لماذا تفضل الإمارات صربيا كمنطلق لمصالحها المشبوهة في أوروبا؟

داود علي | a year ago

12

طباعة

مشاركة

في مطلع فبراير/شباط 2023 شهدت العاصمة الصربية "بلغراد" توقيع اتفاقية "منع غسل الأموال" مع دولة الإمارات، ما أثار تساؤلات حول مدى انتشار هذه الجريمة بين البلدين.

وجرى التوقيع بين ممثلي مديرية منع غسل الأموال بجمهورية صربيا، وممثلي دائرة الاستخبارات المالية لدولة الإمارات.

وحضر مراسم التوقيع سفير الإمارات لدى صربيا مبارك سعيد بورشيد الظاهري، الذي شهد كلمة نائبة رئيس الوزراء الصربي ووزيرة المالية "سينيسا مالي".

أفضل صديق 

وصرحت "مالي" قائلة: "إن الاتفاقية ستمكن مؤسستي البلدين من التعاون بشكل أفضل، وستعزز العلاقات الاقتصادية القوية بالفعل". 

ووصفت نائبة رئيس الوزراء الصربي علاقة بلادها بالإمارات، بأنها وصلت إلى درجة من التعاون والتنسيق لم يسبق لها مثيل. 

وصربيا دولة أوروبية صغيرة لا تتجاوز مساحتها 77.4 ألف كيلومتر مربع، تقع جنوب شرقي القارة العجوز، وتلعب دورا أساسيا في منطقة البلقان الإستراتيجية.

أصبحت هذه الدولة صاحبة علاقات متشعبة مع الإمارات، حيث استثمرت أبوظبي مليارات الدولارات في قطاعات متعددة مثل تطوير الأسلحة والعقارات والتبادل التجاري.

فكيف وصلت العلاقات إلى هذا الحد؟ ولماذا تركز الدولة الخليجية على صربيا كمنطلق لنفوذها في تلك البقعة من العالم؟ 

وفي 26 فبراير 2023، نشر موقع "أوراسيا ريفيو" تحليلا عن تطور العلاقات الإماراتية الصربية منذ عام 2012 قال فيه إن أبوظبي أصبحت جزءا من صفوة البلدان التي ترابط بلغراد معها باتفاقيات شراكة إستراتيجية.

وهو تطور ملحوظ يستحق المتابعة لأنه جاء بعد جفاء بين البلدين، وقع عام 2008، ووصل إلى حد قطع العلاقات والحرب الدبلوماسية، عقب عدوان صربيا على كوسوفا.

وحتى في منتصف التسعينيات كانت العلاقات سيئة للغاية، بسبب الحرب الصربية في البوسنة والهرسك.

حينها غضبت صربيا من الإمارات بسبب دعمها للبوشناق ماليا وعسكريا وإسهام أبوظبي في إرسال مقاتلين إلى هناك.

وأتبع موقع "أوراسيا ريفيو": "في السنوات الأخيرة حدثت تحولات فارقة في العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بين الدولتين".

وذكر أنها بلغت درجة أن الصرب أنفسهم يقولون "إنهم ينظرون إلى الإمارات الآن، أنها أفضل صديق لصربيا في العالم العربي".

بوابة خلفية 

وقال الموقع الأوراسي: "لا ينبغي للمرء أن يكون ساذجا ويعتقد أن الشيوخ الإماراتيين ساعدوا صربيا بسبب الأعمال الخيرية".

وأردف: "لقد ساعدوا الصرب بدافع المصلحة الذاتية من أجل مساعدة أنفسهم من حيث كون صربيا موطئ قدم جيدا للوصول إلى الأسواق الأوروبية".

وأورد: "يستفيد الإماراتيون من الناحية الجيوسياسية من الشراكة الإستراتيجية مع بلغراد، حيث يهدف صناع السياسة الإماراتيون إلى دفع نفوذ تركيا خارج صربيا ومنطقة غرب البلقان بالكلية". 

لذلك فإن "الدوافع براغماتية بحتة من قبل رئيس الإمارات محمد بن زايد، والرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيت، والذي أدت طريقته البراغماتية السياسية إلى تحول 180 درجة (في العلاقات)".

كما أنه "لعب على نفوذ وأموال الإمارات لتحقيق مكتسبات اقتصادية وسياسية"، خاصة أن صربيا تعاني من أزمات اقتصادية جامعة، بارتفاع الدين العام ومعدلات البطالة.

