اللغات الأجنبية واللسان العربي.. باب للعلوم أم مفتاح للشهرة؟

منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

لا تتقن راوية بوغنجة، وهي طالبة تونسية تعد رسالة الماجستير في التأمين، غير اللغة الفرنسية والإنجليزية، بينما لا تتمكن من القراءة أو الكتابة باللغة العربية.

تقول الشابة ذات الـ24 سنة لصحيفة "الاستقلال": "إن أغلب المواد التي درستها حتى المرحلة الثانوية كانت أغلبها بالفرنسية". وحتى في محادثاتها اليومية مع أصدقائها، تقول راوية: "لا أجد الكلمات المناسبة والمعبرة في اللهجة التونسية؛ فأضطر إلى استخدام الفرنسية".

في 2018، أطلق ناشطون تونسيون حملةً بعنوان "لا للفرنسية، نعم للإنجليزية"، للمطالبة بالتخلي عن جعل الفرنسية اللغة الثانية في البلد، وتعويضها باللغة الإنجليزية.

ورأى مطلقو الدعوة أن الثانية هي اللغة الأقرب إلى المجال العلمي والتطور التكنولوجي، وأنها لغة العصر التي سيحتاجونها لمواصلة مسارهم الدراسي.

الحملة انتقلت إلى الجارتين الجزائر والمغرب، ولم تكن هذه المرة الأولى التي تجرى فيها المطالبة بالتراجع عن اللغة الفرنسية.

لكن هل التحصيل العلمي سبب كافٍ يجعل اللغات الأجنبية تأخذ كل هذا الحيز؛ حتى في حياتنا اليومية؟

هل هناك قصور في اللهجات العربية؟

تُدرّس جامعات في الدول العربية جميع المواد باللغات الأجنبية؛ ففي لبنان لغة التدريس في الجامعة الأمريكية هي الإنجليزية، وفي الجامعة اليسوعية بالفرنسية. وفي جامعتي الخرطوم في السودان، وجامعة النفط والمواد الخام في المملكة العربية السعودية يجرى التدريس بالإنجليزية.

أصبح تأثير اللغات الأجنبية في العالم العربي لا يقتصر على مجال التعليم، وإنما ينتشر في جميع المظاهر الحياتية. فضلا عن الخلط بين اللغة العربية من جهة، والفرنسية أو الإنجليزية من جهة أخرى، وهي ظاهرة تميّز الطبقات الوسطى والعليا خاصة في العالم العربي.

وفي بحث له بشأن الموضوع، يرى الدكتور محمد أمارة، المحاضر والباحث في معهد "بيت برل" الأكاديمي العربي للتربية، أنّ أنصار التدريس باللغة الإنجليزية في الجامعات، يدّعون أن ألفاظ العربية قاصرة عن احتواء المصطلحات التكنولوجية المستجدّة، وأن نقل المصطلح إلى العربية لا يفي بالمعنى المراد.

فالتعلم باللغة الأجنبية، حسب أمارة، يفتح الآفاق أمام الباحثين والدارسين للتعرف على الثقافة الغربية المتنورة، والتي تشكّل المصدر العلمي الهام للتقدم التكنولوجي.

ويوضح المُحاضر أنّ أحد أهم الأسباب، كون غالبية المحاضرين تلقوا تعليمهم في الدول الأجنبية، ولا يتقنون العربية كلغة مهنية للمادة التي يدرّسونها؛ أما الكتب المترجمة أو المادة التي تدرَّس بالعربية في العلوم الإنسانية فهي تظهر تباينا في المصطلح للمفهوم الواحد، وإذا ما جرت ترجمته أو تعريبه اختلفت الترجمة من العربية إلى لغة أخرى، وهذا بحد ذاته يشكل خطرًا على وحدة الفكر بين المثقفين، كما يرى الباحث.

نسمة حامد، هي طالبة طب مصرية، ترجع السبب في استخدام اللغة الانجليزية إلى التعليم، وتقول نسمة لصحيفة "الاستقلال"، إنّ كل المواد التي تدرسها باللغة الأجنبية، ما جعلها طاغية على باقي جوانب حياتها.

وبحكم أن أغلب أصدقاء الشابة هم زملاؤها في الجامعة، فإنها تعوّدت التحدث إليهم بنفس اللغة، وتقول إنها تجد صعوبة كبيرة في التواصل مع غير المتقنين للغة الإنجليزية؛ لأنها تضطر لاستخدام لهجة مصرية عربية.

