بطولة إفريقيا والمنتخب المصري وذكريات 

أيمن خالد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

المشهد السينمائي في مصر أكثر حضورا بكثير من مشهده في أية دولة عربية أو غير عربية.. هي حكاية من حكايات 15 عشر عاما من طيب العيش على أرضها وبين أهلها.

والمقهى في مصر شكل ثاني قابل للتشكل بحسب معطيات الحدث الأبرز. أحد مظاهره وأنت جالس تلاحظ عامل المقهى وقد بدأ بترتيب الكراسي بشكل صفوف أمام شاشة التلفزيون الكبيرة. وهذا إيذان بأن مباراة مهمة لكرة القدم قد اقترب موعدها. حينها كنت أحد جلّاسها ومنذ سنين طويلة لم تسمح لي ظروفي وانشغالاتي المهنية على الأقل متابعة كرة القدم. لكن قادتني ظروف آنية ورغبة مشاركة جلساء المقهى الشعبي في أحد أحياء القاهرة لأتابع معهم نهائي بطولة كأس مصر عام 2015 بين البطلين التقليديين الأهلي والزمالك.

لا أنكر أنني استمتعت بالمباراة التي أقف على مسافة واحدة من طرفيها. ولكن أكثر ما استمتعت به هو تعليقات جمهور المقهى. وذلك التعليق لرجل جاوز الستين وهو مشجع أهلاوي منفعل ولم يجلس أبدا وظل على طول زمن المباراة يحاكي معلق المباراة أحمد شوبير حارس مرمى الأهلي سابقا. كل كلمة يقولها شوبير يرد عليه هذا المشجع المنفعل بسبب أداء الأهلي غير الموفق في تلك المباراة.. شوبير بصوت عالٍ يقول: (الرطوبة عالية جدا اليوم وأثرت على لعيبة الأهلي)!! فكان جواب الرجل الستيني (يا ابن.. وتجيبوا لعيبة تتأثر بالرطوبة ليه؟).

سؤال مهم حقيقة.. لماذا نضع الأشياء في غير أماكنها وأزمانها؟

حديثنا ليس عن أهمية الرياضة وعلاقتها بالصحة والسلامة البدنية والذهنية والنفسية وإثبات الحث عليها وممارستها من قبل الرجال والنساء دون تكاسل أو إهمال، لما لها من دور مهم في بناء الإنسان. فالبديهي لا يحتاج إلى كثير كلام.

هي مجموعة وقفات عن ظاهرة استلاب العقول ونزعها من محيطها المعقول إلى زوايا الجنون واللامنطق. فلا يُنكر أن من استحقاقات العالم المضطرب المختل أن يختل معه ميزان الحكم على الأشياء. "والحكم على الشيء فرع عن تصوره" كما يقول الأصوليون. 

قاصدا قدمت السياسة على الرياضة في حديثي هذا عن كرة القدم ربما لأمرين مهمين. الأول، حرصا على دفع اتهام الشعوب بالجنون وذلك لا يليق وصفا بخلق الله الذي أناط بهم مهمة التكليف في بناء وإعمار الأرض بل وبناء الإنسان نفسه وهو الغاية والهدف.

والأمر الثاني، لقناعتي المترسخة بأن كرة القدم اليوم انحرفت عن فضائها وبيئتها الرياضية لتقع مأسورة في أحضان السياسة ومشاريع خلق الأزمات وتعطيل القدرات العقلية وتغييب الوعي المجتمعي.

أحب الرياضة ولست من المهتمين بملاحقة تفاصيلها. ولكن عندما يتحول الحدث إلى ظاهرة وقضية رأي عام يشغل الناس. أجد الدافع للكتابة قد تمكن مني. هذه هي المرة الثانية التي أقحم نفسي في الكتابة عن كرة القدم من وجهة نظر السياسة ويبدو أن البطولات القارية كانت عنصر التشابه الذي جمع المقالين. فقد كتبت قبل سبعة أشهر مقالا من وحي أجواء بطولة آسيا الكروية عن ظاهرة الاحتراف وأثرها في تغيير قواعد اللعبة الرياضية والسياسية والمجتمعية، حينما أقصى اللاعب العراقي بسام الراوي منتخب بلده الأصلي (العراق) من بطولة كأس آسيا بهدف أحرزه لصالح منتخب قطر الذي يلعب (بّسام) ضمن صفوفه باعتبار قطر بلد جنسيته المكتسبة. وما تركه ذلك الحدث من هياج للرأي العام داخل العراق.

الحدث الذي أنسى العراقيين ملفات الفساد والحرب على الإرهاب والتغيير الديموغرافي الذي تعرضت له أرض الرافدين ناهيك عن ملايين المهجرين في خيامهم البالية يتخطفهم الموت.  

هذه المرة ومن وحي أجواء البطولة الإفريقية لكرة القدم التي شهدتُ سبع دورات لها وأنا في مصر التي حازت على كأس البطولة ثلاث مرات على التوالي بين أعوام 2006 و2010م. الأجواء في حينها كانت مختلفة، على قاعدة اختلاف زاوية النظر والحكم على الأشياء بحسب زمانها ومكانها والظروف المحيطة بها. والأهم هو النظر إلى الأشياء في إطار المعقول والمصلحة وتغليب الأولويات.