في حين تراجعت صناعة المصانع الصربية عن المنافسة الأوروبية، وكانت الدولة في حاجة إلى الاستثمار الأجنبي المباشر الذي يمكن أن يعطي دفعة إيجابية وصحية لاقتصادها المتردي، الذي لا يزال يتعافى من العقوبات الدولية في التسعينيات بسبب عدوانها على البوسنة والهرسك. 

لكن هناك دورا أعمق من مجرد الاستثمار الظاهري والعلاقات الدبلوماسية المتقدمة بين أبوظبي وبلغراد. 

ففي أغسطس/ آب 2014 نشر موقع "الخليج أونلاين"أن الاستثمارات الإماراتية تتركز في تجارة السلاح، والتي تستخدم في مناطق النزاع في الشرق الأوسط. وذكر التقرير أن "غالبية تلك الاستثمارات سرية وذات أهداف غير معلنة". 

وأكد أن ذلك لا يتعلق أبدا بالأرباح المادية، لكنه يأتي في طور استخدام الدولة الخليجية علاقاتها وإستراتيجيات الاستثمار في صربيا لضرب الوجود التركي في منطقة البلقان.

وعن أسباب اختيار الإمارات صربيا تحديدا للعب ذلك الدور، كشف هذا تحقيق "شبكة البلقان" للصحافة الاستقصائية عام 2016.

إذ صنف صربيا أنها إحدى أهم مراكز تجارة السلاح غير المشروع في أوروبا. وذكر التحقيق أنها صدرت أسلحة تفوق قيمتها مليار دولار لدول في الشرق الأوسط، على رأسها الإمارات.

ونقلت الإمارات بدورها الأسلحة إلى سوريا، التي كانت وقتها تشهد معارك بين نظام بشار الأسد وداعميه من إيران وروسيا و"حزب الله" من طرف، والمعارضة السورية من طرف آخر.

وأورد التحقيق أنه جرى نقل الآلاف من البنادق وقذائف الهاون وقاذفات الصواريخ والأسلحة المضادة للدبابات عن طريق خط مستحدث يمتد من دول البلقان إلى الجزيرة العربية، وبعض الدول المجاورة لسوريا.

واختتم أن صربيا من أهم مراكز الجريمة المنظمة في أوروبا، وهو ما يضع علامات استفهام كثيرة حول العلاقات بينها وبين الإمارات، التي تشارك كثاني أكبر قوة ضمن التحالف العربي في اليمن، بقيادة حليفتها السعودية.

محمد دحلان 

لكن الدور الذي تلعبه الإمارات في أبوظبي وإن ظهرت أسبابه، فأيضا له عوامل أسهمت في تقويته ومد جذوره. 

ومن أهم تلك العوامل وجود مهندس الاتصالات بين أبوظبي وبلغراد، الفلسطيني محمد دحلان، الذي ينظر إليه كثيرون على أنه كان يشغل خلال السنوات الماضية منصب مستشار ولي عهد الإمارات (آنذاك) ورئيس الدولة الحالي محمد بن زايد.

ولم يلعب دحلان في محور صربيا فقط بل في منطقة البلقان ككل، بأمر مباشر من ابن زايد، وفق تقارير عربية وغربية. 

وفي 12 فبراير 2015 نشر موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، تقريرا عن دور دحلان في تعميق العلاقات الإماراتية الصربية بشقها "المشبوه". 

وذكر أن دحلان تربطه علاقة وطيدة بالرئيس الصربي المعروف بعداوته وكراهيته الذاتية للمسلمين.

ونقل عنه أنه قال عام 1995 خلال حرب البوسنة: "سنقتل 100 مسلم مقابل كل صربي لقي حتفه".

وأوضح الموقع البريطاني أن الصداقة بين الإمارات وصربيا ربما لم تكن ممكنة، إذا غاب رجل واحد هو "محمد دحلان".

وعبر عن هذه العلاقة المتينة بين دحلان والرئيس الصربي، منح الأخير للأول وسام "العلم الصربي" في أبريل/نيسان 2013، لمساهمته في بناء العلاقات الصربية الإماراتية.

وأورد "ميدل إيست آي" أن دحلان لديه خبرة في تجارة الأسلحة بشكل خاص، وهو ما ساعده في بلغراد، وهي مهمة ليست بجديدة عليه.

إذ اتهمه حركة التحرير الوطني "فتح" المفصول منها، بأنه شحن أسلحة إسرائيلية الصنع للديكتاتور الليبي معمر القذافي.

