قانون مثير للجدل.. لماذا أشعل ماكرون المواجهة مع ملايين الفرنسيين؟

باريس - الاستقلال | a year ago

12

طباعة

مشاركة

في تحد للشارع الفرنسي الغاضب بالفعل، أقرت حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون، مشروع قانون "إصلاح التقاعد"، دون إحالته للتصويت في الجمعية الوطنية (الغرفة الأولى بالبرلمان)، ما أدى إلى تفاقم الغضب في عموم البلاد.

ومنذ 19 يناير/ كانون الثاني 2023، يتظاهر ملايين الفرنسيين رفضا لهذا الإصلاح المزعوم الذي ينص البند الرئيس فيه على رفع سن التقاعد القانونية من 62 إلى 64 عاما.

وفي 16 مارس/ آذار 2023، أعلنت رئيسة الوزراء إليزابيث بورن، عن اللجوء إلى المادة الدستورية 49 في فقرتها الثالثة لتمرير القانون، التي تسمح بتبنّي نصّ من دون التصويت عليه بالجمعية الوطنية، ما لم يؤدِّ اقتراح بحجب الثقة إلى الإطاحة بالحكومة.

ولإسقاط الحكومة يجب أن تصوت الأكثرية المطلقة في الجمعية الوطنية على اقتراح لحجب الثقة، أي 287 صوتا (من أصل 577). ويتطلب ذلك أن تتحد أحزاب اليسار واليمين المتطرف، وهي فرضية غير مرجحة.

تعسف سياسي

وبررت بورن تمرير القانون بهذا الشكل التعسفي، بأن "عدم اليقين يخيم بشأن عدد قليل من الأصوات ولا يمكننا المجازفة برؤية 175 ساعة من النقاش البرلماني ينهار".

وأضافت خلال جلسة الجمعية الوطنية في 16 مارس، أنه "لا يمكننا المجازفة برؤية الحل الوسط مرفوضا لأن هذا الإصلاح ضروري".

وينص قانون إصلاح التقاعد المثير للجدل على رفع سن التقاعد القانوني تدريجيا من 62 إلى 64 سنة بواقع 3 أشهر سنويا، وذلك اعتبارا من مطلع سبتمبر/ أيلول 2023 وحتى 2030.

كما ينص المشروع على زيادة مدة الاشتراكات المطلوبة في الضمان الاجتماعي من 42 إلى 43 سنة، كي يحصل المتقاعد على معاشه التقاعدي كاملا، أي دون أن تلحق به أي خصومات.

وتعول الحكومة على هذا التعديل لضمان تمويل نظام الضمان الاجتماعي الذي يشكل إحدى ركائز النموذج الاجتماعي الفرنسي، فيما يعده المحتجون تعديا على حقوقهم العمالية المكتسبة، ورغبتهم في التمتع بمعاشات التقاعد لمدة أطول.

وفي تعليقه على إصرار ماكرون لتمرير هذا القانون، أوضح نائب العمدة السابق لبلدية "أتيس-مونس" الفرنسية عمر المرابط، أن مشروع إصلاح التقاعد كان مطروحا في العهدة الرئاسية الأولى للرئيس ماكرون.

وأضاف المرابط لـ"الاستقلال"، أن جميع الرؤساء الفرنسيين السابقين حاولوا إصلاح نظام التقاعد حيث تم القيام ببعض الإصلاحات الطفيفة من قبيل رفع سن التقاعد من 60 إلى 62 سنة.

وتابع أن ماكرون سبق أن طرح في برنامجه الانتخابي الرفع من سن التقاعد إلى 65 سنة لأن النظام الحالي لا يفي بالوعود ويعاني من عجز شديد سيجعله عاجزا عن تأدية معاشات المتقاعدين في غضون سنة 2027.

ويحاول ماكرون من خلال إصلاح نظام التقاعد عبر زيادة السن القانوني للتقاعد، وتمديد المساهمات للحصول على معاش تقاعدي كامل، تحقيق التوازن في حسابات نظام المعاشات التقاعدية الحكومية.

ويرى مسؤولون بحكومة ماكرون أنه دون اتخاذ إصلاح جذري في هذا القانون، سيصل العجز في المعاشات التقاعدية إلى أكثر من 13 مليار دولار سنويا بحلول عام 2027.

وأشار المرابط، إلى أن النظام الحالي يقوم على أن الذين يشتغلون الآن هم الذين يؤدون معاشات المتقاعدين، مبينا أن عدد المتقاعدين تزايد بشكل كبير مقارنة مع عدد الذين يشتغلون مما أدى إلى تفاقم عجز نظام التقاعد وبالتالي اضطر ماكرون إلى القيام بهذا الإصلاح. 

