بعد التصعيد الإيراني.. هل السعودية مقبلة على ابتزاز أمريكي جديد؟

مهدي محمد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"الدفع مقابل الحماية"، ملخص سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه دول الخليج وخاصة السعودية، منذ وطأت قدماه البيت الأبيض، سياسة دأب عليها أسلافه، لكنه تفرد بإعلانها صراحة وتكرارها، بل والاستناد عليها كجزء غير يسير من حملات حزبه الانتخابية.

وتحت شعار التهديد الإيراني، استنزف ترامب مئات المليارات من الرياض، ومع ارتفاع حدة التوتر في المنطقة بين واشنطن وطهران، بدا أن الرجل على موعد مع ابتزاز متجدد، طالما بقيت الدجاجة التي تبيض له ذهبا مستعدة للمزيد.

بلا شروط

وعلى مدار الأسابيع الماضية، زادت التصريحات العدائية والحشود العسكرية واستهداف ناقلات النفط في الخليج العربي، وصلت ربما إلى ذروتها مع إسقاط إيران طائرة أمريكية من دون طيار فوق مياه الخليج، الأمر الذي لم تنكره الولايات المتحدة.

وبعد أن أيقن الجميع وضجت حسابات السعوديين على مواقع التواصل الاجتماعي احتفالا بالعقاب المنتظر، تراجع ترامب في اللحظات الأخيرة، بدعوى اعتراضه على ما يمكن أن تسفر عنه ضربات أمريكية أُقرت بالفعل من قتلى.

لكن ترامب لم يتراجع فقط عن توجيه ضربة عسكرية لإيران، بل وصل الأمر لاستعداده إجراء محادثات مباشرة مع المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي أو الرئيس حسن روحاني دون شروط مسبقة.

وفي مقابلة مع شبكة "أن بي سي" الأمريكية، مساء الجمعة، قال إن مسألة الصواريخ الباليستية الإيرانية يجب أن تكون ضمن أي اتفاق مع طهران، مشيرا إلى أنه كان مستعدا لضرب إيران لكنه لم يتقبل فكرة قتل 150 شخصا مقابل إسقاط طائرة مسيرة.

تزامنت تصريحات ترامب مع تصريحات للمبعوث الأمريكي الخاص لإيران "براين هوك"، قائلا: "على إيران أن ترد على جهودنا الدبلوماسية بالدبلوماسية وليس بالقوة العسكرية... من المهم أن نبذل أقصى ما في وسعنا لنزع فتيل (التوتر)".

وأضاف، أن "إيران مسؤولة عن زيادة التوتر في المنطقة وتواصل رفض أي مبادرات دبلوماسية لنزع فتيل التوتر"، مشيرا إلى أن ممارسة أقصى قدر من الضغوط على طهران تؤتي ثمارها وإيران تشعر بوطأتها.

هذه المواقف والتصريحات تشكّل تغيرا كبيرا في الموقف الأمريكي تجاه إيران، مع حديث متزايد عن مسألة العقوبات الاقتصادية، بعيدا عن الشأن العسكري، الذي طالما روّجت له الولايات المتحدة لتستنزف حلفاءها في السعودية.

على الوتيرة ذاتها جاء رد الفعل الإيراني، فرغم أن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية "عباس موسوي"، قال إن واشنطن ستكون مسؤولة عن عواقب أي عمل عسكري ضد إيران، لكنه أبلغ واشنطن عبر السفير السويسري أن بلاده "لا تريد حربا مع الولايات المتحدة".

على الجانب الآخر، يبلغ الأمر فجاجته عندما تترافق تصريحات ترامب ومسؤولي إدارته المهادنة والهادئة إلى أبعد مدى تجاه إيران، مع أحاديث مستمرة إلى السعوديين حول الخطر الذي تمثله التهديدات الإيرانية في المنطقة.

ففي الساعة ذاتها، التي خرجت تصريحات ترامب إلى النور حول المحادثات مع إيران، قال البيت الأبيض إن ترامب بحث هاتفيا مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان "التهديد الذي يشكله السلوك التصعيدي الذي ينتهجه النظام الإيراني".

