الحكم العسكري.. أداة الاستبداد

أيمن خالد | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

في الوقت الذي تتسابق فيه بلدان العالم المتحضر إلى توظيف كل طاقاتها وإمكاناتها لأجل تمتين عناصر قوتها الثابتة، مستعينة بعوامل الجغرافية والتاريخ والسكان والثقافة، إضافة إلى توظيف عناصر قوتها المتغيرة من ناحية الاقتصاد والتكنولوجيا والقدرة العسكرية والتخطيط الإستراتيجي المبني على إرادة سياسية حقيقية. تبدو مؤسسة الحكم العسكري (أداة الاستبداد) العربي في أشد مراحل قسوتها وهي تضرب عوامل نهضة وقوة الأمة المفترضة.. واحداً واحدا. 

عقائد الجيوش العربية تأخذ نسقا متشابها فعلا، بالنظر إلى أثر مرجعية وأصول تأسيسها وأهدافها. ويبدو أنها جميعا تلعب خارج نطاق مساحاتها الجغرافية الطبيعية وواجباتها المفترضة في حماية حدود وأمن البلدان تجاه ما يهددها من عدوانات خارجية، لتتجه إلى خوض غمار عالم السياسة والاقتصاد والاجتماع وفضاءات حكم الشعوب قسرا.

البعض يرى أن هذه الجيوش مذ أنشأت قواعدها إمبراطوريات الاحتلال بعد الحربين العالميتين، فقد ولدت خارج مكونها الحضاري.

كان العراقيون ولا زالوا يحتفلون في السادس من كانون الثاني من كل سنة بذكرى تأسيس الجيش. تلك الذكرى التي منحتهم فرصتها الإمبراطورية البريطانية عام 1921من خلال أول نواة لهذا الجيش الذي عاشت عليه الجماهير حلما للقوة القابلة للتوظيف على مدى الأيام. لعل ذلك الحلم يتحقق عن قوة قادرة على حماية البلد وإعادة توازنه بين بلدان العالم الجديد، ومثله الجيوش العربية الأخرى وطرق تأسيسها وإنشائها.

ليس ذلك من باب الطعن ولا هو تنكر لأواح شهداء جيوشنا التي خاضت معارك غير متكافئة مع أعداء لها في عدة جبهات متفرقة على حدود هذه الأمة، بقدر ما هو تفسير لواقع حال يجب الوقوف عنده مع تساؤل مفاده؛ هل شهدت أمتنا حالة استقلال حقيقي منذ الحربين العالميتين؟ وكيف كان أداء العسكرية العربية وما نشاهده اليوم على أرض الواقع من حالة الانفصام بينها وبين الشعوب؟ 

عندما يتكلم المكون الحضاري

المفكر الكبير مالك بن نبي، وهو من فسر الظاهرة القرآنية على قاعدة أن تكرار الشيء في ظروف معينة يدل على صحته، ذلك الأمر الذي يدعم حقيقة وصف ذلك الشيء بالظاهرة التي عرّفها بأنها: "الحدث الذي يتكرر في الظروف نفسها، مع النتائج نفسها". يقول المفكر العربي "مالك بن نبي" في إجابة قد لا تجد لها مثيلا ردا على سؤال طرح عليه بعد أيام من النكسة.. هو!! كيف حدثت هزيمة عام 1967؟

يقول "بن نبي" كلاما يصلح الاستئناس به في كل وقت: "لقد كانت الجيوش العربية تحيط بالكيان الصهيوني من كل جهاته فلم تكن هناك مشكلة في قوة ولا مدد ولا حشد وكانت الجيوش العربية تسد عيون الشمس". ولكن عندما دارت رحى المعركة وتكلم المكون الحضاري، وهو العامل والفاعل في كل مكون إنساني، أبت تلك الآلة العسكرية إلا أن تخدم الحضارة التي صنعتها وأبدعتها وليس الأموال التي اقتنتها وامتلكتها.

