بعد البشير.. هل ينجح السودان في إنهاء عزلته الدولية؟

مهدي محمد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

ربما لم يشهد السودان عزلة خارجية أطول من تلك التي عاشها في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير، معتمداً سياسة خارجية تلهث وراء المصالح الضيقة والانخراط في المحاور والتجاذبات الإقليمية، حتى صار قرار الخرطوم السياسي والاقتصادي والعسكري أسير أموال من هنا وهناك.

الآن وقد أُزيح البشير ونظامه، وخرج إلى النور سودان جديد، وسط آمال وطموحات تعانق السماء، فهل تنجح كتيبة السياسة الخارجية في الحكومة الجديدة بقيادة البلاد نحو طريق يحفظ للسودان قراره، وينجح في إنهاء عزلة دولية طال أمدها وألقت بظلالها على كل مناحي الحياة؟

وأنهى الاتفاق الذي تمَّ التوصل إليه بين المجلس العسكري وتحالف قوى الحرية والتغيير في الرابع من أغسطس/آب الماضي، نحو ثمانية أشهر من الاضطرابات بدأت بمظاهرات حاشدة ضد الرئيس عمر البشير. وأطاح الجيش بالبشير تحت ضغط الشارع في أبريل/نيسان، بعد 30 عاماً من حكم السودان بقبضة من حديد.

ومن شأن الاتفاق أن يُمهِّد لبدء مرحلة انتقالية تُؤَدي إلى حكم مدني في البلاد، وجرى الاتفاق على تعيين المسؤول السابق في الأمم المتحدة عبد الله حمدوك، وهو خبير اقتصادي مخضرم، رئيساً للوزراء.

العالم يرحب

بدا جلياً أنَّ الحكومة السودانية الجديدة المنبثقة عن الاتفاق التاريخي بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، تخطو بثبات نحو فك عزلة فرضها نظام البشير على البلاد، طوال عقود مضت.

ليس الأمر مجرد أحلام أو طموحات، لكن ثمَّة مؤشرات تقود حتماً إلى تلك النتيجة، أولها حالة ترحيب إقليمية ودولية غير مسبوقة، صاحبت خطوات الاتفاق التاريخي وتشكيل الحكومة، مع تعهدات بتقديم كل ألوان الدعم للسودان الديمقراطي.

ولعل من أبرز ملامح دعم القوى الكبرى لحكومة عبدالله حمدوك، تلقِّيه دعوة من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لزيارة باريس، واستقباله في الخرطوم وزير الخارجية الألماني هايكو ماس.

 

وحثَّ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في بيان، "جميع أصحاب المصلحة، على ضمان تنفيذ الاتفاق في الوقت المناسب وبشكل شامل وشفاف، وحل أي قضايا عالقة من خلال الحوار".

الولايات المتحدة الأمريكية أشادت عبر وزارة خارجيتها بالاتفاق، مُعرِبة عن تطلُّعها إلى إنشاء الهيئة التشريعية الجديدة، والعمل على المساءلة، والسعي نحو إجراء انتخابات حرة ونزيهة.

المتحدثة باسم وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي "فيديريكا موغيريني"، قالت: إنَّ "الاتفاق الذي توصَّل إليه المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير في السودان بشأن انتقال مدته ثلاث سنوات بقيادة مدنية، والذي أعلنه الاتحاد الإفريقي، يُشكِّل اختراقاً".

وهنَّأَ رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي "بشدَّة" المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير على الاتفاق، ونقل بيان للاتحاد عبر موقعه الإلكتروني، امتنان فكي للمجتمع الدولي والاتحاد الإفريقي لدعمه عملية الوساطة الإفريقية. 

ووصف وزير الخارجية البريطاني جيرمي هانت، اتفاق الخرطوم بـِ"اللحظة التاريخية"، وقال، في تغريدة بموقع "تويتر"، :إنَّ الاتفاق يُمهِّد الطريق إلى الحكم المدني، مُؤكِّداً استعداد بلاده لتقديم المساعدة للسودانيين في المرحلة المقبلة. 

دبلوماسية جديدة

حالة الترحيب الكبيرة من قِبل منظمات ودول كبرى، تترافق مع ما تبدو أنها رغبة قوية من قبل حكومة حمدوك لإنهاء عزلة السودان، من خلال تصريحاته ولقاءاته التي أكَّد خلالها أنَّ بلاده تتجه لإقامة علاقات خارجية متوازنة مع كل دول العالم تقوم على المصالح المشتركة.

وأعرب عن أمله في "مساعدة الأصدقاء والأشقاء للوصول مع الإدارة الأمريكية إلى تفاهمات تفضي إلى رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، باعتباره المفتاح الرئيس لحل المشكلات".

