عن أهوال التعليم في مصر

أحمد ماهر | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

بدأ الاستعداد لموسم الدراسة في مصر، ووجدت نفسي ألهث بعد أنْ دخلت الماراثون بدون سابق إنذار، رغم أنَّه يتكرر كل عام، ولكن مرَّت ٣ سنوات كنت في السجن غائباً فيها عن أسرتي، لم أكن أعلم فيهم حجم المعاناة التي تعرضوا لها وحجم الأهوال التي تلاقيها الأسر المصرية عموماً في رحلة البحث عن تعليم مناسب.

وماراثون الاستعداد للدراسة في مصر هو سباق قاسي ليس به رحمة، فكل عام قبل بدء الدراسة تتصارع الأسر المصرية من أجل الفوز بأكبر قدر من المستلزمات بأقلِّ أسعار بعد الغلاء الفاحش الذى يزداد كل عام في مصر، الأقلام والكراسات والكتب الخارجية والأدوات المكتبية التي يتم استيرادها بالكامل من خارج مصر، يلي ذلك المعاناة مع إدارات المدارس والطلبات التعجيزية التي يطلبونها، ثم يبدأ العراك حول شراء الزِّي المدرسي الذي يتم تغييره كل عام بدون أسباب واقعيه.

هذا العام ومثل كل عام قامت المدرسة التي فيها أطفالي بزيادة قيمة المصروفات بشكل مبالغ فيه، بالرغم من أنَّها مدرسة تُعاني قصوراً كبيراً في جانب الاهتمام بالرياضة والموسيقى والمواهب، ولذلك حاولت البحث عن مدرسة أخرى في نفس المنطقة تكون مصروفاتها أقل وفي نفس الوقت تهتم بالعملية التعليمية بجانب الرياضة والمواهب. ولكن يبدوا أني كنت أطلب المستحيل، فالمصروفات تتضاعف كل عام بدون رابط في كل المدارس الخاصة في مصر، رغم القصور في الجانب التعليمي أو المواهب أو الانضباط.

أما المدارس الدولية الأمريكية أو البريطانية التي قد يكون فيها بعض التكامل في العملية التعليمية فهي بالتأكيد أشبه بالحلم المستحيل بالنسبة للغالبية العظمي من الشعب المصري وبالنسبة لي أيضاً بالتأكيد، بمصروفاتها التي تتعدى ١٥٠ أو ٢٥٠  ألفاً من الجنيهات المصرية (ما يقارب 9000 إلى 15 ألف دولار) للتلميذ الواحد كل عام.

الحل إذاً قد يكون في المدارس الرسمية اللغات المتميزة، التي يطلق عليها في مصر المدارس التجريبية، وهي مدارس حكومية ذات مستوى تعليمي أفضل بقليل من المدارس الحكومية العامة -التي ستأتي سيرتها لاحقاً- وأيضاً تتميز بمصروفات معتدلة ولكنها تشترط شروط شبه تعجيزية أو تبرعات إجبارية أو إعادة السنة الدراسية أو اشتراطات أخرى بهدف تقليل أعداد المتقدمين، أو توقيع مسؤول هام في وزارة التعليم، وهي أمور تعتبر جميعها بعيدة المنال.

قابلت بعض أقاربي في زيارات عيد الأضحى المبارك، وكان الحديث الأهم هو المعاناة والتعذيب الذي يلاقونه بسبب رحلة البحث عن فرصة لتعليم الأولاد، فقد كانوا مشغولين بإجراءات الحجز المبكر في مراكز الدروس الخصوصية قبل بدء العام الدراسي، فتلك المراكز -يطلق عليها مصطلح سناتر في مصر- أصبحت هي أساس العملية التعليمية.

وأصبح أعداد الطلبة فيها يقارب أعداد الطلبة في الفصول الدراسية والمدارس الرسمية، بل وأصبح بعض المدرسين يشترطون إجراء اختبارات للطالب أولاً قبل قبوله في ذلك السنتر، فقد أصبح التعليم الفعلي في السنتر الخاص مع المدرس الخصوصي، أما المدارس الحكومية العامة فهي فقط وسيلة لتسجيل القيد وأداء الامتحانات التي هي مجرد محطة لتحصيل الدرجات التي يتقرر عليها المصير بعد ذلك.

وسعيد الحظ هو من لديه وساطة يستطيع بها الحصول علي إجازة لابنه حتي يتسنى له التفرغ للدروس الخصوصية والمذاكرة في المنزل وعدم إضاعة الوقت في المدرسة.

المدارس الحكومية العامة في مصر هي كارثة كبرى بكل المقاييس، فيها تكدُّس في الفصول الدراسية التي قد يصل بها عدد الطلبة للمائة، ولا يوجد أي شيء يمت للتربية أو التعليم بأي صفة؛ مظهر صارخ من مظاهر الفساد والإفساد، لا أنشطة ولا عملية تعليمية، والمدرس كان يتقاضى قروش قليلة لا تكفي للحد الأدني من الحياة، فكان يضطر في الماضي لإعطاء دروس خصوصية، ثم أصبحت الدروس الخصوصية هي الأساس.

