خرافة الإسلام السياسي وأبعاد الجدل حوله

12

طباعة

مشاركة

مصطلح الإسلام السياسي صكَّه الكتّاب الغربيون بالتزامن مع أحداث سبتمبر/ أيلول 2001، فى بداية هذا القرن والألفية الثالثة، وكان يقصد به تحول الحركات الإسلامية من الدعوة إلى القيم الدينية؛ إلى مرحلة الاحتكاك بالسلطة بغية المشاركة فيها.

ثم تردد هذا المصطلح في الخطاب السياسي العربي؛ بشكل زرع فى النفوس كراهية هذا الشق من الإسلام. وهذا أمر طبيعى؛ لأن مزاحمة الإسلاميين للحكّام العرب استناداً إلى المُقدس الديني، وهو أكبر تحدى لتمسك الحكام بالسلطة؛ لأن الإسلاميين جاهزون بآليات التكفير وأدبيات الدين التى تبرر لهم دون غيرهم مزاحمة الحاكم. والحق أن هناك ثلاث ملاحظات على المصطلح.

الملاحظة الأولى: هى أن المصطلح يعنى تقسيم الإسلام إلى أقسام سياسية واقتصادية واجتماعية، خاصة وأن المصطلح ظهر في البداية فى نهاية الثمانينيات، عندما ظهر اتجاه في مراكز البحوث الإسلامية إلى ما يسمى بأسلمة المعرفة (اجتماع إسلامي، اقتصاد إسلامي، سياسة شرعية... إلى آخره).

وهي نفس الفترة التي كان فيها الغرب يرشح الصراع مع الإسلام بعد أن استفاد من استغلاله بديلاً عن الصراع مع المعسكر الشيوعي.

والحقيقة أن الإسلام هو مجموعة القواعد الآمرة المستقاة من القرآن والسنة، والتي استنبطها الفقهاء وقدّموا لها مذكرة تفسيرية وتنفيذية رغم أن الفقه ليس من عناصر الإسلام.

الملاحظة الثانية: هي أن ما أطلقوا عليه الإسلام السياسي هو في الواقع الجماعات الإسلامية، التى ساندها الغرب وشجعها ضد بعض الحكام الذين لم يظهروا مرونة كافية مع السياسات الغربية. كما استغلت هذه الجماعات بشكل موسّع فى صراعات الحرب الباردة لصالح الولايات المتحدة، وخاصة في أفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك، وأخيرا "داعش" في الصراع الإيراني الأمريكي، والصراع مع إسرائيل لصالح إسرائيل وغيرها من الساحات.

وكانت هذه الساحات نقطة تحول هائلة فى تطور مفهوم الإرهاب؛ بل إن إسرائيل أسهمت هي الأخرى في وصم المقاومة بالإرهاب، رغم مجاهرة إسرائيل بأنها تريد كل فلسطين، بل ووصم الشعب الفلسطيني كله بالإرهاب؛ مما التبس على زعيم إسلامي بارز يساند الحقوق الفلسطينية، وهو مهاتير محمد، فى كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2018. ووصف هذه المقاومة بالإرهاب، في حين اضطرت إسرائيل هذا الشعب إلي هذا الإرهاب.

إن رعاية الغرب للجماعات الإسلامية والمسيحية وجدت تفسيرات متباينة في الأدب والسياسة والقانون الغربي؛ فمساندة الجماعات الإسلامية في نظرهم كان يعني لهم، أن تكون هذه الجماعات حتى لو كانت مسلحة بديلاً للمعارضة السياسية المفقودة في الدول الإسلامية، رغم أن الحكام لم يكونوا معادين للغرب، ولكنها ورقة ضد بعضهم إذا فكر فى التحرر من الهيمنة الغربية.

أما مساندة الجماعات المسيحية؛ فقد برروه بأنه دعم للأقليات وتعزيز للحرية الدينية، وهي معرّضة للاضطهاد المفتعل في معظم الأحيان.