نعم لقد شغلتنا كتاباتنا في الشؤون السياسية والقانونية والدولية لكن ذلك لا يعني عدم وقوفنا أمام الظاهرة الرياضية مقدار تعلقها بالرأي العام. وحيث غطت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر والدول العربية بل وفي أكثر دول العالم المعنية ليلة الحزن والغضب، بعد وداع المنتخب المصري لبطولة كأس الأمم الإفريقية المقامة على أرضه، إثر الخسارة أمام نظيره الجنوب إفريقي في دور الـ16 بهدف دون مقابل.

ذلك الغضب الجماهيري الذي لم يبتعد كثيرا عن أسبابه التي تعدت نقد اللاعبين والجهاز الفني، لينتقل إلى الهجوم على نظام السيسي، الذي حاول استغلال تنظيم البطولة في الترويج لنفسه وإلهاء المصريين بتبذير المال العام على بطولة يقول البعض إن نظام السيسي أهان فيها تاريخ المنتخب المصر المشرف عبر تاريخ هذه البطولة.

هناك أزمات كثيرة تأبى أن يتم القفز عليها وليس لبطولة كروية مهما كانت أهميتها أن تغطي جرائم رفع أسعار الوقود وإشكالية صفقة القرن والتسبب بموت رئيس منتخب للبلاد تحت وطأة السجن والإهمال الصحي من قبل سلطة انقلابية.

لم يسبق للمصريين كما عهدتهم من سني العيش الطويل أن وسموا منتخبهم بمنتخب المتحرشين ليتصدّر قائمة الأكثر تداولاً في مصر، لولا التراجع الذي تشهده مصر تحت حكم العسكر. 

البعض يرى أن النتائج محكومة بالبدايات عادة. ومنظومات النجاح والفشل لا تأتي إلا مجتمعة. الرياضة كالتعليم كالطب كالسياسة كالفن جميعها مرتبطة مع بعض من حيث النجاح ومن حيث الفشل. والموضوع ليس متعلقا بمدرب من هنا وآخر من هناك. ولا هي حكاية تلميع للأسماء. وإلا كيف كسب المنتخب القومي المصري البطولة الإفريقية لثلاث مرات متتالية كان فيها المعلم حسن شحاتة مدربا.

سمعت أن المعلم حسن أعيد أو سيعاد لتدريب المنتخب بعد الهزيمة في دور الـ16 الإفريقية 2019. أنا أحب هذا المدرب الكبير مذ كان لاعبا وعايشت في مصر حقبة نجاحاته في قيادة المنتخب. لكني أعتقد هذه المرة أن الإنجازات أمر صعب تحت مظلة الاستبداد والدكتاتورية حيث تضيق مساحات النجاح والتطور.  

كان من المعقول جدا أن تبقى لعبة كرة القدم في إطارها لعبة محلية وأممية جامعة للحب والسعادة المجتمعية والإنسانية ونعتقد أن خلاف ذلك يجعلنا ننظر إليها نظرتنا إلى أي شيء منفّر. عندما تتحول الرياضة وكرة القدم تحديدا إلى أداة ووسيلة سياسية لصرف أنظار الشعوب عن جوهر محنتهم ومصدر آلامهم ذلك يعني أنها أصبحت عبئا مضافا لهموم وإخفاقات شعبنا.

لا أحد يستطيع إنكار ما تمر به مصر اليوم من محن أعلى من أن تغطيها حركات التمظهر الكاذب ومحاولات تضليل الرأي العام وصرفه عن أولوياته التي تعبث بها السلطة الحاكمة التي أغرقت البلد بالغلاء وضيق العيش وكتم الرأي والإرهاب الفكري ومساحات السجون والأحكام العسكرية الجائرة ومن الطبيعي وفق ذلك الواقع أن يخرج المنتخب القومي المصري من بطولة إفريقيا من أدوارها الأولى والبطولة مقامة على أرضه.

مشكلتنا حتما أكبر من موضوع كرة القدم بعد أن أصبحت بلداننا والشعوب كرة تتقاذفها الأمم. فلا أريد أن اكتم ما يقفز إلى ذهني وأنا في سياق الكتابة. فقد خطرت ببالي حكاية الشاعر الجاهلي امرئ القيس الذي طرده أبوه الملك لانشغاله بالغزل والنساء والخمر، فلحق أمرؤ القيس بأرض اليمن، ولم يزل بها حتى قتلت بنو أسد أباه، فجاءه نعي أبيه، وهو يعاقر الخمر، ليقول مقولته الشهيرة: "ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً، لا صحو اليوم، ولا سكر غداً، اليوم خمر وغداً أمر".

فرغم جاهليته إلا أن سكرته لم تحجب عقله عن طلب ثأره وملاحقة قاتلي أبيه، أفلا يليق بنا أن نفيق من سكرتنا، ونتفرغ لمعالجة نكباتنا وهذه المحن التي تحيق بنا من كل جانب.

الرياضة للرياضة والرياضة للحياة. ولكنها ليست للمساومات السياسية وليست أداة لتضليل الرأي العام وتغييب وعي الشعوب.