أصبحت المدارس بالنسبة للمعلم مجرد وظيفة حكومية يحصل من خلالها على راتب ثابت سواء قام بالتدريس أم لم يقم، ووسيلة يحصل بها على معاش نهاية الخدمة، ثم وسيلة رئيسية للتعرف على الطلاب الذين سيلتقي بهم بعد ذلك في مراكز (سناتر) الدروس الخصوصية.

ولذلك لا تتعجب إنْ قابلت طالباً أوخريج مدرسة ثانوية لا يُجيد القراءة والكتابة، أو خريجاً لمدرسة فنية صناعية ولا يدرك أي شيء عن المهنة التي تعلمها، فالطبيعي للأسف أصبح أنْ يقوم المدرس بالإجابة نيابة عن التلاميذ الذين يعطيهم دروساً خصوصية، أو يقوم بتسريب الامتحان لهم قبلها بأيام، بل هناك بعض المدارس الابتدائية في المناطق العشوائية أو الريفية، يعتمد فيها النجاح كاملاً على ما يدفعه الأهالي الفقراء للمدرس أو لمدير المدرسة حتي يقوم بإنجاح الأبناء في الامتحانات.

هذا بجانب ظاهرة الغش في امتحانات الثانوية العامة التي أصبحت ظاهرة يتحدَّث عنها العالم كله، ووسائل الغش تتطور كل يوم مهما اتخذت الوزارة من تدابير، فامتحانات الثانوية العامة للأسف هي هدف وليست وسيلة بسبب نظام مكتب التنسيق الذي جعل الالتحاق بالكليات طبقاً لمجموع الدرجات وليس الميول أو المواهب، وهو ما أنتج خريجين لا يفقهون شيئاً مما يفترض أنَّهم تعلّموه  في الجامعة.

كما أنَّ نظام التنسيق هو نظام عقيم وضعه عبدالناصر بحجة العدالة والمساواة ومجانية التعليم الجامعي، ولكنه أدَّي لما نعانيه الآن من وجود خريجين من الجامعة لا يفقهون شيئاً ويضطرون للعمل في أيِّ مهنة أخري أو حرفة ليس لها علاقة بمجال الدراسة.

كل فترة تثار في مصر عدة تصريحات والكثير من الجدل حول حال التعليم، يتغير وزير التعليم الذي ربما يكون لديه خطة ما للإصلاح والتطوير أو في أغلب الأحيان لا يكون لديه خطة، ولا يرغب إلا في الحفاظ على كل الأمور كما هي ليخرج بأقل الخسائر، فإذا كان وزير لديه رؤية -وهذا أمر نادر الحدوث- سوف يفشل في تطبيقها بسبب ترهُل المنظومة الإدارية في مصر بصفة عامة، أو يفشل في تطبيقها بسبب مقاومة البيروقراطية وإمبراطورية الموظفين لكل ما هو جديد.

بالإضافة لافتقار النسبة الأكبر من المدرسين لأي مناهج حديثة في التربية والتعليم، ونسبة كبيرة تفتقر للعلم في الأساس، يعتبرون أنَّ المهمة الأكبر هي التلقين للتلاميذ وتنفيذ تعليمات المديرين.

المعلم في مصر هو موظف حكومي لا يهتم بكفاءة الخدمة والعملية التعليمية بقدر ما يهتم بالحضور والانصراف والحصول على الراتب والعلاوات في موعدها، أما الكفء –وهو أمر نادر الحدوث أيضاً- منَّا فيكون كل هدفه هو جمع أكبر قدر من المال عن طريق الدروس الخصوصية، لذلك لا يقوم بأي تدريس داخل المدرسة تحت ذريعة أنَّ الراتب قليل، ولكن هل ينجح وزير التعليم الجديد الذي يتحدث كل فترة عن ثورة في التعليم وعن إصلاح شامل؟ لا أظن.

فماذا تفعل أفكار إصلاحية أو ثورية أو جريئة وسط منظومة تعليمية عتيقة فاشلة ترفض وتحارب أي محاولة للتجديد؟ وماذا تفعل النوايا الطيبة في منظومة تعليمية فاسدة ترسخ فيها الفساد مُنذ عقود طويلة، ترفض وتحارب أي محاولة للإصلاح؟ فإنْ صحت نوايا الوزير وكان لديه أفكار جديدة لإصلاح التعليم فلن تجدي مع ترسانة القوانين العقيمة المستمرة مُنذ أكثر من نصف قرن، أو وسط مافيا الدروس الخصوصية، أو مع العادات المتراكمة والتقاليد والأعراف والأساليب التعليمية التي أصبحت راسخة.

وماذا يفعل وزير قد تكون لديه أفكار بدون منظومة وبدون إطار أشمل؟ وماذا يفعل وزير قد تكون لديه بعض النوايا الطيبة وسط منظومة حكم تعتمد على الفساد والإفساد كوسيلة رئيسية للحكم؟ وماذا يفعل وسط بلد تدار بالمحسوبية وبقاعدة أنَّ أهل الثقة هم الأولي والأفضل من أهل الخبرة؟

لن ينصلح حال البلد ولن تتقدم ولن تكون هناك تنمية حقيقية إلا بإصلاح التعليم، ولكن في ظل استمرار هذه المنظومة وهذه العقلية وهذه القوانين فستكون كل جهود إصلاحية وأيَّة محاولات للإنقاذ هي أشبه بترقيع الثوب المتهلهل، ونوع من أنواع الحرث في البحر.