في أزمتها مع واشنطن.. لماذا تعاملت طهران بسياسة "التصعيد المنضبط"؟

شدوى الصلاح | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

السير على الحبل المشدود هي رياضة "بهلوانية" تعتمد على قدرة التوازن والانضباط في السير على شريط رفيع مشدود بين طرفين.

يبدو أن إيران أجادت ممارسة هذه الرياضة والسير على حبل الحرب العسكرية مع أمريكا دون الوقوع فيها، مستخدمة قدراتها "البهلونية" في التعامل مع أزمة التصعيد الأمريكي ضدها لتنفذ مخططها في هزيمة واشنطن دبلوماسياً.

إيران قابلت التصعيد الأمريكي المستمر تجاهها بمخطط "التصعيد المنضبط" وغير المباشر، مستخدمة أذرعها في المنطقة، لأنها تعي أن تصعيدها بدون سقف قد يفضي إلى حرب لا تقوى عليها، وتراهن على أن ذلك التصعيد لن يدفع أمريكا للرد بـ"ضربة عسكرية" في الوقت الراهن.

استندت إيران في تنفيذ مخططها إلى اقتراب انتخابات الرئاسة الأمريكية المقرر إجراؤها في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، والانقسام الأمريكي بشأن الحرب، كما أنها تسعى لجر واشنطن إلى طاولة المفاوضات بمكاسب تلزمها بالقبول بطلباتها.

مسلسل التصعيد الأمريكي الإيراني تزايدت وتيرته في أعقاب قرار الرئيس الأمريكي الانسحاب من الاتفاق النووي الذي يهدف إلى مراقبة أنشطة طهران النووية، مقابل تخفيف العقوبات، ومحاولة وقف صادرات إيران النفطية تماما، وتعزيز الوجود العسكري الأمريكي في الخليج ردا على ما قال إنها تهديدات إيرانية.

ووصل التصعيد الأمريكي حد فرض عقوبات على المرشد الأعلى للثورة الإيرانية الحالي علي خامنئي وتلاسن بحرب كلامية، وهدد ترامب برد مزلزل، مذكّرا بقوة ترسانته العسكرية وأن بلاده الأقوى واتهم إيران بإنفاق المال على الإرهاب، إلا أن إيران قابلت ذلك التصعيد بتصعيد منضبط دون أن تنجر في حرب.

رسائل طهران

اتجهت الأزمة إلى المزيد من التصعيد، بعد أن أسقطت إيران طائرة أمريكية مسيرة صباح الخميس 20 يونيو/حزيران الجاري، في إهانة واضحة وضربة للكرامة العسكرية الأمريكية، وتجاهل لتحذير الرئيس الأمريكي الذي أطلقه في مايو/آيار الماضي، بأن بلاده سترد بـ"قوة عظيمة" إذا ما تعرضت بلاده لأضرار. 

ووجهت إيران رسالة احتجاج "رسمية" إلى أمريكا أرسلتها عبر السفير السويسري في طهران لانقطاع العلاقات الدبلوماسية بينهما، أكدت فيها أن واشنطن ستتحمل عواقب هذه التصرفات الاستفزازية.

تلك الخطوة من جانب طهران حملت رسالتين للجانب الأمريكي الأولى بأن تهديدات ترامب ليس لها قيمة ما دامت تحركاته تمس أمن إيران وتنتهك مجالها الجوي، والثانية أن عناصر المفاجأة الأمريكية مكشوفة أمام القوات العسكرية الإيرانية، وأنها مستعدة للردع في أي وقت. 

تلك الدلالات باتت واضحة للجانب الأمريكي، وربما دفعت الرئيس الأمريكي للتقليل من شأنها والإشارة إلى أن إيران ربما أسقطتها بالخطأ، شاكراً إيران لأنها لم تسقط الطائرة الأمريكية التي كانت تحمل 35 جندياً أمريكيا بالتزامن مع إسقاط الطائرة التجسسية.

وأرفق ترامب ذلك الثناء بالإعلان عن أن الخيار العسكري تجاه إيران لا يزال مطروحاً وأن بلاده ستفرض حزمة جديدة من العقوبات على طهران لمنعها من الحصول على السلاح النووي.

لكن ترامب سرعان ما تراجع عن تنفيذ تهديده بشأن الخيار العسكري، ففي اليوم التالي لإسقاط إيران للطائرة الأمريكية، تراجع الرئيس الأمريكي عن ضربة كان سيوجهها فجر الجمعة 21 يونيو/حزيران الجاري، لمنشآت ومواقع إيرانية مختلفة، كرد على إسقاط الطائرة، لأنه رأى أن الضربة لم تكن متناسبة مع إسقاط طائرة مراقبة أمريكية مسيّرة غير مأهولة، بحسب قوله.

