بعد حياد تاريخي.. إلى أين تتجه بوصلة العلاقات الخارجية للسلطنة؟

مهدي محمد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

كما هي غريبة في محيطها الخليجي، تشكل سلطنة عُمان حالة مختلفة إقليميا، سواء في نظام حكمها أو سياستها الخارجية، التي دأبت فيها منذ سبعينيات القرن الماضي على تبني الحياد التام تجاه الأزمات والحفاظ على علاقات متوازنة بجميع الأطراف.

لكن مؤخرا طفت على السطح مجموعة من المشاهد التي خرجت عن نطاق الحياد إلى مرحلة التناقض، على نحو أثار تساؤلات بشأن إدارة مسقط لسياستها الخارجية وسط إقليم مضطرب، وإلى أي شيء تسعى من وراء ذلك؟

بين بشار ونتنياهو

أحدث إرهاصات اللغز العُماني كشفتها المحادثات التي أجراها وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي مع رئيس النظام السوري بشار الأسد في دمشق، الأحد، تناولت العلاقات الثنائية ومساعي استعادة الأمن والاستقرار في المنطقة، وفق بيان للخارجية العمانية.

زيارة بن علوي النادرة لوزير عربي إلى دمشق، هي الثانية له منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011 بعد زيارة أولى في أكتوبر/تشرين الأول 2015، وهو أيضا الوزير الخليجي الوحيد الذي زار سوريا في السنوات الثماني الأخيرة.

وتأتي الزيارة امتدادا لسياسة خارجية جعلت من سلطنة عمان الدولة الوحيدة في مجلس التعاون الخليجي التي لم تقطع علاقاتها الدبلوماسية والسياسية مع دمشق كما فعلت باقي الدول الخليجية، مع اندلاع الثورة، وذلك قبل أن تفتتح كل من الإمارات والبحرين سفارتيها في دمشق بعد إغلاقهما منذ العام 2012.

التغريد خارج السرب الخليجي والعربي بشكل عام، إلا ما ندر، ليس السمة الوحيدة التي أفرزتها سياسة مسقط الخارجية، بل امتد الأمر ليشمل كذلك نوعا من التناقض، الذي ينطوي على تفسير سلبي، خاصة عندما يمس القضية الفلسطينية التي تعتبر قضية العرب والمسلمين المركزية عبر عقود.

فقبل نحو أسبوعين قررت السلطنة فتح بعثة دبلوماسية جديدة في مدينة رام الله الفلسطينية على مستوى سفارة: "استمرارا لنهج السلطنة الداعم للشعب الفلسطيني الشقيق"، وفق بيان رسمي.

تزامن القرار مع ورشة البحرين التي بحثت الشق الاقتصادي من صفقة القرن الأمريكية الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية، وكان لافتا عدم مشاركة عُمان فيها، رغم الحضور الخليجي، لكنها أيضا لم تهاجمها كما فعلت أطراف فلسطينية وعربية أخرى.

المثير، أن هذا الحرص العماني على القضية الفلسطينية يأتي بعد أشهر من حدث شكل علامة فارقة في تاريخ التطبيع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي، عندما استقبل السلطان قابوس بن سعيد  رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مسقط، أكتوبر/تشرين الأول 2018.

الحقيقة أن زيارة نتنياهو لم تكن الأولى من نوعها لمسؤول إسرائيلي رفيع، حيث سبقه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين الذي زار مسقط عام 1994، وتلاها بعام واحد، استضافة رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، شيمون بيريز، لوزير الخارجية العماني يوسف بن علوي في القدس المحتلة بعد أيام قليلة من اغتيال رابين.

كما وقّعت إسرائيل وعُمان اتفاقا بشأن الافتتاح المتبادل لمكتب التمثيل التجاري في يناير/كانون الثاني 1996، والذي أعقبه زيارة رسمية بعد 4 أشهر من جانب بيريز إلى عمان لافتتاح "مكاتب تمثيل تجاري إسرائيل" رسميا هناك.

بعيدا عن سعي عُمان لإقامة علاقات متوازنة بجميع الأطراف لا تعادي أحدا، فإن قضية التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي لا يمكن إدخالها في السياق ذاته، فهي تصطدم مباشرة بالقضية الفلسطينية، التي لا تلبث السلطنة إلا أن تؤكد وقوفها بجانب الشعب الفلسطيني حتى استرداد حقوقه.

