نحو نظرية عامة لثورات الشعوب العربية

12

طباعة

مشاركة

في العالم العربي نظمٌ جمهورية ونظمٌ أسرية ملكية، وتشمل الملكيات الأسرية السعودية والمغرب والكويت والبحرين وقطر والإمارات وعمان والأردن، أي ثمان دول ملكية و13 دولة تنتمي إلى النظم الجمهورية وتنص دساتيرها على ذلك بل وتشدد على أن محاولة تغيير هذا النظام يعتبر من الخيانة العظمى.

صحيح أن هذه النظم الجمهورية تحولت في الواقع إلى نظم ملكية من حيث أن الرئيس يظل فى منصبه إلى أن يموت أو يقع انقلاب ضده، إلا أن النظم الملكية تشترك مع الجمهورية في خاصية مشتركة وهي البعد بدرجات متفاوتة عن الحكم الديمقراطي، وإن أشارت دساتيرها إلى أنها جميعاً نظم ديمقراطية.

والنظم الملكية من حيث الغنى والفقر ومستوى المعيشة قسمان، دول الخليج الغنية بسبب النفط، والأردن والمغرب وكلاهما متواضع الموارد والثروات ومستوى المعيشة. والنظم الجمهورية لها سجل حافل فى انتهاكات حقوق الإنسان وتماثلها النظم الملكية لأنها في جوهرها تفتقر إلى الشرعية وتنتهج الدكتاتورية. ولكن الملاحظ أن التمرد في العالم العربي ضد الحاكم تم في نظم جمهورية، وشمل ذلك جميع النظم بما فيها السودان والعراق والجزائر وحتى فلسطين، أما موريتانيا فكانت قبل الثورات قد توجهت صوب الديمقراطية بعد الانقلاب على حاكمها الانقلابي أيضاً، وربما لم يفلت من الظاهرة من النظم الجمهورية سوى جيبوتي والصومال التي تعاني من الحرب الأهلية وجزر القمر التي تعرف تداول السلطة منذ استقلالها عن فرنسا.

ومن الظواهر المفيدة في الإجابة على السؤال، أن مصر وتونس واليمن بلغ فيها الفساد والاستبداد والقهر والدولة البوليسية حداً أسهم بلا شك في الانفجار، وبدرجة أقل فيما يبدو فى سوريا والجزائر، ولكن فى مصر كانت قوة الثورة هي حاصل ضرب سلمية الثورة وشمولها وتركيزها على سقوط نظام مبارك وعمق الإذلال الأمني والمعيشي والفساد والتواطؤ ضد الشعب والوطن والسماح بالتدخلات الأجنبية، فعم الفقر والمرض والذل وانقطاع الأمل فى المستقبل.

فهل يمكن بعد هذه المقدمة أن نخلص إلى قانون يفسر نظرية الثورة في العالم العربى، بصرف النظر عن محاولات حرف الثورة عن مسارها الطبيعي في هذه الدول؟

من المؤكد أن العالم العربي عرف رغم مضي الزمن موجة التحرر من النظم المستبدة بعد نصف قرن من التحرر من الاستعمار الغربي، ولذلك يمكن أن نرصد عددا من العوامل المتصلة بالثورة والانعتاق من إسار الواقع المرير. فقد اجتمعت في مصر مثلاً عشرة عوامل جعلت الثورة أمراً لا مفر منها، وإن لم تنفجر في لحظة واحدة، وإنما تقلص مكونات الجسد والروح المصرية طوال عقد كامل تجمعت فيه هذه العوامل وهي نظام جاء بالتزوير، وبنى مؤسسات الدولة على التزوير والرشوة والمحسوبية؛ إذ أصبح الفساد صناعة علنية واستخدام الأمن في التعيينات وفي قمع المخالفين، وإمراض المجتمع وإفقاره ونهب الثروات والمجاهرة بأن التزوير والنهب والقهر وقمع الشعب من حسنات النظام وتجليات الإبداع فيه؛ ثم إعلان ضلال الشعب واختراق أجنبى للمجتمع، وإضعاف لروح الانتماء، وانسداد الأمل فى التغيير، بل والإعداد لتوريث الحكم لعصابة تجاهر بالفواحش السياسية والاجتماعية.

لقد تحولت الدولة المصرية إلى دولتين، إحداهما هي للقلة التي تملك كل شيء وتفسد كل شيء وتقمع المخالف وتذل الدولة المصرية وسمعتها ومكانتها. والثانية هي عموم المصريين المحرومين المرضى والمعوزين. وتسلطت الدولة الأولى على الثانية بلا رحمة وهي تملك كل أدوات القوة، والأخطر انسداد أفق التغيير وادعاء الصلاح السياسي والاجتماعي وتغييب الوعي، فنشأ واقع مؤلم شعر به الجميع في دولة الجميع وصار المراقبون يتوقعون النهاية بعد أن انحطت أخلاق أعضاء الدولة الباطشة؛ بل وكان الجميع يتوقعون انفجار المجتمع ليأكل بعضه بعضا.

ولكن الله سبحانه قدر أن تنفجر دولة الجميع في دولة القلة وتصر على اقتلاعها، فالشعور بالقهر والفجر وانسداد الأمل والفجور في الهيمنة والحرمان خلق ضرورة الثورة. ولذلك لا أشاطر رأي الذين يرون أن بعض السياسات الشكلية والتنازلات السطحية كان يمكن أن توقف الثورة، لأن التناقضات الجوهرية لم يكن ممكنا احتواؤها، ولم يكن ممكناً أن تتحول الدولة المافياوية إلى دولة صالحة أخلاقيا ووطنياً، بعد أن فسدت جيناتها وصار الفساد أداتها الأساسية لضمان ولاء أعضاء العصابة، والأداة الرئيسية لممارسة الاستبداد والقهر ودفع الحياة والمجتمع وقيمة صوب الانحطاط والإبادة الإنسانية.

فهل يمكن القول أنه كلما قلت نسبة الفساد وتوزعت الثروات بشكل يفي باحتياجات الناس حتى لو لم يكن التوزيع عادلاً، وخفت نسبة القهر الأمني رغم أن انسداد آفاق الحرية والتغيير كفيل بمنع الانفجار والثورة، وهل الثورة والأمن والإعلام وعدم قابلية بعض الشعوب للثورة عطّل الانفجار في النظم الملكية الغنية، حيث اضطر ملك المغرب إلى تحقيق أهداف الثورة دون حاجة إلى ثورة حقيقية؟ سيظل السؤال مطروحاً لمدة طويلة في المستقبل.

وأخيراً فإنه لا يمكن القول أن الثورات قامت في دول معادية للغرب، بل بالعكس كل هذه الدول الأربعة مصر وتونس وليبيا واليمن كانت تبعيتها للغرب ظاهرة. أما سوريا التي حاول الغرب أن يحتويها بطريقته، فإنها نظام جمهوري يشترك مع النظم الجمهورية الأخرى في غياب أهم خصائص النظام الجمهوري، وهي عدم انتخاب الرئيس انتخابا صحيحا يؤدي إلى استمرار الرئيس حتى وفاته، لا فرق في ذلك بين نظام جمهوري ونظام ملكي.

الموجات الجديدة للثورة في السودان والجزائر ، التي لاتزال تتفجر، سوف تسهم في بلورة نظرية الثورة العربية.