إلا أن الروايات تضاربت حول السبب الحقيقي وراء تراجع ترامب، إذ أرجع مراقبون القرار إلى تخوف ترامب من الخسارة البشرية المحتملة، أو حذره الشديد من الدخول في حرب مدمرة قد تتسع رقعتها في المنطقة، واعترافه الضمني بالقوة الدفاعية الإيرانية.

وأشاروا إلى أنها خطوة عقلانية من جانب ترامب لأن تسببه في أي مخاطر عسكرية مرتفعة الكلفة المادية والبشرية قد يكون سببا في عدم انتخابه، وهو معاكس لما يسعى له ترامب الذي يسوق نفسه كرئيس قادر على الوصول ببلاده لدرجة كبيرة من النمو الاقتصادي.

ترامب أطلق في 18 يونيو/حزيران الجاري، رسميًا حملته لإعادة انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة لعام 2020 حيث احتشد نحو 20 ألفًا من مناصريه، ويراهن على نتائج الاقتصاد الأمريكي في إقناع مواطنيه للتصويت له في الانتخابات المقبلة.

كشف التجسس

لكن يبقى الأمر الأكثر غرابة والذي يعيدنا إلى فرضية المؤامرة وأن ما يحدث بين أمريكا وإيران هي لعبة متفق عليها بينهما، هي لماذا وجهت أمريكا بالأساس طائرة مسيرة نحو إيران رغم حصولها على معلومات استخباراتية منذ الشهر الماضي، تفيد بوضع إيران صواريخ على قوارب صغيرة في الخليج؟

وفي ظل الحديث الأمريكي الدائم عن وصول معلومات استخباراتية لها بشأن تحركات إيران، كشفت طهران عن شبكة تجسس إلكتروني أمريكية كبيرة وأعلنت تفكيكها، بحسب ما ذكره مسؤول أمني إيراني في 17 يونيو/حزيران الجاري.

ونقلت هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية عن الأمين العام لمجلس الأمن القومي الأعلى علي شمخاني قوله إنه تم القبض على عدد من عملاء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي.آي.إيه) بفضل معلومات مخابرات تبادلتها إيران مع حلفائها.

وتبين أن المعتقلين كانوا يجمعون المعلومات الاستخباراتية في مجالات الصناعة والأنشطة العسكرية والنووية والإنترنت والاقتصاد.

رفض الحرب

ربما تكون التحركات الإيرانية ضمن مخطط "التصعيد المنضبط" الذي تتبعه ضد أمريكا مع الجاهزية لأي تصعيد عسكري محتمل، بالرغم من قناعتها أن تهديدات ترامب ضدها لن تصل حد الدخول في حرب مباشرة.

وهو ما أعلنه الرئيس الأمريكي وإدارته مراراً، آخرها بعد إسقاط الطائرة، قائلا في مقابلة مع محطة إن.بي.سي نيوز الإخبارية: "لا أسعى لحرب، وإذا حدث فستكون إبادة لم تشهدها من قبل قط. لكنني لا أتطلع للقيام بذلك".

كما سبق أن أعلن في مقابلة مع قناة فوكس الإخبارية الأحد 19 مايو/آيار الماضي، "أنا لست شخصا يريد خوض الحرب لأن الحرب تؤذي الاقتصاد وتقتل الناس وهو الأمر الأكثر أهمية".

كما أكد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أثناء الحشد العسكري في منطقة الخليج، أن واشنطن لا تريد حربا مع طهران. 

إيران تعاملت مع تلك التصريحات وغيرها بالتأكيد على أنها أيضا لا تسعى إلى الحرب والتأكيد على أن المواجهة ليست عسكرية، وأن الطرفين لا يسعيان إلى حرب، مع الإشارة إلى أن أمريكا تعي أن الحرب ليست في مصلحتها، حسب ما أكده المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي.

وأضاف في كلمة له لمسؤولين حكومين، الشهر الماضي، أن إيران لن تتفاوض مع الولايات المتحدة بشأن اتفاق نووي جديد. 

أما وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، فقال: "أعتقد أن ترامب لا يسعى للحرب مع إيران وفي حملته الانتخابية أعلن معارضة دخول بلاده في حرب أخرى".