ونقلت تقارير إعلامية عن المبعوث الأمريكي الخاص لدولتي السودان وجنوب السودان، بريان هنت، قوله: إنَّ الإدارة الأمريكية ستختبر أداء الحكومة الانتقالية في السودان لـِ 6 أشهر من أجل الاطمئنان، تمهيداً لرفع البلاد من قائمة الإرهاب.

وزيرة الخارجية السودانية أسماء محمد عبدالله، كانت أكثر وضوحاً في التعبير عن خطة عملها، مؤكِّدة أنَّ رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب سيكون أولى مهام الوزارة، من أجل فتح الباب أمام نهضة اقتصادية ومشاريع جديدة.

وقالت: "سنحافظ على علاقات خارجية متوازنة وليس من مصلحة السودان الانحياز لمحور على حساب آخر"، مشيرة إلى أنَّ نظام البشير ارتكب أخطاء فادحة منها رهن حرية السودان وقراراته للآخرين، ما تسبَّب في عزلة البلاد الدولية.

استقلال القرار السياسي فيما يخص العلاقات الخارجية، بدا توجهاً للوزارة الجديدة، حيث شدَّدت الوزيرة على أنَّ السودان ينتظر الدعم المعنوي من الدول العربية، ويرحب بالدعم المالي غير المشروط دون التدخل في شؤون البلاد.

من يدفع أكثر

ورغم أنَّ تعهدات الحكومة السودانية الجديدة بشأن السياسة الخارجية للبلاد واستقلال قرارها، ليست حتى الآن سوى تصريحات تنتظر التطبيق الفعلي على أرض الواقع، إلا أنها تُعيد إلى الأذهان كيف كانت في عهد الرئيس المخلوع.

ووقفت محاكمة البشير، مؤخراً، شاهدة على استطاعة أموال السعودية والإمارات رهن القرار السوداني بيد من يدفع أكثر، وشراء مواقف البلاد سياسياً وعسكرياً، كما أماطت اللثام عن الكيفية التي أدار بها الرجل سياسة بلاده الخارجية، وأوضحت كيف ارتهن قرار الخرطوم لأطماع وإغراءات الآخرين المالية.

في محاكمته أقرَّ البشير بتلقي 25 مليون دولار نقداً من وليِّ العهد السعودي محمد بن سلمان، لاستخدامها خارج ميزانية الدولة، وقال: إنَّ الأموال السعودية صُرفت، ولكنه لم يذكر أوجه صرفها.

الرئيس المخلوع أخبر المحققين بحصوله على دفعتين بمبلغ 35 و30 مليون دولار من العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبدالعزيز، وأقرَّ البشير أيضاً باستلامه مليون دولار من الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات.

المحقق في قضية محاكمة البشير، أخبر المحكمة أنَّه تمَّ العثور على ما يقرُب من 7 ملايين يورو في منزل البشير، وعلى مبالغ أخرى بالدولار الأمريكي والجنيه السوداني.

ربما كان التفسير الأقرب للواقع حول المقابل الذي قدَّمه البشير أمام تلك الأموال، وأبرزها مشاركة قوات من الجيش السوداني في تحالف السعودية الذي يقود حرباً على اليمن مُنذ سنوات، فضلاً عن محاولة شراء موقف الخرطوم السياسي فيما يخص أزمة حصار قطر.

حكاية العقوبات

عقوبات أمريكية وأخرى أممية عانى منها السودان على مدار عقود، عمَّقت من الأزمة السياسية والاقتصادية في البلاد، على نحو زاد من عزلته.

ووفق مصادر إعلامية وهيئات اقتصادية سودانية، فقد قُدِّرت خسائر السودان المباشرة من جراء العقوبات الأمريكية بنحو 500 مليار دولار، إضافة إلى خسائر غير مباشرة تبلغ 4 مليارات دولار سنوياً.

وبحسب الأمم المتحدة، فإنَّ 50% من السودانيين (15 مليون نسمة) يعيشون تحت خط الفقر، في حين يبلغ معدل البطالة في البلاد 20.6%، وفق تصريحات سابقة، كما أنَّ التقديرات الأممية تُشير إلى أن 70% من السودانيين يجدون صعوبة في الحصول على الماء والغذاء والتعليم والخدمات الصحية.

بدأت حكاية العقوبات في 12 أغسطس/آب 1993، عندما أدرجت الولايات المتحدة السودان على لائحة الدول الراعية للإرهاب، عقب استضافة الأخيرة زعيم تنظيم "القاعدة"، أسامة بن لادن، الذي بقي فيها حتى عام 1996.

هذا البند من العقوبات، يعني حظر وصول المساعدات الأجنبية للحكومة السودانية، إضافة إلى منع بيع السلاح والمواد ذات الصلة به.

