زراعة الكراهية

فرح أشباب | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في الخامس عشر من مارس/ آذار 2019 سالت وديان من دماء أشخاص أبرياء على أرضية مسجد النور، الموجود في ضواحي مدينة ريكارتون والمركز الإسلامي لينوود، في واحدة من أكثر الدول سلاما وإيمانا في العالم نيوزيلاندا.

هجوم إرهابي راح ضحيته خمسون شخصا بين أطفال وشيوخ وشباب، ذنبهم الوحيد هو أنهم كانوا يؤدون صلاة الجمعة في بلد آمن بعد أن ضاقت بهم السبل في أوطانهم فقدموا مع عائلاتهم للاستقرار في مكان تسود فيه الكرامة و الإخاء و الأمان.

نفّذ الهجوم الإرهابي شاب استرالي صوّر جريمته الشنعاء على المباشر أمام تصفيق الكثير من دعاة الكراهية واستنكار كل من في قلبه ذرة إنسانية مهما كان عرقه أو دينه أو انتماؤه الإيديولوجي.

هنا لا يمكن إنكار دور التضخيم الإعلامي والرسائل الإعلامية الأحادية الجانب، ناهيك عن الجهل في زراعة ما يصطلح عليه "الإسلاموفوبيا"؛ التي باتت خطرا محدقا بالمسلمين في كل بقاع العالم. إن أكثر الأشخاص المتضررين من العمليات الإرهابية التي تشنها جماعات متطرفة باسم الإسلام هم المسلمون أنفسهم. 

في الثامن من ديسمبر/كانون الأول من سنة 1980 اهتزت نيويورك والعالم كذلك إثر جريمة قتل بشعة راح ضحيتها جون لينون، واحد من أشهر الفنانين الإنجليز  الذي غيّر خريطة الموسيقى العالمية منذ ستينات القرن الماضي، على يد شاب أمريكي لم يتجاوز حينها الخامسة والعشرين من عمره. سنوات قليلة قبلها التقط مصوّر صورة خالدة للينون رفقة زوجته اليابانية يوكو أونو، وهما يحملان لوحة كتب عليها "Don’t hate what you don’t understand" أي "لا تكره ما لا تستطيع فهمه". 

في القارة السمراء وفي الخامس عشر من يناير/ كانون الثاني من سنة 2016 وفي مدينة واغادوغو البوركينابية، قضى ثلاثون شخصا نحبهم نتيجة هجوم إرهابي شنّه رجال مدججون بالأسلحة الثقيلة على مطعم وفندق. من بين الضحايا كانت مصورة شابة مغربية الجنسية تدعى، ليلى العلوي، كانت قد بدأت مهمتها الإنسانية قبل أسبوع فقط في بوركينافاسو تلبية لدعوة ثنائية من الأمم المتحدة وأمنستي الدولية، لتوثيق معاناة النساء الفقيرات في تلك البقعة من الأرض التي يكثر فيها الاضطهاد والحروب الأهلية والهجومات المسلحة التي تخلط الحابل بالنابل وتقضي على حياة أشخاص أبرياء وتدمر حياة  الكثير ممن ليست لهم دراية أصلا بسبب الحرب. 

صدرت رواية العراقي أحمد سعداوي "فرانكشتاين في بغداد" في مارس 2013، أي عشر سنوات بعد سقوط نظام صدام حسين وغزو العراق من طرف أمريكا مدعمة بقوات التحالف واندلاع حرب ضروس عشوائية تجتاح الأسواق والمباني السكنية والمستشفيات والمساجد والكنائس لتحصد إلى حد الآن أزيد من نصف مليون شهيد عراقي دون الحديث عن الخراب والنهب الذي طال واحدة من أغنى الحضارات وأعرقها.

تسلّط هذه الرواية الضوء على بشاعة الحرب متمثلة في شخصية فرانكشتاين القبيح الذي شكّله بطل الرواية هادي العتاك، من أشلاء عراقيين قضوا نتيجة تفجيرات إرهابية خلال الحرب الدائرة، لينهض فرانكشتاين الكائن الغريب بعد إكمال تكوينه ويقوم بالانتقام لكل الأشخاص الذين يتكون منهم جسده. المحزن في الرواية هو تلك الدوامة من الكراهية التي لا يزال العراق عالقا فيها نتيجة الحرب الأهلية الدامية، كراهية بين أشخاص من نفس العرق ونفس الجنسية يقتلون بعضهم وينتقمون من بعضهم؛ بسبب الكراهية التي لا أساس لها وغالبا ما تكون لاعتبارات واهية. 