وفي وقت سابق الجمعة، بحث نائب وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان في الرياض مع المبعوث الأمريكي ما سمي "الجهود المبذولة للتصدي للنشاطات الإيرانية العدائية التي تهدد أمن واستقرار المنطقة".

لقاء "هوك" مع مسؤول عسكري وليس سياسي يشير إلى أبعاد الموقف، وما كانت تنتظره الرياض من واشنطن ولم يحدث، كما أنه جاء في أعقاب التراجع الأمريكي عن توجيه ضربة لإيران، وهو ما يبدو أنه ضايق السعوديين كثيرا.

الرياض وحدها إذًا تدق طبول الحرب وتبدو مستميتة عليها، بينما لا يسعى إليها الطرفان المتشاكسان، وبقدر ما يبعث الأمر على الحيرة فإنه ربما لا يحمل سوى تفسيرا واحدا وهو رغبة أمريكية متجددة في ابتزاز السعودية وإغاظتها بعرض صداقة مع إيران في أوج الأزمة لتدفع المزيد.

اليمن بالصورة

لكن ثمة بُعد آخر متصل ركزت عليه تصريحات المبعوث الأمريكي في لقائه مع خالد بن سلمان، وهو إشارته في أكثر من موضع للحرب في اليمن وارتباطها بالتهديدات الإيرانية في المنطقة.

هوك قال: إنه "لابد من التصدي لمساعي إيران لاستخدام وكلاء لمهاجمة السعودية وزعزعة استقرار المنطقة". وأضاف: "إذا لم ننجح في التصدي لإيران في اليمن فسنزيد من مخاطر اندلاع صراع إقليمي في الشرق الأوسط".

وشدد على أنه "من المهم ألا تحصل إيران على موطئ قدم في اليمن لتهديد باب المندب"، وبقدر ما لا يمكن فصل تلك التصريحات عن التوتر بين واشنطن وطهران، فإن تطورات الأوضاع في اليمن لا تنذر بأي خير للسعودية والتحالف الذي تقوده هنا.

التصريحات تتزامن مع تصعيد حوثي كانت مرحلته المفصلية استهداف مطار أبها للمرة الأولى بصاروخ كروز الذي لا ترصده الدفاعات الجوية السعودية، بعد أن كان الأمر يقتصر على الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية التي لا تزعج الرياض كثيرا.

اللافت في الأمر، أن هذا التركيز على الشأن اليمني من الولايات المتحدة غير مسبوق، خاصة أنه جاء بعبارات حادة وما يمكن اعتباره تعهدات أمريكية بحماية السعودية التي باتت تئن تحت وطأة الصواريخ الحوثية.

وهو ما يدفع للتساؤل: هل تعهدت أمريكا بالقضاء على الحوثيين؟ وهل يمكن اعتبار تخليص السعودية منهم بديلا عن أي حرب توقعوها ضد إيران بشكل مباشر؟ وما مدى الرضا المتبادل بين الحليفين عن تلك الصفقة؟

السعودية يُتوقع أن تبدي ارتياحا لمثل هكذا صفقة، فالتهديدات الإيرانية المباشرة لا تتعدى كونها مجرد تهديدات لم تشهد تطورات عملية ملموسة على أرض الواقع، لكن صواريخ الحوثي جرحت كبرياء الرياض وكشفت ضعفها الشديد أمام مجموعة من المتمردين، قالت قبل أكثر من 4 سنوات أنها تتجه للقضاء عليهم.

على الجانب الآخر، فإن ما يهم ترامب أولا وأخير هو المال، فلا يتحدث رجل الأعمال إلا عنه ولا يشغل باله سواه، ويعد ركنا أصيلا في حملاته الانتخابية الخاصة بحزبه أو تلك المرتقبة ليفوز بولاية ثانية.