واتهم ظريف بعض الأطراف بالسعي لتغيير النظام في بلاده، وجر الولايات المتحدة إلى حرب مع إيران، مشيرا بإصبع الاتهام بذلك إلى السعودية وإسرائيل والإمارات، وجون بولتون مستشار شؤون الأمن القومي في البيت الأبيض.

انقسام أمريكي

وفي الوقت الذي يشير فيه ظريف بأصابع الإتهام إلى دفع مسؤولين بإدارة ترامب إلى الحرب مع إيران، يتكشف الانقسام الأمريكي بشأن الحرب، فبينما يتجنب ترامب الحرب، تدفع أطراف أخرى لها بقوة، وهو ما يحاول الرئيس الأمريكي نفيه مع الإشارة إلى أنها وجهات نظر مختلفة فقط.

صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، قالت إن ترامب أخبر القائم بأعمال وزير الدفاع، باتريك شاناهان، بأنه لا يريد الدخول في حرب مع إيران، وذلك نقلاً عن مصادر عديدة في الإدارة الأمريكية.

وتعتبر رغبة ترامب رسالة إلى مساعديه الصقور يخبرهم فيها بألا تتحول حملة الضغوط الأمريكية الشديدة الممارسة على إيران إلى صراع عسكري مفتوح.

ويسعى ترامب إلى التخفيف من أثر التقارير التي تشير إلى أن اثنين من مساعديه، مستشار الأمن القومي، جون بولتون، ووزير الخارجية مايك بومبيو، يسعون بجدية للبدء بمعركة مع إيران، وأنهما يعملان على عجل للدخول بمواجهة عسكرية مع إيران بدون تنسيق معه.

ذلك الاختلاف لم يكن على مستوى الإدارة الأمريكية فقط، وإنما طال (الكونغرس)، وهو ما تعيه إيران جيدا، وتضعه في اعتبارها وتعتمد عليه في تصعيدها المنضبط ضد أمريكا.

رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، أكدت أن البيت الأبيض لا يملك تفويضا من الكونجرس لشن حرب على إيران. وقالت في مؤتمر صحفي عقد في 17 مايو/آيار الماضي إن الدستور ينص على أن إعلان الحرب هو مسؤولية الكونجرس، وآمل في أن يعترف مستشارو الرئيس بأنه لا تفويض لديهم.

ويشهد المجلس حالة من الانقسام بشأن الحرب خاصة بعد إسقاط إيران للطائرة الأمريكية واتهامها بمهاجمة ناقلات النفط في مياه الخليج، إذ قال عدد من كبار الجمهوريين بمجلس النواب الأمريكي الخميس 20 يونيو/حزيران الجاري: "على الولايات المتحدة أن ترد ردا محسوبا على إيران".

في المقابل، يخشى الديمقراطيون في مجلس الشيوخ من إمكانية استدراج الرئيس الأمريكي وإدارته إلى حرب مع إيران، مطالبين بالحصول على موافقة الكونغرس قبل تمويل أي نزاع مع إيران.

مزيد من العقوبات

تلك التحذيرات دفعت الرئيس الأمريكي إلى محاولة ردع إيران باللغة التي يجيدها وهي "لغة المال" معلناً فرض عقوبات مالية على المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، ووزير الخارجية محمد جواد ظريف و8 من قادة الحرس الثوري، قائلاً إن فرض هذه العقوبات يأتي ردا على إسقاط الطائرة الأمريكية المسيرة و"أشياء أخرى".

وأوضح في تصريحات صحفية بالبيت الأبيض الإثنين 24 يونيو/حزيران الجاري، أن هذه العقوبات ستجمد مليارات الدولارات من الأموال الإيرانية، وستمنع خامنئي من الوصول إلى موارد مالية، مضيفا أن المرشد الأعلى مسؤول عما سماه "سلوك إيران العدائي".

وقال أيضا أثناء توقيعه الأمر بالمكتب البيضاوي: "سنواصل زيادة الضغوط على طهران.. لا يمكن لإيران امتلاك سلاح نووي مطلقا" مضيفا: "لا نطلب النزاع" مؤكدا أنه استنادا إلى استجابة إيران يمكن إنهاء العقوبات غدا، أو "يمكن أن تستمر سنوات مقبلة".

وتستهدف العقوبات قطاعات النفط وقطاع البتروكيماويات والتعاملات المالية والحرس الثوري، في خطوة لإجبار طهران على العودة الى طاولة المفاوضات لبحث ملفها النووي ودورها في الشرق الأوسط.

