسالكهم حيالها أنهم غير أهل للثقة تخضع لعملية تأويل مستمرة.

فالدب الروسي ينظر لتفاهماتها مع الولايات المتحدة باعتبارها مصدر إزعاج للترتيبات المزمعة في سوريا بعد انتهاء "حالة المعارضة"، ومن جهة أخرى، يبدو أن قضية "إدلب" تحمل تناقضاً مكتوماً بين رؤى الطرفين، حيث تبدو المصالح الروسية التركية في "إدلب" متنافية، وأن ما يرتبط بها من تفاهمات تبدو هشة، في إطار غياب الرغبة التركية في خوض صدام واسع سيؤثر حتماً على قدراتها الاقتصادية.

ومن جهة ثانية، يبدو أن الحليف الأمريكي، الذي تصدُر عنه إشارات سلبية عدة، مثل دعم التهديد الكردي والتلكؤ في تلبية الطلبات الدفاعية التركية، يبدو ميالاً للتشكك في مسار السياسة الخارجية التركية، ويُخضعها لتأويلات مختلفة تتعلق بوجهة التحالفات و"إشاعة فوضى التسلح" في إقليم تراه سوقاً تاريخية للسلاح والبضائع الأمريكية. وبرغم ذلك، يبدو النسر الأمريكي الأقرب لتفهم القلق التركي، ما يتبدى في تفاهمات المنطقة الآمنة.

ومن جهة ثالثة، يبدو الاتحاد الأوروبي محافظاً بصورة تفوق قدرة تركيا على الاحتمال، إن سياسياً أو اقتصادياً، فيما يبدو متساهلاً مع سائر القوى الإقليمية بغض النظر عن مواقفها من الديمقراطية وحقوق الإنسان فضلا عن مواقفها الاقتصادية.

ويبدو تعاطي المحور الإماراتي – السعودي – المصري مع صعود اليمين الأوروبي، وقدرة هذا المحور على توظيف هذه الظاهرة والاستجابة لها يجعل أزمة تركيا مع الاتحاد الأوروبي أكثر استعصاء على الحل.

المسارات مع القوى الثلاثة لا تبدو وكأنها في سبيلها للانقطاع. فزيارة أردوغان الأخيرة لروسيا تبدو واعدة – نوعاً ما - في كسب مزيد وقت. كما تبدو العلاقات مع الولايات المتحدة سائرة باتجاه أكثر عملية، وبخاصة مع المرونة الظرفية التي أبدتها وزارة الدفاع التركية في تفاهمات المنطقة الآمنة.

كما تجتهد الخارجية التركية في إعادة وصل ما انقطع من حبال التواصل مع الاتحاد الأوروبي. وتنطلق التحذيرات من كل الجوانب داعية لتلاقٍ بنّاء، ربما باستثناء الاتحاد الأوروبي الذي يحتاج لدفعة دبلوماسية أكبر.


