هل يمكن تحقيق تنمية تحت الاستبداد؟

أحمد ماهر | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

عندما ذهب الرجل المريض إلى الطبيب بعد تراكم الأمراض والأوجاع، قال له الطبيب أنت تعاني من ارتفاع ضغط الدم ومن مرض السكري الذي دمر الكثير من جسدك طوال هذه السنوات، إهمالك طوال هذه السنوات بالإضافة لكل تلك التراكمات هي السبب في تدمير الشبكية وضعف البصر وانسداد الشرايين... إلخ. "ستتحسن" إن توقفت عن التدخين ومارست الرياضة وألزمت نفسك بنظام غذائي صحي قاسٍ، بالإضافة لعمليات توسيع الشرايين وبتر القدم التالفة واستبدال الكبد الذي تهتك. ويجب عليك أن تتوقف عن التعامل بعصبية وعنف مع الآخرين ومع أهلك، فهذا سيضرك أنت قبل أن يضر الآخرين، عليك أن تتوقف عن الظلم والصراعات وأن تبحث عن السلام الداخلي حتى ينجح العلاج، عليك أن تبدأ الإصلاح من الآن وإن تأخرت معاناة حياتك.

عندما خرج الرجل المريض من عند الطبيب، ركبه العناد قائلا: الطبيب قال لي "ستتحسن"، ولم يكمل باقي الإرشادات الصارمة التي كانت شروط الطبيب اللازمة لهذا التحسن، أكمل المريض طريقة حياته الخاطئة حتى لقي حتفه غير مأسوف عليه.

هذه القصة تذكرني بالاحتفاء المبالغ فيه من قبل الإعلام المصري ببعض التقارير الأخيرة للبنك الدولي التي ترصد تحسنا في بعض المؤشرات الاقتصادية وتدهورا في مؤشرات أخرى، ولكن بالطبع يتم اقتطاع الأجزاء الإيجابية فقط وإخفاء الأخرى، فبالتأكيد يرغب النظام المصري في تحقيق أي إنجاز أو إصلاح اقتصادي لاكتساب شرعية، وهذا ما يفسر ذلك، تلك العجلة والاعتماد على الجيش في المشروعات والإنشاءات بهدف جذب المستثمرين وإقامة المزيد من المشروعات الخدمية والسياحية الفخمة.

التقارير الدولية الأخيرة الصادرة عن البنك الدولي مثل تقرير التنافسية الاستثمارية أو تقرير ممارسة أنشطة الأعمال وتقرير قياس مناخ الاستثمار الذي تراجع ترتيب مصر فيه إلى المركز ١٢٨ ضمن ١٩٠ دولة، وهي التقارير التي يتم إصدارها بعد الاعتماد على الكثير من أعمال الرصد والتحليل للمؤشرات، وهي كذلك تقارير تعتمد عليها دوائر الاستثمار العالمي قبل الإقدام على أي خطوة في أي دولة، وهذه التقارير رصدت تراجع ترتيب مصر في تلك التقارير الدولية في مؤشرات تأسيس الشركات وإصدار التراخيص وتعقيدات إجراءات التقاضي ومعدلات سداد الضرائب.

ترصد التقارير الدولية بعض التحسن مثل مؤشرات الحصول علي الطاقة أو بعض الآثار المترتبة على تحرير سعر الصرف وخفض الدعم الحكومي على الطاقة والخدمات، مثل تقليل الاستيراد وخفض عجز الميزان التجاري أو الزيادة الطفيفة في معدلات النمو والتراجع الطفيف لعجز الموازنة، ولكن بشكل عام كانت هناك تداعيات سلبية قرار تعويم الجنيه مثل التضخم وزيادة الأسعار بشكل مهول، وزيادة الديون لتتخطي ٨٠ مليار دولار بجانب الدين المحلي الذي تجاوز ٣ تريليون جنيه مصري، وهي الديون التي ستعاني منها الأجيال القادمة لسنوات طويلة.

هل يمكن تحقيق تنمية حقيقية مع الاستبداد؟

تتعدد تعريفات مصطلح العدالة الاجتماعية، ولا يزال مصطلحا فضفاضا كغيره من الكثير من مصطلحات العلوم الاجتماعية والسياسية، وكذلك مثله مصطلح التنمية، ولكن بشكل عام يمكن القول بأن جوهر العدالة الاجتماعية يتحقق عندما تسود المجتمع فرص متكافئة للحراك والارتقاء الاجتماعي، دون تمييز على أساس اللون أو الأصل أو الطبقة أو المنصب.

وكان مفهوم التنمية في الخمسينيات والستينيات يقتصر فقط على مفهوم النمو الاقتصادي وزيادة الدخل، ثم أصبح يعبر عن النمو في التحديث والصناعة، ولكن مع الوقت تم إضافة مفاهيم أخرى لتكون معبرة عن التنمية، فأصبح يمكن اعتبار البعد الاجتماعي والعدالة الاجتماعية كمؤشرات للتنمية، كما تمت إضافة البعد الثقافي والبعد البيئي وحماية الموارد الطبيعية.

ويمكن القول أيضا، إن المفاهيم (النيوليبرالية) هي التي تركز على النمو الاقتصادي وزيادة الدخل كمقياس للتنمية، ولكن جوهر التنمية يضع في اعتباره التصنيع والإنتاج وتقليل الآثار السلبية للنمو الرأسمالي عن طريق تنمية الإنسان وتوفير احتياجاته وإعادة توزيع الدخل القومي لصالح الطبقات الأفقر، وهو ما إطلق عليه لقب التنمية الإنسانية المستدامة.