وفي الوقت نفسه، تقر عُمان عَبر بن علوي بحق إسرائيل في الوجود والعيش المشترك، بخلاف تصريحات ودية على غرار أن "التوراة رأت النور في الشرق الأوسط، واليهود كانوا يعيشون في هذه المنطقة من العالم".

إيران والنووي

إنطلاقا من الامتداد الخليجي لسلطنة عُمان وسياستها في هذا الإطار، يُرى أن مسألة تقاربها مع إيران بعكس معظم دول الخليج، هو المؤثر الأقوى والأبرز في تشكيل تلك السياسة التي تنعكس بالضرورة على توتر بين السلطنة وجيرانها الخليجيين.

عُمان تقدر أن مرونتها تلك في العلاقة مع الجارة إيران يمكنها من لعب أدوار توسطية لحل الأزمات الناشبة في المنطقة، إضافة إلى الموقع الجغرافي الذي ربما يجبر مسقط على ضرورة الاحتفاظ بتلك المسافة.

فموقع عُمان الجغرافي القريب من إيران عامل أساسي في التقارب، حيث تسيطر الدولتان مشتركتان على مضيق هرمز الذي يعد من أهم المعابر المائية في العالم، حيث يمر فيه أكثر من 40 بالمئة من النفط الخام بالعالم.

وتعود العلاقة العمانية الإيرانية إلى عهد الشاه عندما عمد إلى نشر قواته في محافظة ظفار بعد تمرد ماركسي ساهمت بدعمه دول أجنبية، وسعت السلطنة الى سحقه بالمساعدة الإيرانية.

ورغم ما أثارت تلك العلاقة غضبا خليجيا خاصة من السعودية والإمارات، فإنها ساعدت عُمان على لعب دور الوسيط في الملف النووي الإيراني، حيث رعت منذ 2011 مفاوضات سرية بين أمريكا وإيران التقى فيها المفاوضون في مسقط برعاية مباشرة من السلطان قابوس انتهت إلى توقيع الاتفاق في 2015.

مؤخرا، أعلن وزير الخارجية العماني، يوسف بن علوي، أن بلاده تسعى لتهدئة التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، عبر جهود من الوساطة والاتصالات المكثفة بطرفي الأزمة.

اتصالا بالعلاقة مع اليمن، رفضت السلطنة الانضمام إلى التحالف العسكري بقيادة السعودية في حرب اليمن، وقبل ذلك بنحو عامين أعلنت رفضها إنشاء تحالف خليجي وهددت بالانسحاب من دول مجلس التعاون الخليجي في حال تم تحويله إلى اتحاد.

وساهمت مواقف السلطنة من التحالف الخليجي وحرب اليمن وبعدها من أزمة حصار قطر بتعزيز شكوك دول الحصار حولها، وتعرضت لانتقاد كبيرة في الصحافة الخليجية، غير أن مسقط روجت دوما لأن مواقفها تنسجم مع سياستها الخارجية التي عرفت بالحياد الدائم.

وهكذا، بينما تتوافق عُمان وتتحالف وتعزز التعاون مع إيران، تحاول الانسلاخ من بيتها الخليجي، أو تغرد خارج السرب تحت ذريعة حرصها على علاقات متوازنة بالأطراف كافة.

وزير الشؤون الخارجية العُماني كشف في مارس/آذار الماضي ضبط بلاده خلية تجسس لدولة من الجيران لم يسمها، لكن العُمانيون لم يتركوا تصريحات الوزير تمر هكذا، وانقسموا بين من يؤكدون أن الإمارات هي الدولة المقصودة من تصريحات بن علوي، وآخرين شككوا في الأمر، ومن أبرز من تحدثوا عن الخلية الإماراتية عبر "تويتر" حساب "المختار الهنائي" الذي عرف نفسه بأنه صحفي عُماني.

اللافت أن الوزير الذي كان يتحدث خلال منتدى ثقافي عن السياسة الخارجية لعُمان، قال إن "مثل هذه الأمور تحصل بين الجيران"؛ مضيفا: "نحن نتعامل مع كل جوارنا بشيء من اللطف، الكل واحد".

قبل ذلك بنحو 8 سنوات تورطت الإمارات في محاولة تجسسية استهدفت رأس السلطة في البلاد السلطان قابوس بن سعيد، حينها أعلنت مسقط بشكل رسمي ضبط خلية تجسس إماراتية، تستهدف نظام الحكم في السلطنة.

