"خان شيخون".. هل تنسف التفاهمات الروسية التركية في سوريا؟

مهدي محمد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

قصف روسي سوري مشترك طال، على غير المعتاد، رتلا عسكريا تركيا كان متوجها إلى مدينة خان شيخون الإستراتيجية بريف إدلب الجنوبي، وسط أنباء عن دخول قوات النظام السوري إلى المدينة التي تقع ضمن مناطق خفض التصعيد وفق التفاهمات السابقة بين موسكو وأنقرة.

التصعيد الروسي ضد الحليف التركي المفترض يأتي بعد أيام من إعلان الاتفاق بين أنقرة وواشنطن على إقامة مركز عمليات مشترك لإدارة المنطقة الآمنة شمال شرقي سوريا، على نحو يبدو أنه أغضب روسيا فاندفعت إلى دعم سيطرة النظام على خان شيخون.

فإلى أي مدى يمكن أن ينفرط عقد التوافق التركي الروسي حول سوريا، وكيف يمكن لأنقرة أن توازن بين علاقات إستراتيجية بكل من موسكو وواشنطن في الملف السوري على حدة، من دون أن تفقد أحدهما؟

تطورات دامية

أحدث فصول المناوشات، كانت تعزيزات عسكرية تركية وصلت إلى ريف إدلب الجنوبي بعد تعرض محيط قواتها لغارات روسية وسورية، واستنكرت أنقرة القصف الذي أسفر عن سقوط ضحايا مدنيين.

وقالت تقارير إعلامية، إن الرتل التركي المؤلف من نحو 40 آلية عسكرية وعشرات الجنود، توقف على الطريق الدولي دمشق-حلب، بعد تعرض الطريق لغارات روسية وسورية بالقرب من معرة النعمان.

وبينما قالت وزارة الدفاع التركية، إن القافلة المستهدفة كانت متوجهة إلى نقطة المراقبة التاسعة، نقلت وكالة "سانا" الرسمية للنظام السوري عن مصدر بوزارة الخارجية أن الآليات التركية دخلت لنجدة "الإرهابيين" في خان شيخون.

المثير أن البيان التركي، أكد أن القصف حدث بالرغم من إبلاغ الجانب الروسي بوجهة الرتل، مضيفا: "ندين بشدة الهجوم على الرغم من الاتفاقيات المبرمة والتعاون والتنسيق القائم مع روسيا الاتحادية، وندعو لاتخاذ التدابير كافة لضمان عدم تكرار الهجوم، مع احتفاظنا بحق الرد".

وقال مصدر عسكري تركي من الرتل المتحرك، إن القوات التركية ستتمركز بالقرب من خان شيخون، بهدف إنشاء نقطتي مراقبة لضمان استمرار إمداد النقطتين التاسعة والعاشرة من مناطق خفض التصعيد بكل من مورك وشير مغار بريف حماة، ضمن مساعي وقف تقدم قوات النظام السوري التي تسعى لقضم مناطق جديدة في ريفي حماة وإدلب.

وتحاول قوات النظام السوري مدعومة بقوات روسية خاصة ومليشيات إيرانية ومليشيا حزب الله اللبناني، اقتحام مدينة خان شيخون من الجهة الغربية مع استمرار عمليات القصف والتحرك من الجهة الشرقية.

واستطاعت قوات المعارضة السورية صد الهجوم ومحاولات الاقتحام عبر تفجير عربتين مفخختين وتدعيم الجبهة الغربية وإيقاف زحف القوات المهاجمة، رغم كثافة القصف الجوي الذي تنفذه بشكل مستمر أكثر من 10 طائرات حربية ومروحية.

في المقابل، ذكرت وكالة الأنباء الألمانية، أن القوات الحكومية السورية اقتحمت مدينة خان شيخون بمحافظة إدلب صباح الاثنين الماضي، بعد السيطرة على حاجز الفقير الذي يعد مدخل المدينة الشمالي الغربي.

بينما كشفت صحيفة "كوميرسانت" الروسية، عن مقتل نحو 160 من قوات النظام خلال الأيام العشرة الأخيرة، من هجومها على محافظة إدلب شمال غربي سوريا.