أعود للموضوع الأصلي بعدة أسئلة، هل يمكن تحقيق تنمية عن طريق قروض صندوق النقد الدولي؟ وهل يمكن أن تتحقق التنمية مع الاستبداد؟

للأسف، يمكن ملاحظة الآثار السلبية والمأساوية التي اقترنت بسياسات التقشف التي يشترطها صندوق النقد الدولي، وقد أدت هذه الإجراءات لكوارث في عدة دول قبل ذلك مثل اليونان علي سبيل المثال، وهي أيضا الآثار التي تزداد كل يوم في مصر مثل خفض الأجور وخفض الإنفاق الحكومي وزيادة أسعار السلع والخدمات وتقليل دور الدولة وتدخلها في السوق.

ربما يحدث مع تلك السياسات بعض النمو الاقتصادي بشكل عام، ولكن تتركز الثروات في يد ١٪‏ فقط من السكان بينما يعاني الـ٩٩٪‏ من الفقر وسوء أحوال المعيشة، فشروط البنك الدولي هي سياسات لإنقاذ البنوك ورجال الأعمال وليس لإنقاذ غالبية الشعب ورفع مستوي المعيشة، وهي الخطة التي تفترض أن القروض والاستثمارات الأجنبية هي التي ستنشئ المشروعات وفرص العمل والوظائف التي ستؤدي مستقبلا لزيادة الدخل ورفع مستوى المعيشة. 

أما عن العلاقة بين الديمقراطية والتنمية والعكس، هل يمكن القول بأن الديمقراطية وحقوق الانسان هي شرط أساسي لتحقيق التنمية؟ أم أن الديمقراطية لا تتحقق إلا بعد مستوى من التنمية؟

صراحة هذا موضوع معقد ولن تكفي المساحة اليوم للخوض فيه وكذلك لا يمكن قياسه بعلاقة خطية، خصوصا أن هناك تجارب عديدة حققت "نموا" اقتصاديا رغم الاستبداد أو الحكم العسكري، مثل كوريا وسنغافورة ودول جنوب شرق آسيا التي كانت تحكمها أنظمة عسكرية أو سلطوية في العقود الماضية، وتحول بعضها إلى أنظمة أكثر ديمقراطية في حقبة الثمانينيّات وما بعدها، ولكن لا يمكن إنكارها وهناك نماذج لتحقيق "نمو اقتصادي ورأسمالي" تحت أنظمة ديكتاتورية.

ويمكن ذكر نموذج دول الخليج في هذا الأمر، وهي نماذج تتحقق فيها الرفاهية لطبقة أو ائتلاف أو مجموعة عائلات، ولكن تغيب عنها مفاهيم العدالة الاجتماعية ويغيب عنها المفهوم الأوسع للتنمية الإنسانية المستدامة، وهو ما تحققه الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تضمن المشاركة في اتخاذ القرار والعدالة في التوزيع وتكافؤ الفرص حتى تتحقق الرفاهية المنشودة بنسبة ما أو بنِسَب متفاوتة، فإن تحقق نمو اقتصادي تحت حكم أنظمة ديكتاتورية، فلن تتحقق تنمية إنسانية حقيقية إلا بالديمقراطية واحترام حقوق الانسان.

وعودة إلى موضوع المريض الذي يتجاهل الشروط والبرامج التي يجب أن يلتزم بها حتى يستطيع العيش لفترة أطول، فهذا المثال يمكن تطبيقه على النظام الحاكم في مصر، فالتقارير الدولية تشير إلى التحسن في بعض المؤشرات والهبوط في مؤشرات أخرى، ولكن الإعلام الرسمي يحتفى بمؤشرات التحسن ويتجاهل مؤشرات الفشل، بالإضافة لتجاهل أسباب ضرورية لتحقيق نمو اقتصادي مثل تحسين التعليم ومكافحة الفساد وتطبيق أساليب الحوكمة والإدارة الرشيدة، ولذلك فربما يتحقق بعض النمو الاقتصادي والرأسمالي رغم كل هذا الكم من القمع والظلم والفساد والاستبداد كما حدث في بعض الدول الآسيوية، وربما لا.

ولكن وإن نجح في تحقيق بعض النمو فلن يكون ذاك بمثابة تنمية حقيقية، خصوصا في ظل غياب أي خطة للتصنيع والإنتاج والتنمية، وفي ظل تدهور التعليم والبحث العلمي وفي ظل تدهور أوضاع الصحة والبيئة.

وفي ظل الفساد الذي أصبح جزءا راسخا من ثقافة المجتمع، أو في ظل تلك الطبقية والظلم الاجتماعي وغياب العدالة، ولن تحدث تنمية إنسانية في ظل قمع الحريات وسياسة تغييب الوعي المتعمدة، أو في ظل تلك الديون المتراكمة التي ستشكل عبئا ضخما على الأجيال القادمة، فحتى إن تحقق هذا النمو الرأسمالي المنشود فسيكون أبعد ما يكون عن أي شكل من أشكال العدالة الاجتماعية أو تمكين المجتمع أو تنمية قدراته.