ورأى المرابط، أن ماكرون ليس لديه ما يخسره مادام في عهدته الرئاسية الثانية، مستدركا: "لكن سيشهد له التاريخ بأنه قام بإصلاحات هيكلية في فرنسا ومنها إصلاح نظام التقاعد". 

تمرير بالقوة

وأرجع مراقبون لجوء ماكرون إلى تمرير إصلاح نظام التقاعد دون تصويت برلماني إلى مخاوفه من عدم القدرة على تأمين النصاب في الجمعية الوطنية، وذلك بعد المصادقة عليه في مجلس الشيوخ (الغرفة الثانية بالبرلمان).

وكان مجلس الشيوخ الفرنسي ذي الأغلبية اليمينية قد صادق على مشروع القانون بـ193 صوتا مقابل 114 صوتا. 

ورغم أن ماكرون أعلن في 15 مارس 2023، أنه "يرغب في الذهاب إلى تصويت" في الجمعية الوطنية على إصلاح نظام التقاعد إلا أنه اختار تمريره دون تصويت.

وبرر الرئيس الفرنسي لجوءه إلى الفقرة 3 من المادة 49 من الدستور الفرنسي لتمرير القانون إلى المخاطر المالية والاقتصادية الكبيرة التي تواجهها فرنسا.

لكن الحقيقة هي أن الحزب الرئاسي الحاكم وحلفاءه يفتقدون إلى الأغلبية المريحة في الجمعية الوطنية، ما أثار مخاوف الحكومة من عدم قدرتها على حيازة عدد الأصوات الضروري لإقرار القانون.

وكان الرئيس الفرنسي، حسب تقارير إعلامية محلية، أمام خيارين: إما الذهاب إلى تصويت نتيجته غير محسومة، أو تمرير الحكومة مشروع القانون دون تصويت، مستندة إلى بند دستوري يتيح لها ذلك.

ليختار في النهاية "الحل السهل من خلال استعمال قوة السلطة" لتمرير القانون.

ومنذ إدخال المادة 49.3 للدستور الفرنسي، عام 1958، جرى استخدامها 91 مرة، ثلاث منها كانت تحت حكم ماكرون.

وحسب منتقديه، فإن ماكرون أصبح يعيش "عزلة سياسية" بسبب عدم تمكنه من حشد أغلبية مريحة لتمرير القانون بشكل طبيعي.

حيث إن كل الحلفاء الذين تحدث معهم لم يوافقوا أو انسحبوا من التحالف خوفا من تهديدات النقابات ومن الجماهير الغفيرة الرافضة لمشروع إصلاح التقاعد.

بين الدستور والشارع

وفور إعلان رئيسة الحكومة الفرنسية قرار تمرير القانون دون تصويت خرجت الحشود الرافضة للقانون بشكل عفوي احتجاجا على هذا القرار. 

وجرى اعتقال أزيد من 300 شخص بينهم 258 في باريس وحدها، وفق ما أعلن وزير الداخلية جيرالد دارمانان.

كما وقعت مشاجرات بين شرطة مكافحة الشغب ومتظاهرين غاضبين من استخدام الحكومة الفرنسية مادة في الدستور لفرض إصلاحات تتعلق برفع سن التقاعد من 62 عاما إلى 64 دون إجراء تصويت برلماني.

وأمام الطريقة التي لجأ إليها ماكرون لتمرير قانون إصلاح التقاعد دون تصويت الجمعية الوطنية، توعدت النقابات باللجوء لـ"قوة الشارع" ليل نهار للضغط على الرئيس لسحب القانون.

ويخطّط الاتحاد النقابي لـ"تجمّعات محلية"، بالإضافة إلى يوم تاسع من الإضرابات والتظاهرات في 23 مارس 2023، فيما حذّر مسؤولون نقابيون من حصول تجاوزات.

ومنذ 19 يناير/ كانون الثاني 2023، تظاهر ملايين الفرنسيين ثماني مرات للتعبير عن رفضهم لهذا الإصلاح.

ويبرز الغضب في باريس أيضا عبر تراكُم النفايات في عدد من الشوارع، إذ لم يتم جمعها منذ عدّة أيام بسبب إضراب العاملين.

سحب الثقة

وإضافة إلى الشارع والنقابات الغاضبة، عبر العديد من النواب والسياسيين الفرنسيين عن استهجانهم لجوء الحكومة إلى المادة 49، ورأوا أن هذا الإجراء قد يفاقم رفض هذا الإصلاح.

وهناك شبه إجماع في أوساط المعارضة على اعتبار اللجوء إلى المادة 49 لتمرير القانون نكسة بالنسبة لماكرون الذي رهن رصيده السياسي في سبيل هذا الإصلاح، جاعلا منه أبرز مشاريع ولايته الرئاسية الثانية.