أما الباحث اللغوي المغربي، عبدالمجيد جحفة، فيقول إنّ كل اللغات معرَّضة للتأثر بلغات أخرى، خاصة عندما تكون اللغةُ في وضعية العوز التعبيري. ويجرى هذا عن طريق الاقتراض.

ويتابع جحفة، في حديث لـ"الاستقلال"، هذا الإنجاز لا يمثل، مثلاً، العربية المغربية النموذجية، بل يمثل ما شذ منها، إنه يمثل إنجازَ مَن يشكو من ثغرات تعبيرية في العربية المغربية، وينتقل إلى اللغة الأجنبية لـمَلْءِ هذه الثغرات. إنها "دارجة" الخليط.

يعتمد هذا النموذج، بحسب جحفة، المبدأ العام التالي: إذا كانت لديك ثغرة في التعبير، فما عليك إلا ملؤها بالأجنبية، فكل هذا دارجة. إنها دارجات العَجْزِ، والعُجَّزِ الذين يجدون صعوبة في التعبير بالعربية، فيملأونها بما يعرفون. في مقابل ذلك، هناك الانفتاح الطبيعي في إطار المتَّصِل العربي، الانفتاح الذي ساهم في قيام الدوارج عبر العصور، وهو الانفتاح الذي ينبغي توسيعه، وخلق سبل توطيده لتطوير اللغة بشكل تلقائي.

ما أهمية اللغة؟

رغم سياسة الرئيس الراحل هواري بومدين، لتعريب المدرسة والإدارة بعد الاستقلال، إلا أنّ هذه السياسة لم تُؤتِ أُكلها بسبب قوة التيار الفرنكوفوني، الذي عارض بكل السبل الخفية والمعلنة إنجاح التعريب.

أصدرت الحكومة الفرنسية سنة 1936 قرارًا باعتبار اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر، وجعل اللغة الوحيدة للبلاد هي اللغة الفرنسية. وفي 1997 أصدرت الحكومة الجزائرية قوانين تمنع الموظفين من التحدث علانية بأي لغة غير العربية، ودعا القانون إلى فرض غرامة على الموظفين الذين يصدرون وثائق حكومية بغير اللغة العربية. كما أمرت الحكومة بإصدار جميع الكتب وإلقاء المحاضرات بالعربية، وأمرت أن يكون البث التلفزيوني باللغة العربية.

ولو لم تكن اللغة على هذا القدر من الأهمية لما جاهد "المستعمر" لفرض سيطرته اللغوية على الشعوب المستعمرة التابعة له؛ لأن طمس اللغة يعني طمس الهوية، ومن تنازل عن لغته يمكن أن يتنازل عن كل شيء، فيسهل استلابه، بحسب الباحث الجزائري في الأدب، عبدالمجيد عبدالرحيم الحاج أحمد.

ويرى الحاج أحمد، أنه من الوهم المنتشر ربط الرقي والتقدم باللغات الأجنبية، فتلك اللغات غالبة مفروضة بالسلطة والقوة، جاثمة على الدول التي استُعمرت. ويجد الباحث أن معظم الدول تقدّر لغتها مهما كانت، سوى العرب الذين استبدلوها.

وقد أدركت كثير من الدول التي تحترم لغتها أنه لا "سبيل إلى مواجهة خطر العولمة اللغوية إلا بعمل تكتلات ضخمة؛ فأنشأت أمريكا مع كندا والمكسيك رابطة (النافتا) وكوّنت الدول الناطقة بالفرنسية الرابطة "الفرنكفونية"، وكوّنت الدول الناطقة بالإنجليزية منظمة "الكمنولث"، وكوّنت دول جنوب شرق آسيا رابطة "الأسيان"، حفاظا على اللغة وحماية لها من خطر الداخل والخارج.

وذهب الباحث الجزائري إلى حد اعتبار أن الحروب اللغوية ليست أقل ضراوة من الحروب العسكرية الظاهرة، وإذا اشتد الصراع اللغوي، امتد إلى المجالات الأخرى؛ وتنافس القوى الدولية الكبرى على كسب التحكم والنفوذ والصراع على الإمساك بزمام الأمور، وأقوى الأدلة في هذا المقام الحرب الصامتة الضروس الدائرة اليوم بين الإنجليزية والفرنسية ففي (24 – 28 مايو 1989) ذكر بأن فرنسا سوف تلغي الدين العام للبلدان الإفريقية؛ وفي المقابل يٌنتظر من هذه البلدان أن تستمر في ضمان الدور المتفوق للغة الفرنسية في الحكومة والتعليم .