الابتزاز أسلوب حياة

وسواء كان هذا (توجيه ضربة عسكرية لإيران)، أو ذاك (القضاء على الحوثي)، فإن الأمر ينطوي على توجه أمريكي متجدد لابتزاز السعودية والحصول على دفعات جديدة من ثروتها الطائلة التي لم يفرغ ترامب من الحديث العلني الدائم بشأنها مقابل الحماية.

فبعد أن ظن كثيرون أن ترامب نسي الحديث بشأن ابتزاز السعودية مقابل حمايتها، عاد الرئيس الأمريكي في مايو/أيار الماضي التذكير بالأمر، وقال في تجمع لأنصاره بولاية فلوريدا: "السعودية دولة ثرية جدا ندافع عنها، وليس لديها سوى النقود، وهي تشتري الكثير منا، اشترت منا بـ450 مليار دولار".

قبلها بنحو 10 أيام وتحديدا في 28 أبريل/نيسان الماضي، كشف ترامب تفاصيل عما دار بينه وبين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز بشأن دفع الرياض ثمنا للحماية العسكرية التي توفرها لها واشنطن، وجدد رفضه الدعوات المرفوعة داخل بلاده لمقاطعة السعودية.

وفي كلمة ألقاها آنذاك، أمام تجمع لمؤيديه في ولاية ويسكنسن الأمريكية، قال: "اتصلت بالملك (سلمان بن عبد العزيز)؛ فأنا معجب بالملك، وقلت: أيها الملك، نحن نخسر كثيرا في الدفاع عنكم، أيها الملك لديكم أموال كثيرة..".

وأضاف ترامب مخاطبا الحشود: "يشترون (السعودية) الكثير منا، اشتروا بقيمة 450 مليار دولار.. لدينا أشخاص يريدون مقاطعة السعودية! هم اشتَروا منا بقيمة 450 مليار دولار، وأنا لا أريد خسارتهم وخسارة أموالهم.. وعسكريا نحن ندعم استقرارهم".

وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قال في خطاب ألقاه أمام تجمع شعبي بولاية آيوا الأمريكية، إن إيران كانت ستسيطر على الشرق الأوسط في غضون 12 دقيقة قبل أن يتسلم الرئاسة، غير أنها تكافح للبقاء الآن.

وأشار مرة أخرى إلى أنه على المملكة العربية السعودية أن تدفع المال مقابل حماية أمريكا لها، قائلا: "إن كنا سنحميك يجب أن تدفع".

وفي المرة الأكثر إيلاما للسعودية والتي اعتبرت الأكثر إهانة بحق رأس السلطة في الدولة الملك سلمان، سبق ترامب تصريحه السابق بأيام قليلة في أكتوبر/تشرين الأول 2018 أيضا بتصريح أثار سخرية الآلاف من أنصاره بولاية مسيسيبي.

ترامب قال: "نحن نحمي السعودية. يمكننا القول إنهم أثرياء. وأنا أحب الملك، الملك سلمان. ولكنني قلت: نحن نحميكم. قد لا تبقى هناك أسبوعين بدوننا. يجب أن تدفع تكاليف جيشك".

هذه الكلمات المهينة، دفعت ولي العهد السعودي للمرة الأولى وربما الأخيرة للتعليق، قائلا في مقابلة مع وكالة "بلومبيرج" الأمريكية: "أحب العمل معه. تعرفون، يجب أن تتقبلوا أن أي صديق سيقول أمورا جيدة وأخرى سيئة".

وأضاف بن سلمان: "نعتقد أن كل الأسلحة التي نحصل عليها من الولايات المتحدة الأمريكية يتم دفع ثمنها، ليست أسلحة بالمجان. ومن ثم فمنذ أن بدأت العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، اشترينا كل شيء بالمال".

ترامب تحدث أيضا في مناسبتين سابقتين عن تفاصيل أخرى بشأن اتصاله الهاتفي الأخير بالملك سلمان، وأكد أنه تحدث مطولا مع الملك سلمان. وقال له: "ربما لن تكون قادرا على الاحتفاظ بطائراتك، لأن السعودية ستتعرض للهجوم، لكن معنا أنتم في أمان تام، لكننا لا نحصل في المقابل على ما يجب أن نحصل عليه".