في هذه الأثناء قُدّم مقترحان بالجمعية الوطنية لحجب الثقة عن حكومة ماكرون، الأول من قبل نواب مجموعة "ليوت" المستقلة وتشارك فيه أحزاب عدة، كما شارك فيه نواب من ائتلاف "نوبس" اليساري.

والمقترح الثاني قدمه نواب من حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف.

ولا يمكن لأي من الجانبين، سواء تحالف اليسار أو اليمين، تمرير قرار حجب الثقة بمفردهما، وبالتالي يفرض هذا الواقع على كل من أحزاب اليسار وأحزاب اليمين المتطرف كسر "تابو" عدم التصويت لبعضهما.

علما أن حكومة ماكرون الحالية تفتقد لأغلبية مريحة حيث لا تتوفر سوى على 250 مقعدا داخل البرلمان، مقابل 327 مقعدا للمعارضة.

لذا قال نائب العمدة السابق لبلدية "أتيس-مونس" الفرنسية، عمر المرابط، إن لجوء ماكرون لتمرير القانون دون تصويت جاء بسبب عدم توفره على أغلبية مريحة تسمح له بتمرير الإصلاحات الهيكلية. 

وأضاف أن عدم توفر الأغلبية المريحة سيكون سببا في إسقاط الحكومة وبالتالي تم استخدام هذه المادة الدستورية التي تسمح للحكومة بتمرير القوانين دون تصويت، مستدركا: "لكن في نفس الوقت تسمح للمعارضة بإسقاطها عبر طرح طلب حجب الثقة".

وعن تداعيات هذا القرار على الحياة السياسية والاجتماعية بفرنسا، أفاد المرابط، أن "70 بالمئة من الشعب الفرنسي عبروا عن رفضهم لهذا المشروع وكانوا يقولون إنه إذا مُرر عبر التصويت في البرلمان فإنه على الأقل ستكون له مصداقية لأنه مُرر بطريقة ديمقراطية". 

وأردف المرابط أنه "حتى تمرير القانون عبر المادة 49.3 ولو أنه تمرير ديمقراطي ولكنه تم بالعنف والقوة".  

وأكد أن تمرير هذا المشروع الأساسي بهذه الطريقة أغضب العديد من الفرنسيين الذين خرجوا للتظاهر مباشرة بعد الإعلان عن اللجوء للمادة 49 في فقرتها الثالثة.

وقال المرابط، "لا أظن أن الرئيس الفرنسي سيتراجع إلا إذا تفاقم الوضع من قبيل ما وقع خلال احتجاجات حركة السترات الصفراء".

وفي 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، انطلقت شرارة احتجاجات حركة "السترات الصفراء" من رحم المواقع الاجتماعية ضد السياسة الاجتماعية والاقتصادية للحكومة. 

واستطاعت الحركة بفعل قوة احتجاجاتها أن تهز ولاية الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي كان مجبرا على طرح إصلاحات جديدة لتجاوز هذه المرحلة الصعبة.

وخلص المرابط، إلى أن تمرير القانون عبر اللجوء للمادة 49.3 قد يؤدي إلى الإطاحة بالحكومة لأنها تُغير في هذه الظروف حتى يبقى الرئيس فوق الجميع رغم أن هذا المشروع هو مشروع الرئيس ماكرون وليس مشروع الحكومة.

من جهته، رأى الصحفي المختص في الشأن الفرنسي علاء الدين بونجار، أن فرنسا كانت تعيش أزمة سياسية بسبب مشروع قانون إصلاح التقاعد فتحولت إلى "أزمة ديمقراطية".

وفي 16 مارس 2023، أكد بونجار، في حديث لقناة "العربي" القطرية، أن هذا المشروع المهم فرّق المجتمع الفرنسي وأثار جدلا كبيرا مما يعكس إخفاقا كبيرا للرئيس الفرنسي وإخفاقا للديمقراطية.

وأشار إلى أن بعض أحزاب المعارضة قدمت مذكرات لحجب الثقة عن الحكومة، مرجحا إمكانية حصولها على تأييد كبير داخل البرلمان وبالتالي فإن هناك احتمالا كبيرا للموافقة على مذكرة حجب الثقة وإسقاط حكومة إليزابيت بورن.

وسجل أن ماكرون هو أضعف رئيس من الناحية السياسية في تاريخ فرنسا لذا لجأ إلى القوة لتمرير هذا القانون في محاولة لإثبات وجوده السياسي.

وخلص بونجار، إلى أن الرئيس الفرنسي أراد أن يدخل التاريخ عبر إصلاح نظام المعاشات، مستدركا "لكنه يبدو أنه يدخل رويدا رويدا في الحائط".