هل ثمن فلسطين خمسون مليار دولار؟

12

طباعة

مشاركة

نظرةٌ واحدةٌ لِذي عينين إلى الدعاية والهالة التي تحيطها الإدارة الأمريكية الحالية بورشتها الاقتصادية في البحرين ومحاولاتها الجاهدة لإنجاح هذه الورشة بأي شكل وأي طريقة ولو بمجرد عقدها، يبين لك أنك أمام مؤتمر ولد ميتاً وشبع موتاً قبل أن يولد.

حجم الغضب والسخط الشعبي العربي واضح كعين الشمس، ووسائل التواصل الاجتماعي –التي أصبحت اليوم متنفساً يمكنك من خلاله قياس رد الفعل الشعبي العام– لم تنجح فيه حملات الآلاف من ما أصبح يصطلح عليه باسم "الذباب الإلكتروني" للترويج لهذا المؤتمر ومخرجاته ومحاولة التخلص من القضية الفلسطينية بأي ثمن. الفلسطينيون يعبرون في كل مكان وكل مناسبة عن رفضهم لهذا المؤتمر ونتائجه. الشعب الأردني خرج بالآلاف يوم الجمعة 21/6 استباقاً لمشاركة الأردن المعلنة في هذا المؤتمر وأعلن رفضه القاطع لهذا المؤتمر ونتائجه حتى قبل أن يبدأ، والشعب البحريني نفسه خرج عن صمته واستجابت أطياف لا بأس بها منه لدعوات النشطاء لرفع العلم الفلسطيني في مختلف مناطق البحرين رداً على عقد هذا المؤتمر على أرضهم.

هذه العوامل تشير بأجمعها إلى أن هذا المؤتمر ساقط شعبياً لا محالة، وهذا أمر مفهوم لأن الشعوب لم ترض يوماً بالتنازل عن فلسطين والقدس التي لا تخص الفلسطينيين ولا حتى العرب وحدهم. ولكن العوامل الأساسية التي يمكن للمحللين من خلالها استشفاف مدى نجاح أو فشل المؤتمر تدور حول المستوى الرسمي العربي الذي عرف بتبعيته التامة للإملاءات الأمريكية بشكل عام. ولكن حتى في هذه النقطة، فإن الواضح أن المؤتمر فشل تماماً في جمع المستوى الرسمي العربي وتوجيهه إلى حيث يريد دونالد ترمب وصهره جاريد كوشنر.

فالسلطة الفلسطينية، وهي التي شكّلت أصلاً نتيجة اتفاقية أوسلو، أعلنت رفضها حضور المؤتمر، مما جعله فاقداً للعنصر الأهم فيه وهو الطرف الفلسطيني، واضطرت الولايات المتحدة الأمريكية إلى التخلي عن توجيه دعوة رسمية سياسية للحكومة الإسرائيلية التي ستشارك بشكل غير رسمي من خلال بعض المستثمرين. وحتى الأردن الذي كان يراوغ ويداري ويحاول التملص من المشاركة في هذا المؤتمر فقد اضطر –فيما يبدو– للاستجابة للضغط الأمريكي، ولكنه وجّه لمنظمي هذا المؤتمر ضربةً تحت الحزام من خلال إعلانه أن مندوبه لهذا المؤتمر سيكون أمين عام وزارة المالية، في أقل مستوى تمثيل يرسله الأردن إلى مؤتمر دولي في القرن الحادي والعشرين. وكان يبدو من ذلك محاولة الأردن التملص من مواجهة دونالد ترمب مباشرةً – في حال الإصرار على عدم الحضور – وفي نفس الوقت إعلان موقفه الرافض لمخرجات هذا المؤتمر.

