مخاطر تغييب انتماء المواطن العربي إلى الأمة والدولة

12

طباعة

مشاركة

هناك عدد من المظاهر التي رصدناها وتشير إلى تراجع انتماء المواطن العربي إلى الأمة العربية وإلى الدولة القُطرية والطريف أن زعماء القومية العربية الذين أكدوا على وجود الأمة العربية كانوا أحد أسباب ضعف الانتماء إلى الدولة القُطرية، ذلك أن القراءة الفاسدة لمعنى الأمة العربية والأمة الإسلامية ساهمت بشكل مباشر في إضعاف الدولة القُطرية والانتماء إليها، رغم أن نداءات القومية العربية انطلقت من الدول القُطرية كبيرها وصغيرها.

والثابت أن هؤلاء الزعماء لم يكتشفوا الأمة ولم يبتكروها، وإنما رفعوا الشعارات دون أن يتبعوها ويحققوها من منظور علمي وواقعي، ومن الصدف الغريبة أن النظم الدكتاتورية هي التي احتمت بالأمة العربية، كما أن التنظيمات الإرهابية "الإسلامية" احتمت بالأمة الإسلامية، وقد دفعت الدول العربية ثمنا باهظا لحروب القوميين والإسلاميين، ولكن على وجه العموم كان الفهم الخاطئ للأمة العربية يعنى عدم الوقوف أمام الدول القطرية وكذلك الحال وبشكل أوسع في حالة الفهم الخاطئ للأمة الإسلامية، فالاستبداد العربي المتشح بالعروبة وبالإسلام هو السبب الرئيسي في تراجع انتماء المواطن العربي إلى أمته وإلى دولته.

ومن ناحية أخرى فإن قسوة الحاكم العربي واستنفاد خيرات بلاده ورهن إرادته مقابل الاحتفاظ بمنصبه والتغطية على فساده، جعلت المواطنين غرباء في بلادهم وتمنوا أن يغادروها إلى أي مكان آخر، وخاصة إلى الدول الديمقراطية التي ينعم المواطنون فيها بالخير السياسي والاقتصادي والحضاري، بينما يعاني المواطن العربي في بلده من القحط السياسي والاضطهاد والتمييز لصالح السلطة وأنصارها والنهب المنظم لثروات بلاده، وأصبح غريبا فيها ومطاردا مقابل أن ينعم منتفعو السلطة بخيرات البلاد لأنهم يجيدون حرية واحدة، وهي حرية التسبيح بحمد الحاكم.

أما على مستوى الأمة، فقد ارتبطت النكبات العربية بشعارات المستبد العربي "القومية" وبرر أنصار هؤلاء الزعماء ضرب الغرب لهم بأنهم أرادوا الخير لبلادهم، ولكن المؤامرة كانت أكبر من طاقتهم، وهؤلاء إما مغيّبون أو منتفعون، فقد خطط الغرب باستخدام المستبد العربي وسقطاته لوصم العروبة بالهزيمة والتخلف والسخرية، وأصبحت العروبة وصمة تلحق بمن تطلق عليه تماما كما حدث للإسلام بسبب المسلمين، والطريف أن الغرب استخدم عقله بينما غيّب الحكام العرب عقول مواطنيهم، لأن الغرب الديمقراطي ينتج حكومات تسعى إلى تحقيق مصالح أبنائها، خاصة إذا كانت الثروة في يد العرب، الذين تأكد الغرب أنهم عديمو الأهلية فأصبح مال السفيه أجدر بأن يتمتع به العاقل، وصادر الحكام العرب عقول المواطنين حرصا على سلطتهم، وقد أشار نزار قباني في قصيدته الرائعة "يوميات سياف عربي" إلى أن الحاكم العربي عندما فكر أن يعتزل السلطة ينهاه ضميره، ومشكلته الكبرى هي من يتولى بعده جلد العبيد، الذين استعبدهم الحكام لقرون طويلة، والعبيد لا يعيشون دون أن يجلدهم السيد، وأظن أن وسائل الاتصال الحديثة كفيلة ولو بعد مئة عام أن تنهي هذه المعادلة، وأن تفتح عيون الشعوب على الحقائق البائسة.