من جهة أخرى، تعتبر جماعة كو كلوكس كلان، التي تأسست بعد الحرب الأهلية الأمريكية واحدة من أكثر الجماعات تطرفا في الولايات المتحدة الأمريكية حيث تنادي إلى العنصرية وتفوّق العرق الأبيض كما أنها قتلت الكثير من الأمريكيين الأفارقة في جرائم بشعة منذ تأسيسها سنة 1865 إيماناً منها بعدم أحقيتهم في العيش كما تضرب في حقهم في التحرر من العبودية والظفر بالحقوق المدنية كبقية المواطنين.  

يبين التطور الزمني للمنتسبين لهذه الجماعة أنه وفي عشرينيات القرن الماضي وصل عدد المنتمين لها إلى ستة ملايين أمريكي يجمعهم شيء واحد؛ هو الكراهية تجاه كل ما اختلف عنهم ليتناقص العدد تدريجيا بعد ذلك ويعرف مجددا تطورا نسبيا ملحوظا بعد تولي الرئيس الأمريكي المنتمي إلى الحزب الجمهوري مقاليد الحكم مطلع سنة 2017 نظرا لخطاب الكراهية والتمييز ضد المهاجرين الذي عرف ارتفاعا كبيرا في الآونة الأخيرة. 

تكتسب الكراهية خطورتها من قدرتها على إخراس الوعي وتعتيم الرؤية وتجييش أعداد غفيرة من الأشخاص ضد قضية أو جماعة لا يعرفون عنها شيئا. خطاب انتقيت كلماته بعناية ونبرة واثقة مصرة كافية ليكره مواطن عجوز أمريكي يعيش في ولاية جنوبية شابا من غواتيمالا يحلم بالهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الطب. تعتبر وسائل الإعلام أكبر منتج للكراهية. 

الكراهية بكل أنواعها تُزرع خلال التنشئة الاجتماعية للفرد لأن الجينات لا علاقة لها بذلك. فالخطابات المتراكمة منذ الطفولة في وعي ولا وعي الإنسان تشحن الكثير من الأحكام المسبقة والتمثلات الخاطئة عن الآخر ليعتقد الشخص أنه من حقه أن يكره غريبا لا يعرف عنه شيئا فقط لأنه مختلف عنه في العرق والدين والانتماء السياسي والأفكار والإيديولوجية.

وأحيانا أخرى تجد أشخاصا يجمعهم نفس الدين والعرق والتقاليد والتراث والحضارة لكنهم يكنّون الكراهية لبعضهم من أجل اعتبارات سياسية، تجدر الإشارة هنا إلى بعض الدول العربية التي يجمعها كل شيء وتفرقها كراهية لا أساس لها. 

يقول الفيلسوف والعالم المخضرم الذي عاش خلال القرن الثاني عشر الميلادي ابن رشد: "يُولِّد الجهل الخوف ويؤدي الخوف إلى الكره ويتسبب الكره في العنف. هذه هي المعادلة..".

"لا تكره ما لا تستطيع فهمه".. عبارة بسيطة لكنها رسالة قوية لكل الذين يكرهون الأشياء والأشخاص دون أن تكون عندهم أدنى  فكرة عنهم، دون أن يبحثوا ويفهموا، دون أن يفكروا للحظة أن كل البشر متشابهون رغم الاختلاف، لديهم نفس المشاعر والدوافع والاعتبار للعائلة والأهل والأصدقاء، نفس الرؤية للمستقبل ونفس الحنين لماض ولّى، نفس الوجبات رغم اختلاف مكوناتها، ونفس الحب الذي يسكن القلوب.

البشر في غاية الاختلاف على جميع الأصعدة لكنهم واحد، لا يولد الإنسان كارها للآخرين لكنه يتعلم الكراهية من الوسط الذي يعيش فيه. وكما تعلم الكراهية يمكنه كذلك أن يتعلم الحب والتسامح أو على الأقل أن يتعلم وضع نفسه في مكان الآخرين عوض المكوث خلف نافذته التي لا تطل إلا على منظر واحد، ليفهم بعدها أن الآخرين لا يستحقون ذلك الكره ولو اختلف معهم في كل شيء؛ لأنه وفي نهاية المطاف يشبههم أكثر مما يتوقع.