تلك التطورات الميدانية تأتي بعد جريمة مروعة قُتل خلالها 14 مدنيا بينهم سيدة حامل و5 أطفال وأصيب 20 آخرون، مساء الجمعة الماضية، في قصف روسي وسوري استهدف بلدة حاس بمنطقة "خفض التصعيد" في ريف إدلب الجنوبي.

مناطق خفض التصعيد

التطورات الدراماتيكية التي تشهدها مدينة خان شيخون استدعت الحديث عن مناطق خفض التصعيد، التي أتفق عليها في مايو/أيار 2017 بين الدول الراعية لمحادثات أستانا بين النظام والمعارضة السوريين (روسيا وتركيا وإيران).

مناطق خفض التصعيد، هي مناطق أو مساحات معينة تعمل دول وأطراف ما على تخفيف وضبط الأعمال القتالية فيها، ومنح السكان فيها ظروفا أكثر أمنا، وهي أقل تأمينا وحماية من المناطق الآمنة أو المناطق العازلة التي تقام عادة في مناطق تتعرض لحروب وصراعات داخلية.

تنص وثيقة مناطق خفض التوتر الروسية على وجود من وصفتهم بالضامنين (روسيا وتركيا وإيران) يتولون عدة مهام أبرها: تشكيل "فريق عمل مشترك" سيتحتم عليه وضع الخرائط للمناطق المذكورة، وضمان وفاء الأطراف المتصارعة بالاتفاقات المتعلقة بضبط الأعمال القتالية وغيرها.

عسكريا نص الاتفاق على إنشاء 4 مناطق خالية من الاشتباكات في سوريا تتضمن حواجز ومراكز مراقبة، وهي:

-محافظة إدلب وريفا حلب الشمالي والغربي وريف اللاذقية وريف حماة الشمالي.

-ريف حمص الشمالي وأهم مدنه: الرستن وتلبيسة والحولة.

-غوطة دمشق الشرقية وتشمل بلدات دوما وحرستا وزملكا وعربين.

-محافظتا درعا والقنيطرة جنوبي سوريا.

وتختلف مناطق خفض التصعيد عن المناطق الآمنة والعازلة، فالآمنة أو العازلة تتطلب عادة موافقة من مجلس الأمن، وتتطلبان فرض حظر جوي ووجود قوات مجهزة على الأرض لمنع الاعتداء على المدنيين، بينما لا يقتضي إقامة مناطق لخفض التوتر موافقة دولية أو فرقا عسكرية كثيفة مجهزة ومنتشرة على الأرض.

ويمثل مفهوم مناطق خفض التصعيد نسخة مطورة وموسعة ومحددة جغرافيا من مناطق "وقف إطلاق النار" الذي يستند في العادة إلى التزام سياسي مترتب على اتفاق موقع بين أطراف النزاع المباشرين.

ويمكّن من وقف أو تعليق العمليات القتالية، بما يؤدي لاستتباب الأمن ووصول المساعدات الإنسانية وإجلاء الجرحى من جبهات القتال، ويوقف الحرب تمهيدا لإرساء السلام دبلوماسيا والتسوية السلمية.

الروس لم يلتزموا

في سبتمبر 2018 أعلن الرئيسان الروسي، فلاديمير بوتن، والتركي رجب طيب أردوغان التوصل إلى تفاهمات تقضي بإنشاء منطقة منزوعة السلاح في محافظة إدلب، لتنضم إلى مناطق خفض التصعيد سالفة الذكر.

بعدها بأشهر وتحديدا في مايو/أيار الماضي، اتصل أردوغان بنظيره الروسي مطالبا إياه بضرورة وقف القصف الذي يشنه الطيران الروسي على مناطق ريف حماة وإدلب تنفيذا لتفاهمات أستانا-سوتشي، ليقول المتحدث باسم الرئاسة الروسية، إن تركيا "تتحمل مسؤولية أي استهداف للقوات الروسية في سوريا".

هذا السجال مؤشر واضح على عمق الخلافات بين طرفي اتفاق سوتشي، الخلافات التي تصاعدت بعد الهجمة الأخيرة التي بدأها الروس والمليشيات الإيرانية على ريفي حماة وإدلب في خرق واضح لاتفاق خفض التصعيد بين ثلاثي أستانا (روسيا وتركيا وإيران).

