"دولة داخل الدولة".. هكذا أصبحت الكنيسة المصرية في عهد تواضروس

محمد السهيلي | منذ عام واحد

12

طباعة

مشاركة

عقد كامل مر على تنصيب تواضروس الثانى (70 عاما)، بابا على الإسكندرية، وبطريركا للكرازة المرقسية والكنيسة القبطية الأرثوذكسية، في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012.

وفي ذلك اليوم، خلف تواضروس الثاني، البابا شنودة الثالث، في رئاسة "الكنيسة القبطية الأرثوذكسية"، (الأكثر أتباعا في مصر)، في فترة شهدت كثيرا من التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بمصر ذات الأغلبية المسلمة.

واحتفلت الكنيسة الأرثوذكسية بالعيد العاشر لجلوس تواضروس على كرسي القديس مارمرقس، في 18 نوفمبر 2022، بكنيسة التجلي بوادي النطرون (غرب البلاد)، بمشاركة 115 عضوا بالمجمع المقدس.

دور بارز 

ذلك العقد حقق فيه المسيحيون مكاسب كثيرة، يعد أهمها سماح رئيس النظام عبد الفتاح السيسي ببناء الكنائس وتقنين وضع المئات منها، وتعيين عديد من الوزراء المحافظين المسيحيين، وتغيير بعض القوانين وإقرار أخرى جديدة نالت قبولهم.

في المقابل، أيد المسيحيون تتقدمهم الكنيسة الأرثوذكسية انقلاب السيسي، على أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيا الراحل محمد مرسي، في 3 يوليو/ تموز 2013.

وهو الدعم والتأييد القائم حتى اليوم لسياسات نظام السيسي، رغم غضب الكثير من المصريين من تلك السياسيات التي أفقرت المصريين.

وفي المشهد الشهير لإعلان قائد الجيش عبد الفتاح السيسي، عزل مرسي، ظهر تواضروس الثاني مساندا له مع شخصيات ليبرالية وإسلامية.

وقبلها شارك المسيحيون بكثافة في تظاهرات 30 يونيو/ حزيران 2013، المدعومة من الجيش ضد الرئيس الراحل.

منذ ذلك الحين حظي السيسي بتأييد المسيحيين، حتى وصوله للحكم منتصف 2014، بعد انتخابات صورية وفق مراقبين، ثم قرروا دعمه مرة أخرى في انتخابات رئاسية هشة عام 2018، فاز فيها السيسي بنسبة 97 بالمئة في نتيجة تماثل سابقتها.

ليتواصل الدعم المسيحي للسيسي في أبريل/ نيسان 2019، بالتعديلات الدستورية التي زادت مدته الرئاسية عامين حتى 2024، ومنحته فرصة لحكم مصر لفترة رئاسية ثالثة حتى عام 2030.

منذ اللحظة الأولى لانقلاب السيسي أعلن دعمه المسيحيين، وتسهيل إجراءات بناء الكنائس، وشاركهم بمختلف المناسبات الدينية، وبعض الأزمات التي طالتهم مثل حريق بعض الكنائس.

حضر السيسي 8 قداسات لعيد الميلاد، بينها 4 بالكنيسة الأرثوذكسية بوسط القاهرة، منذ 2015، وحتى 2018، و4 أخرى بـ"كاتدرائية ميلاد المسيح" بالعاصمة الإدارية الجديدة، في تقليد لم يسبقه إليه رئيس مصري.

السيسي، افتتح "كاتدرائية ميلاد المسيح"، مطلع 2019، التي بناها بمساحة 63 ألف مترمربع وتستوعب 8200 فرد، وكان آخر حضور له بها بقداس عيد الميلاد 6 يناير/ كانون الثاني 2022.

وفي خطوة لاقت إشادة المسيحيين صدق البرلمان المصري على قانون "دور العبادة" الجديد، في أغسطس/ آب 2016، والذي قنن أوضاع 1958 كنيسة ومبنى كنسية وخدمات مساعدة جرى بناؤها دون تصاريح على مدار عقود سابقة، وفقا لتقرير مجلس الوزراء المصري، يناير/ كانون الثاني 2021.

كما جرى إنشاء 74 كنيسة بالمدن الجديدة خلال الفترة من يوليو/ تموز 2014 حتى ديسمبر/ كانون الأول 2020.