المصادر:
[1] Elif Beyza Karaalioglu, The dangers of Turkey's deepening relations with Russia, Middle East Eye, 4 January 2019. http://bit.ly/2L9oynZ
[2] وكالات، بوتين متفهم.. وأردوغان: محاربة الإرهاب ليست ذريعة لاستهداف المدنيين بإدلب، الجزيرة نت، 27 أغسطس 2019. http://bit.ly/2Zu4Wnt
[3] GALIP DALAY, Turkey and Russia are Bitter Frenemies, Foreign Policy Magazine, MAY 28, 2019. http://bit.ly/2ZtsGUG
[4] المحرر، ما مصير نقاط المراقبة التركية في سوريا بعد التطورات الأخيرة؟، موقع "بي بي سي" العربي، 25 أغسطس 2019.  https://bbc.in/2ZiDgTz
[5] All evidence points to Russia in air strike on Turkish military convoy in Syria - columnist, Ahval News, Aug 24 2019. http://ahval.co/en-56795
[6] المحرر، رغم الرسائل المشفرة.. تركيا "مجبرة على الانسحاب" في إدلب، موقع "سكاي نيوز" العربي، 21 أغسطس 2019. http://bit.ly/2L78cw5
[7] المحرر، ريف حماة الشمالي وخان شيخون تحت سيطرة النظام وأنقرة تنفي محاصرة قواتها، الجزيرة نت، 24 أغسطس 2019. http://bit.ly/2NzbKds
[8] المحرر، ما مصير نقاط المراقبة التركية في سوريا بعد التطورات الأخيرة؟، إشارة سابقة. https://bbc.in/2ZiDgTz
[9] المحرر، لافروف يحمل أنقرة "جزئيا" مسؤولية الهجوم على "حميميم"، شبكة "شام" الإخبارية، 20 يناير 2018. http://bit.ly/2L4RVaU
[10] المحرر، قذائف صاروخية وطائرات مسيّرة تستهدف قاعدة حميميم الروسية في سوريا، موقع "عربي بوست"، 18 مايو 2019. http://bit.ly/30EqYBq
[11] وكالات، تضم قوات روسية.. هجوم صاروخي على قاعدة حميميم والنظام السوري يستأنف القصف، الجزيرة نت، 5 أغسطس 2019. http://bit.ly/32ercjh
[12] سعيد الحاج، عن حدود الحماية التركية لإدلب، موقع الكاتب سعيد الحاج؛ نقلا عن موقع "عربي 21"، 21 أغسطس 2019. http://bit.ly/2ZsHkQg
[13] إبراهيم حميدي، صحيفة تنشر تفاصيل ” المنطقة الآمنة ” و الترتيبات الأمريكية التركية في شمال سوريا، موقع "تركيا بالعربي"، 21 أغسطس 2019. http://bit.ly/2Htf06f
[14]رائد الحامد، معركة إدلب: استراتيجيات أطراف الصراع واستبعاد معركة مفتوحة، معهد العالم للدراسات، 16 سبتمبر 2018. http://bit.ly/2L63Ghg
[15] سعيد عبد الرازق، أنقرة تتهم دمشق بمهاجمة نقاط مراقبة تركية غرب حماة، صحيفة الشرق الأوسط" السعودية، 13 مايو 2019. http://bit.ly/340aaa8
[16] وكالات، مصادر: تركيا تسلح المعارضة لصد هجوم للجيش السوري تدعمه روسيا، موقع "يورونيوز" العربي، 25 مايو 2019. http://bit.ly/2Zeg0pE
[17] وكالات، تركيا تُسلح للمعارضة لصد هجوم للجيش السوري، إشارة سابقة. http://bit.ly/2ZxsYu4
[18] المحرر، تركيا تكثف تسليح المعارضة من أجل "معركة استنزاف" في إدلب، موقع "سكاي نيوز" العربي، 12 سبتمبر 2018. http://bit.ly/2Zx4dSw
[19] أشرف الصباغ، العلاقات الروسية- التركية: كيف نجحت روسيا في عزل تركيا؟، المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية، 26 يونيو 2019. http://bit.ly/2MLgAET
[20]Barak Barfi, Containing the Afrin Crisis: Turkey's Goals and Military Challenges, The Washington Institute, January 31, 2018. http://bit.ly/2U3wx9Y
[21] رائد الحامد، إشارة سابقة. http://bit.ly/2L63Ghg
[22] إبراهيم حميدي، صحيفة تنشر تفاصيل ” المنطقة الآمنة ” و الترتيبات الأمريكية التركية في شمال سوريا، موقع "تركيا بالعربي"، 21 أغسطس 2019. http://bit.ly/2Htf06f
[23] وكالات، بوتين متفهم.. وأردوغان: محاربة الإرهاب ليست ذريعة لاستهداف المدنيين بإدلب، إشارة سابقة. http://bit.ly/2Zu4Wnt
[24] المحرر، اقتتال إدلب.. كيف ستَتعامل تركيا مع "هيئة تحرير الشام"؟، ترك برس، 11 يناير 2019. http://bit.ly/2NF66X1
[25] إبراهيم حميدي، 5 نقاط أميركية لـ«حماية الأكراد» من تركيا... و30 ألف مقاتل لـ«احتواء» إيران، صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية، 25 نوفمبر 2018. http://bit.ly/33YOVWh
[26] Barak Barfi, ibid. http://bit.ly/2U3wx9Y
[27]Editorial, The Guardian view on Turkey’s incursion into Syria: Ankara’s biggest concern is containing the Kurds, The Guardian, 25 Aug 2016. http://bit.ly/2PeFUF4
[28] وكالات، تفاصيل الخطة التركية الأمريكية حول مستقبل منبج السورية، موقع "روسيا اليوم" العربي، 30 مايو 2018. http://bit.ly/2HvwBKA