الحقيقة أن الروس لم يلتزموا يوما واحدا باتفاق خفض التصعيد أو حتى بتفاهمات إدلب، "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" كشفت عن مقتل 781 مدنيا على الأقل، بينهم 208 أطفال، جراء غارات النظام السوري وحلفائه على مناطق خفض التصعيد، خلال المدة الواقعة بين 26 أبريل/نيسان 2019، وحتى 27 يوليو/تموز الماضي.

وفي تقرير آخر وثّقت الشبكة أبرز أنواع الأسلحة التي استخدمها الحلف الروسي السوري على المناطق المأهولة بالسكان شمال غرب سوريا بين 26 أبريل/نيسان و19 مايو/أيار الماضيين، مشيرا إلى أن النظام الروسي اعتبر منطقة شمال غرب سوريا ساحة تدريب حي وفعلي لتجريب الأسلحة التي تصنعها الشركات الروسية.

ومن بين تلك الأسلحة الحارقة والذخائر العنقودية والصواريخ التقليدية والصواريخ المسمارية، والبراميل المتفجرة وصولا إلى سلاح الدمار الشامل الكيميائي.

وأوضح التقرير، أن هجمات الحلف الروسي السوري كانت بمعدل شبه يومي وأن الاستخدام الواسع والمتكرر لأنماط متعددة من الأسلحة ضمن منطقة جغرافية محصورة لا تكاد تتجاوز الـ 7000 كم مربع، وتضم قرابة 3.2 مليون ما بين مقيم ومشرد، أكثر من نصفهم من النساء والأطفال، كل ذلك تسبب في موجة من الرعب والإرهاب والنزوح المتكرر.

مراقبون رأوا أنه منذ بداية الهجمة الأخيرة كان واضحا أن تركيا لا تريد نسف التفاهمات بالكامل وتسعى لعودة الأمور إلى ما قبل الهجوم الأخير، فلو كانت تركيا تريد التصعيد أكثر لكانت سمحت للفصائل الموالية لها بشن هجوم على المليشيات الإيرانية وما تبقى من قوات النظام على أكثر من محور، خصوصا من جهة ريف حلب الغربي.

لكن تركيا حينها، بحسب مراقبين، تريد إيصال رسائل واضحة لروسيا بأنها لن تتساهل مع أي خرق للتفاهمات لأن الكلفة البشرية كبيرة لوجود مئات الآلاف من المدنيين في العراء بالقرب من حدودها مع سوريا.

الآن ثمة تصعيد روسي جديد في خان شيخون الإستراتيجية، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول طبيعة موقف موسكو ومدى تخليها عن التزاماتها، ورد الفعل التركي.

الخدعة الروسية

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، رأى في ورقة تقدير موقف نُشرت في يوليو/تموز 2018، أن مناطق خفض التصعيد التي ابتدعتها روسيا، مجرد خدعة للقضاء على المعارضة المسلحة، وإعادة فرض سيطرة النظام على هذه المناطق بالتدريج.

في ديسمبر/كانون الأول 2017، ومن قاعدة حميميم الجوية، أعلن بوتين أن "المهمة الروسية ضد تنظيم داعش الإرهابي قد أنجزت تقريبا" وأمر ببدء سحب القوات الروسية من سوريا، لكنه في حقيقة الأمر كان يجهز لبدء سلسلة من العمليات العسكرية، للقضاء على المعارضة المسلحة في مناطق خفض التصعيد تباعا.

بعدها فورا أطلق النظام السوري، بدعم جوي روسي كثيف، عملية عسكرية واسعة في منطقة خفض التصعيد المتفق عليها في إدلب، بالتزامن مع دخول المفاوضات مع تركيا حول عفرين وتحضيرات مؤتمر "الحوار الوطني السوري" في سوتشي.

انتهت المفاوضات بإعطاء موسكو الضوء الأخضر للأتراك لإطلاق عملية عسكرية ضد وحدات حماية الشعب الكردية في منطقة عفرين بريف حلب الشمالي الغربي، مقابل الضغط على فصائل في المعارضة للمشاركة في مؤتمر سوتشي الذي كان مهددا بالفشل، لتوقف عملية إدلب وتوجه قوات النظام إلى غوطة دمشق الشرقية.