ومع تعيين وزراء مسيحيين بكل حكوماته عين السيسي، في أغسطس/ آب 2018، محافظين مسيحيين بدمياط والدقهلية من محافظات دلتا مصر الـ27.

بينهما المحافظة منال عوض ميخائيل، التي تعد ثاني امرأة على الإطلاق بالبلاد وأول مسيحية بهذا المنصب الذي ما زالت تشغله.

طفرة ملحوظة

وخرق السيسي بعض الأعراف القضائية ليعين أول مسيحي بمنصب رئيس أعلى محكمة بالبلاد، رغم أقدمية قضاة آخرين وأحقيتهم بالمنصب.

وفي فبراير/ شباط 2022، عين السيسي، القاضي بولس فهمي رئيسا للمحكمة العليا (تقرر دستورية القوانين) ليصبح أول مسيحي يترأس المحكمة منذ إنشائها عام 1969.

أيضا، شهد تمثيل المسيحيين بالمجالس النيابية زيادة غير مسبوقة، حيث وصل عدد نواب البرلمان المسيحيين عام 2021 إلى 31 نائبا.

وأظهر تقرير مجلس الوزراء المذكور سابقا، أنه لأول مرة بتاريخ مجلس الشيوخ يصل عدد المقاعد المسيحية 24 مقعدا في 2020.

الاهتمام بترميم الآثار المسيحية، نال الكثير من اهتمام السيسي، فمنذ العام 2018 يجري تنفيذ مشروع مسار العائلة المقدسة، بقيمة 448 مليون جنيه بجانب 41 مليون جنيه من وزارة الآثار.

حتى الأحداث المؤلمة التي مر بها المسيحون، كان للسيسي يد حانية وسريعة، ففي 14 أغسطس/ آب 2022، اندلع حريق بكنيسة بمنطقة إمبابة بالجيزة أدى لمقتل 41 شخصا، ليأمر السيسي الجيش بإعادة بناء الكنيسة، وتعويض ذوي الضحايا.

ووفق تقرير لمجلس الوزراء المصري يجري إعداد قانون الأحوال الشخصية الموحد للمسيحيين (الأرثوذكس، والإنجيليين، والكاثوليك).

في مصر ثلاث مجموعات مسيحية، هم طائفة الأرثوذكس التابعون للكنيسة الأرثوذكسية بالإسكندرية، وطائفتا الإنجيليين، والكاثوليك، وهما أقل تمثيلا من الأرثوذكس.

وعلى الرغم من التباين الكبير في عدد المسيحيين والمسلمين في مصر، إلا أن السيسي، وفي مارس/ آذار 2022، ألزم وزارة الإسكان ببناء كنيسة مع كل مسجد يجري بناؤه بالمدن الجديدة، حتى لو كان عدد المسيحيين 150 فقط.

وهناك تناقض واضح بين ما تعلنه الكنيسة عن عدد المسيحيين وبين التصريحات الرسمية الحكومية.

البابا تواضروس، وفي حوار مع قناة "تن" (Ten) الفضائية عام 2018، قال إن عدد المسيحيين 15 مليونا، بنحو 15 بالمئة من السكان.

لكن الجهاز المركزي للمحاسبات قال إنهم نحو 5.7 بالمئة من المصريين، وفقا لإحصاء عام 1986، والذي توقف من بعده إحصاء خانة الديانة بالتعداد السكاني وفقا لتعليمات الأمم المتحدة. 

وبرغم ما حققه السيسي للمسيحيين، إلا أنه وفقا لتقرير وزارة الخارجية الأميركية لعام 2020، حول الحرية الدينية الدولية، أكد "المسيحيون بأنهم ممثلون تمثيلا ناقصا بالجيش والأجهزة الأمنية". 

ولكن، ومع تأزم الأوضاع الاقتصادية في مصر، والتي تفاقمت بشدة خلال 2022، وسط توجهات السيسي نحو الاقتراض من الخارج لإنشاء مشروعات إنشائية مثل العاصمة الإدارية الجديدة، وعجز حكومته عن توفير السلع وزيادة أسعار جميع السلع، بدا من المشهد المسيحي بعض الانتقادات للسيسي.