الملاحظة الثالثة: هي أن ثورات الشعوب العربية تقدمها الإسلاميون، وكان ذلك سبباً في استدراج هذه الجماعات إلى السلطة، ثم المساهمة في القضاء عليها وتشويه سمعتها كقوة سياسية ومجتمعية، حتى يضمن أن استخدامه لها يبدو وكأنه تشجيع للديمقراطية، وهو فصل من فصول النفاق الذي ألفناه في المنطقة العربية، والذي كلّف المنطقة المال والدماء والصدام بين مكونات الدول العربية. وقد تصرفت الجماعات الإسلامية سياسيا بمنطق نظري لاعلاقة له بالواقع أو قراءة مستنيرة للأوضاع.

معنى ذلك أن إغفال وتجاوز هذه الأوضاع وتصرف الجماعات دون تحرز، وكأنه أمر طبيعي، جعلهم يهملون أن السلوك الطبيعي يكون في ظروف طبيعية ولا يجوز إغفال الظروف المعقدة التي مرت بها مصر مثلاً، وهي مسألة تحتاج إلى نقاش هادئ لم يحن أوانه.

الصحيح أنه لا يوجد إسلام سياسي أو إسلام اقتصادي، وإنما هناك اجتهادات إسلامية فى مجال علم السياسة وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع، بالإضافة إلى ظهور علماء مسلمين كان لهم السبق في كل هذه المجالات وغيرها.

أما استدعاء الدين فى غير محله، خصوصاً فى الصراع السياسي على السلطة، فهو لا يقل خطورة عن استخدام أسلحة أخرى. بل إن هذا المنهج يسيء إلى الدين ويربك عقيدة المسلمين، والحق أن كل الأطراف المتصارعة على السلطة استخدمت الدين لدعم موقفها. والحق أيضا أن الإسلام ثابت وواضح وقيمه خالدة، ولكن أتباعه هم الذين يطوّعونه في صراعاتهم الحياتية والمجتمعية.

وأخيراً، إذا كنا نرفض مصطلح الإسلام السياسي، فإننا بحاجة ماسة إلى عقلاء يضعون قواعد الأخلاق في الدين، وفي الممارسات المختلفة بما فيها السلطة. وهذا يتطلب نوعيات من الأشخاص العقلاء النجباء لتربية أجيال جديدة على هذه الرؤية، التي يجب صياغتها بوضوح.

كما نحتاج إلى مراجعات أمينة لكل الأطراف عبر العقود السبعة الماضية.

ولعل المصطلحات التي يصوغها الغربيون يتم استخدامها وتداولها دون تمحيص، مثل مصطلح الربيع العربي، قياساً في العقل الغربي على ربيع براغ في تشيكوسلوفاكيا، عام 1968، التي قمعتها القوات السوفييتية بسرعة؛ لأن موسكو ظنت أنها من تدبير الغرب في إطار الحرب الباردة، وهي متوجسة منذ قمعت الثورة المجرية عام 1956، عندما كان الغرب يسعى إلي اختراق السياج الحديدي للإمبراطورية السوفييتية.

يبدو أن مصطلح الإسلام السياسي ينطوي على سوء النية، ويستند إلى الاشتباك بين الإسلام والحياة، بخلاف المسيحية وعلاقة الكنيسة تاريخياً بالدولة، فهو مصطلح يثير الرعب في قلوب الحكام في الدول العربية.

بعد التجربة الإيرانية وولاية الفقيه في تقاليد الثورة الإيرانية، خشي الحكام من انتزاع الشرعية منهم بحكم قرب هذه الجماعات من الدين في المدرك الشعبي.

ولذلك أعتقد أن المصطلح جزء من تشويه الدين من ناحية، واستعداء الحكام عليها من ناحية أخرى. ولكن المصطلح يعكس جهلاً بالدين من جانب نفس الدوائر التي ابتدعت مصطلح الإرهاب الإسلامي في الطبعة الأخيرة للمؤامرة؛ عندما استُغل الشباب المسلم.

والخلاصة، أننا يجب أن نمحّص المصطلحات الواردة من الغرب وصفاً لأحوالنا، وأن نتحلى بالعقل الذي يعصمنا من الاستتباع السياسي والثقافي.