وأما مظاهر تراجع الانتماء عند المواطن للأمة، فهي ظاهرة في الكثير من التجليات منها أن الشعوب لا تملك حتى أن تشجع فريقا رياضيا لدولة أخرى يعاديها حاكمهم، رغم أنهم يتفرجون على المباريات، ومن المظاهر المخيفة، أن ترى عربيا تطربه هزيمة الجيش السوري، بل وبعض السوريين، بل الأنكى أن بعض المصريين نكاية في السلطة فرحوا بخروج المنتخب القومي من تصفيات كأس الأمم الإفريقية، لأن انتصار الفريق سيستغل من جانب السلطة التي يتخذ منها الكثيرون موقفا سلبيا للحديث عن معزوفة الانجازات، وهذا بلا شك موقف محزن، وقس على ذلك في مصر مسألة محاربة الإرهاب، وكذلك موقف النظام من بعض الدول المعادية لهم مثل قطر وتركيا، وقد سبق وقلنا أن الشعوب العربية يجب ألا تتأثر بصراعات النظم، كما أن الشعب الواحد يجب أن يحرص على وطنه بطريقة إيجابية وألا يكون موقف الحاكم منه سببا في المشاعر السلبية تجاه هذا الوطن.

وبهذه المناسبة، يعتقد البعض أن العصر الملكي ارتبط بالرخاء رغم الاحتلال البريطاني، وأن الحكم الجمهوري ارتبط بالحكم العسكري الذى عانت مصر تحته منذ بدايته كما عانى المصريون، والحقيقة أن الحكم الملكي ليس أفضل من الجمهوري ولكن ارتباط الحكم العسكري بالاستبداد هو الذي جعله يقدس الجمهورية، والنظام الجمهوري رغم أنه هو نفسه وتوالى السلطة بين أركانه يتناقض مع النظام الجمهوري.

وهذا يقودنا إلى قضية أوسع، وهي الاعتقاد بأن الدولة الوطنية ليست براقة كما صوّرها المستبد العربي، وانتهى الأمر إلى التبعية وتمزق الدولة والطبقية والتخلف وتردي مكانة العرب مما جعل الكثيرين يقارنون بين الاحتلال الأجنبي وبين الحاكم الوطني، وقد تبنى الأستاذ المزروعي منذ وقت طويل نظرية مفادها، أن انقضاض المستبد العربي على السلطة بترتيب من المستعمر دفع إلى مطالبته بإعادة المستعمر إلى العالم الثالث، مادام الحكم قد فشل في إدارة البلاد. وأنا أضن العكس وهو تدريب المواطن العربي على ممارسة الحرية والخروج من العبودية التاريخية، فمن العار أن الحاكم العربي الذي برر حكمه بجلب الحرية للوطن والمواطن أن يكون أقسى على المواطن من المحتل الأجنبي.

وأخيرا أريد أن أؤكد في نهاية هذا العرض على أن الأمة العربية والدول القُطرية حقيقة، وأن العلاقة بينهما علاقة تكامل لا تصارع، وأن هذه الحقائق ليست مرتبطة بالتعبئة النفسية للمستبد العربي بوهم محاربة إسرائيل، فقد انكشف كل شيء وازدهرت إسرائيل بسبب هذه المسرحية، فلابد من الحكم الوطني الرشيد الذي يستقل بالبلاد عن الخارج، وأن يتيح لشعبه الحرية الكاملة المسؤولة، وأن ينمي وطنه ويحافظ على ثرواته، وأن يحترم الدستور والقانون الذى أقسم عليه مرات عدة، وبهذه الطريقة نضمن انتماء المواطن إلى وطنه وليس إلى نظامها، وانتمائه الوحيد إلى أمته العربية.