القدس والسياسة

ومع ما تحقق للأقباط من مكاسب في عهد تواضروس الثاني، إلا أن هناك من يأخذون عليه مخالفته نهج سلفه البابا شنودة الثالث، بالكثير من المواقف، وبينها السماح للمسيحيين بزيارة القدس، والانخراط في السياسة.

تواضروس، وفي زيارة نادرة ذهب للقدس في نوفمبر 2015، وهي الزيارة التي كانت إيذانا لأتباع الكنيسة بإنهاء مقاطعة زيارة المدينة الفلسطينية المحتلة، ليجري بعدها تنظيم رحلات جماعية للمسيحيين.

وإثر حملات التطبيع العربي من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، في 2020، أعلن تواضروس أنه لم يعد هناك مبرر لمنع زيارة المسيحيين للقدس.

وفي دراسة نشرها الباحث المصري، ياسر الغرباوي، فبراير/ شباط 2017، أشار لانخراط الكنيسة المصرية بالعمل السياسي، ولفت إلى اشتباكها ونخب مسيحية بالصراع السياسي عام 2013، بدعم السيسي ضد الإخوان المسلمين والحركات المعارضة للانقلاب.

الكاتب، لفت إلى دعوة البابا، عقب انقلاب يوليو 2013، المسيحيين بمقال بجريدة "الأهرام" للتصويت بـ"نعم" على الدستور الجديد، ثم قوله لاحقا لقناة "التحرير"، إنه "لا مجال للحديث عن حقوق الإنسان في ظل الإرهاب في مصر". 

لكن، ومع مرور عقد كامل على ترسيم البابا تواضروس، تثار عدة تساؤلات بينها: "إلى أين ذهب بمسيحيي مصر؟"، و"هل سعى لتحقيق مكاسب لشعبه دون الاهتمام بمصير باقي المصريين مع نظام تكرهه الأغلبية؟"، و"لماذا خالف نهج البابا شنودة بمقاطعة الكيان الإسرائيلي؟". 

متاجر بالدين

وفي تعليقه، قال الكاتب والباحث المصري خالد الأصور، إن "البابا تواضروس، الوجه الآخر، لوزير الأوقاف مختار جمعة، المتاجر بالدين خدمة للسلطة".

في حديثه لـ"الاستقلال"، أضاف: "إذا كان جمعة، عذره، وهو أقبح من ذنب، لاستناده أن الإسلام بطبيعته يشتبك مع الحياة، فإن تواضروس لا عذر له لأن المسيحية تقول: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله)".

الأصور، أشار إلى أحدث تصريحات تواضروس، التي عدها "مسيئة للدين"، زعمه أن "الحياة تتحسن بمصر ساعة بعد ساعة، وذلك حتى على عكس ما تقر به الحكومة بأن الأوضاع تسوء، مع تبريرها".

وتساءل: "هل أجرى البابا استفتاء بين عموم المصريين ليصل لهذه الوصلة النفاقية؟"، متابعا: "أدعو نيافته لإجراء استفتاء سري بين الحاضرين لعظته بالكنيسة، ليعرف إن كانت أحوالهم تتحسن أم لا؟".

ولفت إلى أن "الشعب بمسلميه ومسيحييه يعلم جيدا نفاق تواضروس للسلطة، ومتاجرته بالدين".

وألمح إلى أنه "نال بهذا الانحياز الفج مكاسب وتيسيرات غير مسبوقة لبناء الكنائس وترخيص المخالف منها، فضلا عن تمييز لاحظه الجميع أثناء أزمة (كورونا) بإقامة القداسات وعظات الأحد، بل الأفراح الحاشدة بالكنائس والأديرة، كما حدث في دير العذراء بأسيوط".

وأكد أنه في المقابل، "جرى تضييق شديد على المساجد ولا سيما بصلاة الجمعة"، لافتا إلى ما وصفه بالتصريح غير الموفق، والذي قال فيه تواضروس: (الدولة لم تفرض علينا غلق الكنائس)".

 وعن خروج البابا على إجماع المصريين جميعا، مسلمين ومسيحيين، كما كان بعهد البابا شنودة، بعدم زيارة المسيحيين للقدس إلا بعد تحريرها من الكيان الصهيوني الغاصب، قال الأصور، إنه "لم يكتف بالسماح لرعايا الكنيسة بالزيارة، بل قام بزيارة القدس عام 2015".