نعم، فظاهرة الهزائم ما زالت تتكرر في الظروف نفسها وعلى الأرض نفسها ومع النتائج نفسها. ولا زالت ترليونات الدولارات العربية تذهب لشراء أسلحة تتكلم بلغة المكون الحضاري لأعدائنا، ومازلنا نكتب القصائد والأهازيج لجيوشنا وأسلحتنا التي تتكلم بلغة المكون الحضاري الذي صنع تلك الأسلحة وأسس تلك الجيوش.

يقولون (حوادث التاريخ تفسر بعضها بعضا)، فمن لديه شك في الموضوع ينظر إلى الجيش العراقي الحالي الذي أسسه الاحتلال الأمريكي بعد عام ٢٠٠٣ ودربه على العقيدة الأمريكية.

بعد 17 عاما؛ يقول بول بريمر الحاكم المدني للعراق بعد الاحتلال: إن رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي رجع من لقاء له في أمريكا عام 2014 وأخفق في قيادة تشكيلات الجيش العراقي الذي أسسناه ودربناه. ولهذا مني بهزيمة أمام داعش. حتى عدنا، والقول "لبريمر"، وطردنا داعش وأعدنا تنظيم الجيش العراقي. ذلك يفسر حكاية تأسيس الجيوش بعد حقب الاحتلال.

لا تختلف كثيرا طبيعة السلوك بين الجيوش العربية سواء الذي أسست قبل مئة سنة في أعقاب الاحتلالات القديمة، وبين التي أسست بعد موجة الاحتلالات الأمريكية لبعض الدول، وإلا بماذا تفسر سلوكيات ما يسمى بالجيش العربي السوري وهو ينتهك حرمات الأرض والبشر تجاه مواطني البلد؟ وبماذا تفسر خضوع هذا الجيش للأوامر الروسية والإيرانية؟ ربما فقط حالة التوصيف الأممي للاحتلال الأمريكي للعراق دون غيره. 

مثله كذلك العسكر المصري الذي لعب الدور الشنيع بسحق إرادة الشعب والاستيلاء على السلطة وجعل أعزة أهلها أذلة، وبدل أن يكون الحامي للحدود أصبح حاكما لإرادة الشعب متسلطا عليها سياسيا واقتصاديا. أتذكر لحظة تعجبي عام ٢٠٠٥ عندما بدأت مشواري الطويل في مصر حيث ركن صاحب السيارة للتزود بالوقود وقال: (البنزيمة دي كويسة، أصلها بتاعة الجيش).. بتاعة الجيش؟ 

تساءلت مع نفسي!!

وبعدها بأيام وعلى جادة أحد الطرق عرفت أن رسوم استخدام هذا الطريق تعود إلى الجيش أيضا ومثلها بعض الأسواق والمعامل، إذن الجيش في قلب السياسة وفي روح الاقتصاد وفي كبد التعليم.. إلى آخر الحكاية.

ربما ما يدفع للكتابة في هذا الموضوع هو جرح الحريات ومآسي ملفات الظلم التي أتت على (مدنية) هذه الأمة التي اختزلت جغرافيتها وتاريخها وثقافتها ضمن زاوية الاستبداد العسكري الأسود. 

ليس من السهل اليوم قراءة ملف بمعزل عن ملف، إذ الأمور متداخلة قسرا بين أحداث المنطقة، ويجمعها الهّم الأكبر وهو استحكام الاستبداد الذي يمثل اليوم العامل الأكبر في التأخر العربي، والدافع الأخطر نحو متاهات التناحر والقطيعة والهزيمة.

الاستبداد العربي بقيادة مؤسسات العسكر يمثل أعلى مراتب نفي الشعوب واضطهادها، الاستبداد وحكم العسكر الطريق الأقصر والأسرع للوصول الى حالة الجمود بجميع صوره، جمود الفكر، جمود الإبداع والإنتاج.
حكم العسكر يعني أنك في دوامة القلق والخوف.
حكم العسكر يعني أنك ورقة المساومة الأولى. 
حكم العسكر يعني أنك في ذيل قائمة الأمم.