ورغم مغادرة ابن لادن الأراضي السودانية عام 1996، إلا أنَّ الولايات المتحدة واصلت عقوباتها، وفي العام ذاته، أعلنت عن قطع علاقتها الدبلوماسية مع السودان وأوقفت عمل سفارتها في الخرطوم.

وإن كان ما سبق من إجراءات يُصنف في الإطار السياسي وكان بإمكان اقتصاد السودان تحمُّله نسبياً بشكل أو بآخر، فقد ضيَّقت واشنطن الخناق تماماً على الخرطوم عام 1997، ببدء فرض عقوبات اقتصادية.

إذ قرَّر الرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلينتون، تجميد الأصول المالية للسودان، ومنع تصدير التكنولوجيا الأمريكية له، وحظر الاستثمار أو التعاون الاقتصادي مع البلاد.

وإن كان هذا القرار ظاهرياً يقتصر تنفيذه على الشركات والمواطنين الأمريكيين؛ إلا أنَّ معظم حلفاء الولايات المتحدة ومن يملكون مصالح معها وهم كثر، شملوا أنفسهم بالقرار لتدخل الخرطوم في حصار قطع حبل تواصلها بشكل شبه كامل مع المنظومة الاقتصادية العالمية، وشلَّ عمل مصارفها، وقلَّص الاستثمارات الأجنبية فيها بشكل مخيف.

لم يتوقف مسلسل العقوبات الأمريكية عند هذا الحد، بل تطور بشكل متسارع ليصل لمرحلة الهجوم المسلح، ففي أغسطس/آب 1998 شنَّت أمريكا هجوماً صاروخياً على مصنع الشفاء للأدوية في السودان.

وزعمت الولايات المتحدة، آنذاك، أنَّ المصنع يقوم بإنتاج المواد الكيميائية التي تدخل في صناعة أسلحة كيميائية.

وشهد العام 2006 تطوراً جديداً، حيث أصدر الكونغرس الأمريكي قانوناً يفرض بموجبه عقوبات ضد مسؤولين سودانيين بزعم مسؤوليتهم عن "الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية" بإقليم دارفور، غربي السودان، الذي يشهد نزاعاً بين الحكومة السودانية وحركات متمردة، منذ عام 2003، أسفر عن سقوط آلاف القتلى والجرحى.

ووفق القرار "1591" الصادر من مجلس الأمن الدولي في 2005، فُرضت عقوبات أممية على السودان بسبب أزمة دارفور، ويُجدد المجلس في مارس/آذار من كل عام مشروع قرار أمريكي لتمديد ولاية لجنة العقوبات الدولية المفروضة على السودان، بشأن إقليم دارفور.

وخلفت حرب دارفور 300 ألف قتيل، وشرّدت نحو 2.5 مليون شخص، وفقاً لإحصائيات الأمم المتحدة، لكنَّ الحكومة ترفُض هذه الأرقام، وتقول إنَّ عدد القتلى لا يتجاوز 10 آلاف في الإقليم، الذي يقطنه نحو 7 ملايين نسمة.

فُرضت عقوبات أممية على السودان بسبب أزمة دارفور

وتنتشر البعثة الأممية (يوناميد) في دارفور، منذ مطلع 2008، وهي ثاني أكبر بعثة حفظ سلام في العالم، ويتجاوز عدد أفرادها 20 ألفاً من الجنود العسكريين وجنود الشرطة والموظفين، من مختلف الجنسيات، بميزانية سنوية في حدود 104 مليار دولار.

بالعودة إلى العقوبات الأمريكية، ففي عام 2006 اشتدت العقوبات الاقتصادية على الخرطوم، بعد أن أصدر الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش، قراراً بالحجز على أموال 133 شركة وشخصية سودانية، الأمر الذي كبَّد تلك الشركات خسائر فادحة وزاد من تراجع اقتصاد البلاد.

وبعد نحو 18 عاماً من بدء فرض العقوبات الاقتصادية اتخذت الولايات المتحدة مساراً عكسياً بعلاقاتها مع السودان، لتسمح في العام 2015، للشركات الأمريكية بتصدير أجهزة اتصالات شخصية وبرمجيات تتيح الاتصال بالإنترنت.

كما أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، في يناير/كانون الثاني 2017، رفع العقوبات الاقتصادية جزئياً عن الخرطوم، ليُتوَّج ذلك بقرارها الجديد في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، برفع العقوبات كلياً ليتخلص اقتصاد السودان من قيد طالما قَيَّد تقدُّمه، لكنَّ الإدارة الأمريكية أبقت السودان على لائحة الدول الداعمة للإرهاب.