حزب سياسي

وفي رؤيته، قال مدير المعهد الدولي للعلوم السياسية والإستراتيجية، الدكتور ممدوح المنير: "بجملة موجزة: البابا تواضروس حول الكنيسة من مؤسسة دينية روحية إلى حزب سياسي يملك نفوذا هائلا على أعضائه بالدنيا والآخرة، كونه من يعطي صكوك الغفران ويملك أن يُدخل الجنة أو النار".

المنير، في حديثه، لـ"الاستقلال"، أضاف: "ليست مشكلة لدي في ذلك، فهم أحرار فيما يعتقدون؛ ولكن يصبح الأمر كارثيا عندما يصبح الأقباط مطالببين بالانصياع لمطالب تواضروس السياسية، حتى لا ينزع عنهم رضى الكنيسة وغفرانها".

ورأى أن "توصيف الحزب السياسي، ليس مبالغة، فقد كتبت دراسة مستفيضة حول الموضوع نشرت بأحد المراكز البحثية في 10 أجزاء عن التحول بالكنيسة القبطية بعهد البابا تواضروس، بالأدلة، وهي كثيرة".

وأكد أن "الرجل منذ بداية عهده يمارس دورا سياسيا حزبيا، وإن لم يقلها صراحة، واعتمد عليه السيسي بالترويج لانقلابه خارجيا، إذ رصدتُ أن عدد زياراته الخارجية بالسنوات الأولى لهذا الغرض تفوق زيارات الدبلوماسيين بهذا الجانب".

وتابع: "بل حول الرجل فعليا الكنيسة لدولة داخل الدولة، وأصبح بمصر مؤسستان لا تخضعان لأي سلطة رقابية، وتملكان نفوذا هائلا سياسيا واقتصاديا: الجيش والكنيسة، وكلاهما له نشاط اقتصادي دون رسوم وضرائب ونحو ذلك".

الباحث المصري، يعتقد أن "المحزن في الأمر، أن الدور السياسي بغطاء ديني قد يكون له تفسير براجماتي باستغلال الموقف للحصول على مكاسب كنسية؛ لكنه حتى بالنسبة للمسيحيين فقد سبب شرخا أخلاقيا هائلا بعلاقة المسيحي وكنيسته".

وأوضح أن "السيسي رجل لا توجد منظمة حقوقية في العالم تقريبا لم تجرم أفعاله اللاأخلاقية واللاإنسانية مع شعبه، وليس معارضيه فحسب؛ ورغم ذلك تنعته الكنيسة بصفات التبجيل وأنه المخلص والمرسل من الرب، فتعطي مشروعية أخلاقية لجرائمه".

ورأى المنير، أن "هذا تسبب في أزمة للمواطن المسيحي الذي تعلم أن المسيحية تعني التسامح والمحبة والأخلاق؛ ويجد نفسه أمام أزمة أخلاقية عميقة، فرأس الكنيسة تواضروس، المعصوم من الخطأ بالمفهوم الكنسي يمجد سفاحا ديكتاتورا  في نظر العالم".

وقال إن "هذه السياسة أدت لنتيجة كارثية أخرى وهي ازدياد العزلة بين المواطنين المسيحيين والمواطنين المسلمين، لأن الكنيسة بالامتيازات الهائلة مقابل الدعم اللامحدود لشخص مكروه كالسيسي؛ يُنظر لها كنخبة سلطوية براغماتية تحافظ على مصالحها وتعظمها على حساب أي شيء آخر".

وأكد المنير، أن "الأقباط جزء أصيل من الوطن لهم نفس الحقوق والواجبات، ويعانون كما يعاني معظم الشعب، وأحلامهم في وطن آمن سعيد لا تختلف عن باقي المصريين المسلمين".

وختم مستدركا: "لكن تواضروس حول الكنيسة كمؤسسة لـ(نخبة سياسية) ترعى مصالحها النخبوية كباقي مؤسسات الدولة السيادية، حتى أصبحت مؤسسة الأزهر لا حول لها بجانب نفوذ الكنيسة الهائل مع وضعها دون غيرها كظهير شعبي للسيسي".