إن المبلغ المعلن في هذا المؤتمر، وهو 50 مليار دولار، على شكل منح تبلغ 15 مليار دولار وقروض ميسرة ومشاريع للقطاع الخاص لبقية المبلغ، يشير في الحقيقة إلى خفة عقل مهندس هذا المؤتمر وضحالة فكره.. فمبلغ تافه كهذا لا يستطيع جذب أي جهة ويغريها بأن تتجاوز ما يمليه عليها العقل السياسي طمعاً في المال. فهذا المبلغ لا يزيد على عُشر – نعم، عُشر فقط – المبلغ الذي أعلن دونالد ترمب أنه حصل عليه عند عودته من زيارة المملكة العربية السعودية عام 2017، والذي بلغ في ذلك الوقت 500 مليار دولار! فكيف يتوقع هؤلاء ببساطة أن تقتنع الشعوب، بل والأنظمة كذلك، بهذا المبلغ التافه؟! ولا يفهم من قولي أن المشكلة في حجم المبلغ، فالشعب الفلسطيني أعلن غير مرةٍ رفضه بيع قضيته المقدسة ولو بأموال الدنيا بأسرها، فكيف بخمسين مليار دولار يمتلك عملاق مايكروسوف "بيل غيتس" وحده أكثر من ضعفها؟! (حيث تقدر ثروة بيل غيتس بما قيمته حوالي 102 مليار دولار).

حتى دولة الاحتلال الإسرائيلي نفسها تشك في إمكانية نجاح هذا المؤتمر الذي لم يشارك فيه المستوى الرسمي الإسرائيلي، خاصة وأنه يأتي في ظل ظروف صعبة ودقيقة داخل إسرائيل. فالجميع هناك منشغلون بانتخابات الكنيست القادمة عن البحرين وصفقة القرن وترهات ترامب وأحلام كوشنر، وهي التي تطغى على المشهد الإعلامي والاجتماعي والاقتصادي الإسرائيلي بالكامل. خاصة وأن نتنياهو وحلفاءه في الولايات المتحدة يشعرون أن ترامب وجه إليهم صفعةً قاسيةً عندما تراجع عن ضرب إيران –رداً على إسقاط الطائرة الأمريكية المسيرة– في اللحظة الأخيرة. نتنياهو لم يكن يفكر بغير ضرب إيران، مما كان سيعطيه دفعةً قويةً في الانتخابات القادمة باعتباره سيظهر بصورة الزعيم الذي تمكن من إقناع الولايات المتحدة الأمريكية أخيراً بضرب إيران بالنيابة عن إسرائيل.

لكن ترامب كانت له حسابات انتخابية أخرى، ولذلك لم يستمع لنصائح مستشاره للأمن القومي جون بولتون –عرَّاب ضرب إيران– والتزم برأي المؤسسة العميقة في الولايات المتحدة، لا حباً فيهم وإنما حرصاً على صورته أمام الناخب الأمريكي. وأما إصرار كوشنر مع كل هذه العناصر على المضي قدماً في إقامة هذه الورشة، بالرغم من أن عناصر الفشل كلها تتوفر فيها، فسببه ببساطة أنه يبحث عن مكانه في السياسة الأمريكية سعياً للانتخابات الرئاسية الأمريكية بعد القادمة. وهو يخشى من عدم نجاح ترامب في الانتخابات القادمة، ولذلك فإنه لن يضيع هذه الفرصة لإبراز نفسه وإثبات صورته القيادية في الحزب الجمهوري الأمريكي، أو لنقل على الأقل هذا ما يأمله.

إذن لنعد وننظر مرة أخرى في ظروف هذا المؤتمر: رفض شعبي، وتمرد رسمي من بعض الأنظمة والمؤسسات التي باتت تفهم تماماً أن هذا المؤتمر خطر وجودي عليها، وانقسام داخلي أمريكي وإسرائيلي على جدوى هذا المؤتمر، وإصرار في نفس الوقت على إقامته بالرغم من كل عناصر الفشل التي تلوح في أفقه المسدود، كل هذه العوامل تبين بوضوح أن نتائج المؤتمر ستكون مجرد حبر على ورق؛ لأنها تمثل لعباً في الوقت الضائع.