[29] إبراهيم حميدي، صحيفة تنشر تفاصيل ” المنطقة الآمنة ” و الترتيبات الأمريكية التركية في شمال سوريا، موقع "تركيا بالعربي"، 21 أغسطس 2019. http://bit.ly/2Htf06f
[30] GALIP DALAY, ibid. http://bit.ly/2ZtsGUG
[31] Barak Barfi, ibid. http://bit.ly/2U3wx9Y
[32] Elif Beyza Karaalioglu, ibid. http://bit.ly/2L9oynZ
[33] المحرر + وكالات، السلطة الكردية تقول إن وحدات حماية الشعب السورية انسحبت من مواقع حدودية مع تركيا، موقع "يورونيوز" العربي، 27 أغسطس 2019. http://bit.ly/32bUYFk
[34] إبراهيم حميدي، صحيفة تنشر تفاصيل ” المنطقة الآمنة ” و الترتيبات الأمريكية التركية في شمال سوريا، موقع "تركيا بالعربي"، 21 أغسطس 2019. http://bit.ly/2Htf06f
[35] Editorial, Turkey, US continue negotiations on Patriot sale amid S-400 rift, Dily Sabah Newspaper, July 25 2019. http://bit.ly/2ZxMw16
[36] Ryan Browne, US formally pulls Turkey's Patriot missile system offer, CNN, August 22, 2019. https://cnn.it/2ZjhNtz
[37] Editorial, Turkey, US continue negotiations on Patriot sale amid S-400 rift, Ibid. http://bit.ly/2ZxMw16
[38] المحرر، ماذا يعني خروج تركيا من برنامج F-35؟، موقع "قناة الحرة" الأمريكية العربي، 18 يوليو 2019. https://arbne.ws/2Zzc65P
[39] Onur Ant - Cagan Koc - and Nick Wadhams, Turkey Gets Its Russian Missiles. Here's How the U.S. May React, Bloomberg, 12 July 2019. https://bloom.bg/320Vq9c
[40] Natasha Turak, Washington wants to sanction Turkey over its Russian arms deal — but it could backfire, CNBC, 17 JUL 2019. https://cnb.cx/2NDEmSv
[41] سعيد الحاج، حدود العقوبات الأمريكية المحتملة على تركيا، موقع "سعيد الحاج" نقلا عن تي آر تي العربية، 18 يوليو 2019. http://bit.ly/2ZEHPHe
[42] نعمة الله مظفربور، الاحتواء المزدوج يستهدف إيران وتركيا، صحيفة "الوقت" اللبنانية، 20 جمادي الثاني 1439هـ. http://bit.ly/32erN4t
[43] الإشارة السابقة. http://bit.ly/2ZEHPHe
[44] وكالات، هل تنجح حملة ميركل الأوروبية في احتواء تركيا؟، موقع "اليوم" الفلسطيني، 3 مايو 2017. http://bit.ly/2HsEC2W
[45] وكالات، الاتحاد الأوروبي يعاقب ضد تركيا بسبب تنقيب عن الغاز شرق المتوسط، موقع "مصراوي" الإخباري، 15 يوليو 2019. http://bit.ly/2NAk38I
[46] مراد سيزر، أردوغان يدرس إجراء استفتاء على انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وكالة "سبوتنيك" الإخبارية الروسية، 4 اكتوبر 2018. http://bit.ly/3480k5V
[47] وكالات، يونكر: تركيا غير مؤهلة لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي قريبا، صحيفة "الفجر" المصرية، 25 يوليو 2016. http://bit.ly/30RdEJS
[48] المحرر، تركيا تحذر الأوروبيين بعد التوصية بوضعها تحت الرقابة، الرسالة نت، 28 أبريل 2017. http://bit.ly/2Pkf66n
[49] المحرر، احباط متبادل بعد 25 سنة من طلب تركيا الانضمام للاتحاد الأوروبي، موقع قناة "دويتشه فيله" العربي، 15 أبريل 2012. http://bit.ly/2U9sNE4
[50] شمس الدين النقاز، تركيا لا يمكنها الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي وهذه هي الأسباب، صحيفة "الرأي اليوم" اللندنية، 16 مايو 2016. http://bit.ly/2MDKA5j
[51] وزارة الخارجية التركية، العلاقات التركية مع الاتحاد الأوربي، موقع وزارة الخارجية للجمهورية التركية. http://bit.ly/2ZmASuU
[52] وكالات، روسيا والاتحاد الأوروبي يتبادلان الاتهامات حول حقوق الإنسان، موقع "اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان" القطرية، 8 فبراير 2009. http://bit.ly/3468bB2
[53] المحرر، مواقف الدول منذ بدء انقلاب تركيا حتى نهايته، الجزيرة نت، 15 يوليو 2016. http://bit.ly/2L6ubD6
[54] المحرر، مقابلة خاصة: تركيا ترفض طلب البرلمان الأوروبي تجميد عملية انضمامها للاتحاد، موقع وكالة "شينخوا" للأنباء الصينية، 15 مارس 2019. http://bit.ly/2Zq0S7W
[55] MEVLÜT ÇAVUŞOĞLU, Let’s put Turkey’s EU membership back on track, Politico, 14 May 2019. https://politi.co/3436QLm
[56] وكالات، تركيا تدعو الاتحاد الاوروبي الى عمل مشترك للتغلب على الصعوبات، "بوابة الكويت"، 21 أغسطس 2019. http://bit.ly/30I1cfw