حياد تاريخي

لكن الحقيقة، أن سياسة الحياد على طول الخط ليست بالأمر الجديد على سلطنة عُمان، لكنه متجذر في الدولة منذ اعتلاء السلطان قابوس عرش البلاد عام 1970، وتشهد على ذلك أزمات عديدة ضربت المنطقة.

فبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل 1979 كانت سلطنة عُمان الدولة العربية الوحيدة التي لم تقطع علاقتها مع مصر، دون أن يؤثر ذلك على علاقتها بالدول العربية الأخرى.

وخلال حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران عام 1980، بقيت عُمان على الحياد خلافا لدول الخليج التي ساندت نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، ورفضت استعمال أراضيها لقصف إيران.

وخلافا لمعظم الدول العربية التي قطعت العلاقات مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، عقب اندلاع الثورة عام 2011، أبقت سلطنة عُمان على العلاقات الجيدة مع النظام السوري واستقبلت وزير خارجيته وليد المعلم، ولكنها في نفس الوقت لم تتردد في استقبال المعارض خالد خوجة.

وبينما انقسمت الأنظمة العربية بين الاصطفاف لجانب دول حصار قطر في الأزمة الخليجية التي اندلعت 2017، وأخرى وقفت بجوار قطر بشكل أو بآخر، التزمت عُمان بحياد فسره كثيرون انحيازا للدوحة.

أكثر من مجرد حياد

في مقابلة مع قناة "سي. أن. أن" الأمريكية عام 2015، لخص بن علوي سياسية بلاده الخارجية بقوله: "نحن لا ننحاز لهذا الجانب أو ذاك، بل نحاول أن ننقل لكلا الطرفين ما نعتقد أنه جيد لكليهما".

تتجاوز مبادئ السياسة الخارجية لسلطنة عُمان مسألة الحياد أو النأي بالنفس عن التدخل في شؤون الآخرين، بل تمتد إلى الارتباط بمختلف الأطراف إقليميا ودوليا، فهي تتعاون مع إيران وتحافظ على علاقات جيدة معها، وفي الوقت نفسه تنخرط مع دول الخليج في إطار مجلس التعاون، كما ترتبط بالولايات المتحدة وبريطانيا على مستوى علاقات تعاونية كبيرة، خصوصا في مجالات الأمن.

ارتبطت عُمان تاريخيا ببريطانيا لفترة طويلة من الزمن، حينما كانت قوى عظمى مسيطرة في العالم، كما تعد أولى الدول التي أقامت علاقات مع الولايات المتحدة تعود إلى عام 1833 حين ارتبطا معا باتفاقية صداقة وتجارة.

ومع تراجع القوة البريطانية نتيجة التنافس الاستعماري والحروب العالمية، كانت الولايات المتحدة هي الوريثة للنفوذ البريطاني في عُمان، فبقيت العلاقات الأمريكية العُمانية متواضعة حتى تطورت بشكل كبير مع زيارة السلطان سعيد بن قابوس إلى الولايات المتحدة في 1938.

ثم كان الاهتمام المتزايد من الولايات المتحدة بالخليج بشكل عام مع ظهور النفط في المنطقة، ثم بعد ذلك استغلال الموقع الإستراتيجي لعُمان وطلب تسهيلات عسكرية خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها.

ومع الانسحاب البريطاني من منطقة الخليج في أواخر الستينات وبدايات السبعينات، تزايد التواجد والنفوذ الأمريكي في عُمان، التي سبقت دول الخليج الأخرى في توقيع اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة عام 1980 بسبب القلق من الثورة الإسلامية في إيران.

وبقيت العلاقات بين عُمان وكل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا قائمة بشكل أساسي على التعاون في الشق العسكري بعد ذلك وأصبح عنوانا للعلاقات بينهم، هذا التعاون العسكري مع أمريكا تحديدا يضمن توفير الحماية الإستراتيجية لشواطئ البلاد ومدخل الخليج ومضيق هرمز.

هذه الحماية تسمح لعُمان بالإبقاء على حياديتها دون الانخراط في سياسة المحاور الإقليمية من جهة، والسماح بهامش حركة كبير في مجال دور الوساطة بالأزمات، لدرجة أن أمريكا وبريطانيا استفادتا من هذا التوجه في مناسبات عديدة.

فقد توسطت عُمان بين بريطانيا وإيران لإطلاق سراح بعض أفراد البحرية البريطانية في 2007، كما توسطت بين الولايات المتحدة وإيران لإطلاق سراح سياح أمريكيين احتُجِزوا في إيران عامي 2010 و2011، وأخيرا التفاوض في الملف النووي الإيراني.