والهدف من هذه الإجراءات العقابية منع المبادلات التجارية والمالية مع إيران، لتركيعها اقتصادياً، إلا أن إيران قللت من أهمية هذه العقوبات واعتبرتها "دليل يأس وعجز وغير مجدية".

فيما أعلنت الخارجية الإيرانية أن العقوبات الأمريكية "تغلق طريق الدبلوماسية للأبد مع الإدارة الأمريكية العاجزة"، حسب ما أكده عباس موسوي المتحدث باسم وزارة الخارجية.

 

بينما قال الرئيس الإيراني حسن روحاني، وفقاً لما أورده التلفزيون الإيراني الثلاثاء 25 يونيو/حزيران الجاري، إن العقوبات الأمريكية تظهر أنهم (الإدارة الأمريكية) فقدوا عقلهم وصوابهم، معللاً بأن "المرشد لا يملك سوى حسينية وبيتا صغيرا وليست له أرصدة في الخارج كزعماء بقية الدول".

وأضاف أن هذه العقوبات "مؤشر على أن أمريكا تسلك سلوكاً غير عادي"، مؤكداً أن التصرفات الأمريكية الأخيرة "دليل تخبط ويأس لدى الفريق الحاكم في البيت الأبيض".

لا مفاوضات

وفي تجديد طهران لرفض التفاوض تحت وطأة العقوبات الأمريكية التي استهدفت أكبر شخصية سياسية ودينية ورأس الدبلوماسية في إيران، اعتبر "روحاني" العقوبات على وزير خارجيته، "تعني أن الإدارة الأمريكية تكذب عندما تقول إنها تريد التفاوض". 

واستطرد قائلاً: "إننا كنا أهل التفاوض ووصلنا إلى النتيجة، لكنكم نقضتموها"، في إشارة إلى الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، مضيفاً أن "ظريف هو الذي تفاوض مع (وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري)، 17 يوماً متواصلة".

وبدوره، قال المرشد الإيراني "خامنئي"، إن دعوة الولايات المتحدة بلاده للتفاوض مجرد "خدعة"، مشيراً إلى أن أمريكا عندما فشلت من الوصول إلى نتيجة باستخدام الضغوط، بدأت في اللجوء إلى وسائل أخرى.

واعتبر في كلمة له أمام منسوبي القضاء بطهران الأربعاء 26 يونيو/حزيران أن الهدف من الاقتراح الأمريكي بالتفاوض مع إيران هو نزع سلاحها، والقضاء على تأثيرها في المنطقة، لكي تصبح مضطرة لتنفيذ كل ما يطلب منها.

وقال "خامنئي" إنه في حال تجاوب إيران مع مقترح التفاوض سيتضرر الشعب الإيراني كثيرا، وفي حال لم تتجاوب سيستمر مناخ الدعاية المضادة والضغوط.

تهديدات إيرانية

ومنذ تشديد الولايات المتحدة العقوبات على طهران، عمد قادة إيران لاستخدام نبرة التحدي والتهديد في تصريحاتهم المناهضة للسياسات الأمريكية، إذ حذر وزير الخارجية الإيراني من أن "الحرب الاقتصادية" التي تشنها أمريكا على بلاده قد تنعكس سلبا على "أمن" واشنطن وحلفائها.

كما حذر رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية محمد باقري من أن بلاده يمكن أن تغلق مضيق هرمز الإستراتيجي إذا واجهت مزيدا من "ممارسات الأعداء". 

وحين اتجهت واشنطن إلى تكثيف الوجود العسكري في مياه الخليج بزعم وصول معلومات استخباراتية لها بتحركات إيرانية ضدها، هدد مسؤول عسكري إيراني بإغراق السفن الحربية الأمريكية في الخليج باستخدام "أسلحة سرية"، لم يكشف عن تفاصيلها.

واعتبرت إيران أن إسقاط الطائرة بمثابة رد صارم على أمريكا، معلنة استعدادها لتكراره، معربة عن نيتها اتخاذ إجراءات قانونية ضد الولايات المتحدة عبر مجلس الأمن الدولي.

واعتبر قائد القوات الجوية في الحرس الثوري الإيراني أمير علي حاجي زادة، أن القوات الإيرانية ستقوم بمهامها إذا اخترقت أي جهة أجواء بلاده، قائلاً: "لا الولايات المتحدة ولا أي دولة أخرى تستطيع انتهاك سيادة الأراضي الإيرانية".


المصادر