أعلى درجة

طغيان المصطلحات الأجنبية على اللهجة اليومية تظهر لدى الشباب بشكل أوسع، ما يجعل سؤال: "هل هي ضرورة أم صيحة؟" يتبادر إلى الذهن. راجح زنقير، هو مذيع تونسي شاب، يقول في حديثه لصحيفة الاستقلال، إنها موضة وضرورة.

يجد راجح، أن اللهجة التونسية ضعيفة وغير كافية لإيصال المعلومة بوضوح. تأثير البيئة يلعب دورا، حسب الشاب، "وجدنا آباءنا يستخدمون اللغة الفرنسية في أحاديثهم اليومية فمن الطبيعي أن نستخدمها بدورنا". وعودة إلى موضوع التدريس، يقول راجح إن أغلب المواد في تونس تدرّس بالفرنسية فيجد التونسي نفسه مجبرا على الحديث بها. ولا ينكر الشاب أن الفرنسية مفروضة بين طبقة معينة، حتى يُظهر المتحدث مستوى تعليميا متقدما.

الأمر نفسه، يوضحه البروفيسور ياسر سليمان، الأخصائي في مجال اللسانيات، وأستاذ الدراسات العربية الحديثة في جامعة كامبردج، مخاطرَ ما أسماه "التبرّج اللغوي" في المجتمعات العربية، حيث يتمّ استعمال اللغة الأجنبية على حساب حضور العربية. ليست المسألة استيعاب مظاهر من اللغة الأخرى لسدّ نواقص في مجالات معينة، وإنما شعور المتكلم بمكانة عالية حين يستعمل مظاهر اللغة الأخرى في لغته الأم.

من المعروف أنه ليس جميع أفراد الشعب يتقنون الإنجليزية بدرجة عالية. فالخطر، حسب ياسر سليمان، هو تعزيز "نخبوية المعرفة"، وتعزيز طبقات معيّنة في المجتمع. ويواصل أستاذ الدراسات العربية الحديثة شرحه قائلا: "هذه النخبة تسيطر بذلك على الوظائف الهامة والمناصب الرسمية في الدولة. وتصبح الإنجليزية لغة المعرفة والمجتمع، ولغة إقصائية للطبقات الدنيا".

تستبعد هاجر واكت، وهي ثلاثينية حاصلة على الماجستير في التواصل وتشتغل في مجال التسيير بالمغرب، أن يكون الأمر مجرد موضة. وتعتبر الشابة أن نظام التدريس في المغرب يفرض أن تكون للفرنسية الأولوية في الحياة اليومية. فأغلب المواد في الجامعة تكون بلغة موليير، وكذا سوق الشغل يفرض إتقانا للغة. وتقول هاجر إن أغلب الشركات في المغرب هي إما مرتبطة بأخرى في فرنسا أو بدول ناطقة بالإنجليزية، وبالتالي لا يمكن لغير المتقنين لإحدى اللغتين ولوج هذا السوق.

الشابة المغربية التي أنجزت رسالة بحثها عن "تأثير اللغة الفرنسية في وسائل الإعلام" ترى أن بلدها لازال يعاني من "التبعية لفرنسا"، خصوصا في المجال الاقتصادي. ولم تتجاهل المتحدثة لصحيفة "الاستقلال"، التأثير الذي لعبه الاستعمار على اللهجة المغربية، إذ أن عددا كبيرا من الكلمات المغربية التي يستخدمها المغاربة في حياتهم اليومية هي إما فرنسية أو إسبانية تمت مغربتها (أي تنطق بطريقة محرّفة عن لغتها الأصلية).

من جهتهما، تحدث الباحثان جواد العناني، وعيسى برهومة عن استخدامات الإنجليزية في الأردن، ويقولان في ورقة بحثية لهما، إن هناك تشجيعا مؤسساتيا لاستخدام الإنجليزية في المجالات العامة والخاصة، وهي تزاحم العربية في مجالات معينة. واشتراط الإنجليزية للتوظيف والتشغيل، على سبيل المثال، هو تحفيز للوصول إلى كفاءة عالية في امتلاك الإنجليزية من ناحية؛ ولكن من الناحية الأخرى، التمييز اللغوي لصالح شرائح معينة في المجتمع.

ويرى العناني وبرهومة أن أخطر استعمالات الإنجليزية هو انتشارها الواسع في التعليم العالي، وهذا بدوره يؤثر سلبًا على بناء مجتمع المعرفة العربي والتنمية البشرية. متسائلَينِ كيف ينشر هؤلاء الذين تلقوا العلوم باللغة الإنجليزية المعرفة باللغة العربية؟ كيف يرتبطون مع فئات المجتمع الأخرى التي لا تجيد الإنجليزية؟