وهو ما كشفته وثائق ويكيليكس في 2010 بشأن اجتماع عقد في إسبانيا مع نجل القذافي.

وأكمل: "كذلك يساعد دحلان في التقريب بين الصرب والإماراتيين والأميركيين والإسرائيليين بفضل علاقاته الوثيقة بقادة أمن دولة الاحتلال".

على رأسهم مدير وكالة المخابرات المركزية الإسرائيلي الأسبق جورج تينيت، وبآمنون شاحاك من الجيش الإسرائيلي وبيعقوب بيري من جهاز الموساد (المخابرات الإسرائيلية الخاصة).

لكن الأهم أن صحيفة "الغارديان" البريطانية كشفت وثائق خاصة في 30 يونيو/حزيران 2015، تفيد بأن صربيا، التي ارتكبت قواتها مجازر واسعة ضد المسلمين خلال عقد التسعينيات، منحت دحلان وعائلته وخمسة من السياسيين المقربين منه جنسيتها.

وتبين من الوثائق، التي حصلت عليها شبكة إخبارية صربية، ونشرتها "الغارديان" أن دحلان وعائلته ومعاونيه حصلوا على الجنسية الصربية خلال الفترة من فبراير 2013 وحتى يونيو/حزيران 2014.

ولدحلان ميزة أخرى في تلك المنطقة، فقد حصل على جنسية دولة مونتنيغرو (الجبل الأسود) رغم أنها شديدة الانغلاق ولا تسمح بازدواج الجنسية.

لم يعلق المسؤولون من مونتنيغرو على أسباب إعطاء دحلان جواز السفر، لكن يؤكد محللون أنه يستخدمها هي وصربيا في عمليات غسل الأموال، وتسهيل صفقات بعض الشركات الإماراتية في البلقان. 

 

مسمار جحا 

وعن تصاعد العلاقات الإماراتية الصربية في الآونة الأخيرة، علق الباحث المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، حسين الديلمي، بالقول: "الإمارات وجدت ضالتها في صربيا لمجموعة من الأسباب والعوامل التي لا تتوفر إلا في تلك الدولة الصغيرة والإستراتيجية في آن واحد". 

وذكر في حديثه لـ "الاستقلال": "أن صربيا من أكثر دول شرق أوروبا فسادا، وغيابا لمعايير الرقابة والشفافية، فكل شيء في هذه الدولة يمكن شراؤه بالأموال من رأس الحكومة إلى أصغر موظف، وهذا عين ما تريده الإمارات".

وأضاف: "الميزة الأخرى في صربيا أنها دولة غير عضو في الاتحاد الأوروبي ولا تخضع لقواعده الصارمة، وفي الوقت ذاته ترتبط بالأسواق والحكومات الأوروبية بحكم موقعها الإستراتيجي في مفترق طريق بين أوروبا وآسيا". 

وأوضح: "صربيا كذلك سوق رائجة لتجارة السلاح وعمليات غسيل الأموال، ما يجعلها من أبرز نقاط المافيا في العالم، وإليها لجأ عدد من الأوليغارشية الروس تماما كما فعلوا مع الإمارات". 

ويقصد بالأوليغارشيين الروس مجموعة رجال الأعمال والبرلمانيين والضباط الأثرياء الذين برزوا سريعا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991.

وعاد هذا المسمى إلى الظهور بشدة عقب استهدافهم من قبل أميركا وأوروبا بعقوبات قاسية بعد غزو أوكرانيا.

واستدرك الديلمي: "لذلك فإن صربيا مثالية للوجود الإماراتي، ولا نغفل أنها كمسمار جحا لأبوظبي في منطقة البلقان لمزاحمة النفوذ التركي هناك".

فهي تهدف إلى "الضغط على تركيا من خلالها في حال ساءت العلاقات، خاصة أن هناك عداء تاريخيا بين الصرب والأتراك يعود للحقبة العثمانية".

واختتم: "كل ما نراه ونرصده بين الإمارات وصربيا ما هو إلا قمة جبل الجليد، ويوجد خبايا وصفقات سرية ومشبوهة كثيرة لم يعلن عنها بعد".

فالأمر ليس مجرد علاقات قوية فقط، بل هي أعمق بكثير لأنظمة دأبت على إدارة الأمور بطرق مشبوهة ومن وراء ستار، وفق تعبيره.