وشن النظام السوري، مدعوما بالروس، هجوما متعدد المحاور على مواقع فصائل المعارضة في الغوطة، انتهى إلى فرض اتفاقيات مصالحة هجّرت مسلحي المعارضة من مناطقهم وقراهم مع أسرهم إلى الشمال السوري الواقع تحت سيطرة فصائل معارضة قريبة من تركيا.

خلال أيام، لاقت المصير ذاته الفصائل المعارضة في قرى وبلدات القلمون الشرقي، وأحياء القدم والعسالي في جنوب العاصمة، إضافة إلى بلدات بيت سحم، وببيلا، ويلدا في الريف الجنوبي لدمشق، ومدن وبلدات ريفي حمص الشمالي وحماة الجنوبي.

واكتسب اتفاق إجلاء "هيئة تحرير الشام" من مخيم اليرموك في جنوب دمشق أهمية خاصة؛ لأنه أتى ضمن صفقة شملت أيضا إخلاء سكان بلدتي كفريا والفوعة، اللتين تقطنهما أغلبية شيعية وترعاهما إيران، في ريف إدلب الغربي.

ولعل أنظار الروس تتوجه الآن ناحية إدلب، لتضع المنطقة أمام سيناريو شبيه بما حدث في الغوطة، لتنكشف خدعة موسكو حول مناطق خفض التصعيد.

ويبدو الهدف الأساسي من هذه الإستراتيجية الروسية حسم الصراع في سوريا عسكريا لمصلحة النظام والقضاء بالقوة على فصائل المعارضة، بعيدا عن أي حل يتضمن انتقالا سياسيا للسلطة، وبعد الإنجازات العسكرية الأخيرة، أصبح النظام أشد تصلبا تجاه استئناف مفاوضات جنيف؛ ورفضه بحث أي موضوع، قبل إعادة سلطة الدولة على جميع الأراضي السورية.

التوافق الأمريكي التركي

ولا يمكن الفصل بين التباعد التركي الروسي من ناحية، وبين التوافق التركي الأمريكي من ناحية أخرى، حيث يرتبطان ارتباطا وثيقا، فالحملة الروسية ضد إدلب تأتي بعد أيام من توصل أنقرة وواشنطن لاتفاق يقضي بإنشاء مركز عمليات مشتركة في تركيا، لتنسيق وإدارة إنشاء المنطقة الآمنة في شمال سوريا.

وفقا للرؤية التركية، فإن المنطقة الآمنة تشمل المساحة الجغرافية الواقعة شمال الطريق الدولي "M4" الإستراتيجي، الذي يربط الشمال السوري بعضه ببعض، وتضم هذه المنطقة مدنا وبلدات من ثلاث محافظات سورية، هي حلب والرقة والحسكة، وتمتد على طول 460 كم، بعمق 32 كم على طول الحدود التركية السورية.

وعلى الرغم من تداخل الملفات العالقة أو التي تسبب توترا في العلاقات الأمريكية التركية مثل صفقة طائرات "أف 35" ودعم واشنطن لأكراد سوريا، وصفقة صواريخ "أس 400" مع روسيا، فإن التقارب الحاصل مؤخرا بينهما لا يمكن تجاهله.

في المقابل، يستهدف الروس خطوط الإمداد التركية الواصلة لنقاط المراقبة الخاصة بمناطق خفض التصعيد، في ريف إدلب الغربي، ومن قبلها ريف حماة الشمالي وريف حلب الغربي. وليس ببعيد عن الموقف الروسي موقف حليفه الإيراني، الذي اعتبر وفق تصريحات المتحدث باسم الخارجية، عباس موسوي، أن اتفاقات إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا "مستفزة ومثيرة للقلق".

فهل يمكن اعتبار التفاهمات بين روسيا وتركيا مرحلية وهشة إلى هذا الحد؟ وما الذي يمكن أن يصيبها أكثر لو أن الولايات المتحدة حلحلت الملفات العالقة مع تركيا مثل أزمة "أف 35"؟ وكيف تتمكن تركيا من اللعب على حبل التوازنات بحيث تحقق مصالحها الإستراتيجية من ناحية وتحافظ من ناحية أخرى على علاقات متماسكة بالبلدين الكبيرين؟