استعد للدفع

المشهد العام الآن يعيد إلى الأذهان زيارة بن سلمان للولايات المتحدة في مارس/آذار 2018، والتي أعلن خلالها تدشين خطة استثمارات بين المملكة والولايات المتحدة بإجمالي 200 مليار دولار، مشيرا إلى أنه تم بالفعل تنفيذ 50 بالمئة من الاتفاقيات الاقتصادية المبرمة بين البلدين.

وفي كلمات شديدة الرمزية والإيحاء، قال ترامب لدى استقباله وفد المملكة: "السعودية بلد ثري جدا وستعطي الولايات المتحدة بعضا من هذه الثروة، كما نأمل، في شكل وظائف وشراء المعدات العسكرية".

وربما لم ينس كثيرون المشهد الأكثر إثارة للجدل، عندما حمل ترامب لوحة تشبه "السبورة" تظهر مبيعات أسلحة أمريكية للسعودية بقيمة 12.5 مليار دولار، ليس الرقم هو ما أثار الجدل، لكنها طريقة عرض ترامب للوحة، والتي اعتبرها كثيرون مهينة إلى حد كبير لولي العهد السعودي وتنتقص من مكانة بلاده، حيث تعمد الرئيس الأمريكي أن يحملها أمام محمد بن سلمان، فضلا عن الهدف من عرضها بالأساس.

ليس هذا فحسب، بل إن ترامب عندما بدأ في تفصيل مبيعات الأسلحة وذكر قيمتها كل على حدة، باغت ولي العهد السعودي بعبارة مثيرة ثم واصل الحديث، حيث قال: "هذه مبالغ زهيدة بالنسبة لكم"، لتعلو بعدها ابتسامة غطت وجه الأمير، رآها متابعون تعبيرا صادقا عن كم الإهانة التي تعرض لها.

وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات عديدة لمغردين سعوديين وعرب سخروا من المشهد، وقالوا إن ترامب استخدم بن سلمان كسبورة للعرض، ونشر حساب يدعى (مستشار الأمير محمد بن نايف) تغريدة قال فيها: "كمية الإهانة والاستحقار في هذا التصرف غير معقولة ولا تطاق، محمد بن سلمان كثيرٌ عليه أن يعطى إدارة روضة أطفال، لا أن يقود ويمثل دولة بحجم المملكة، تصرف ترامب هذا خارج عن جميع البروتوكولات الدبلوماسية والسياسية، المتعارف عليها، وفيه إهانة كبيرة للضيف".

كما أكد المتابعون أن ترامب كان بإمكانه عدم عرض هذه اللوحات من الأساس، والاكتفاء بذكر ما جاء فيها من تفاصيل، لكن عرضها على هذا النحو كان متعمدا لإهانة الضيف ليس أكثر، على حد وصفهم. المثير، أن تلك الصفقة الجديدة جاءت بعد أقل من عام على الصفقة التاريخية التي أعلنها ترامب، أثناء زيارته للسعودية في مايو/أيار 2017، بقيمة تجاوزت 460 مليار دولار بينها 110 مبيعات أسلحة.

ما أشبه الليلة بالبارحة، فبينما كان ترامب قاب قوسين أو أدنى من توجيه ضربة تأديبية لإيران تشفي كثيرا من غليل السعودية المتأهبة، تراجع ليوجه رسالة غير مباشرة إلى الرياض مطالبا إياها بدفع المزيد من الأموال مقابل الحماية، سبقتها رسالة أخرى مباشرة في مايو/ أيار الماضي، كما أسلفنا.

مبيعات السلاح، التي يحبذها ترامب، ربما هي الصيد الثمين هذه المرة، وهو ما تؤكده الشواهد السابقة، فضلا عن بعض التطورات المتلاحقة التي تجبر السعودية على المزيد من الصفقات العسكرية مع أمريكا بعيدا عن إستراتيجيتها التي أعلنها ولي العهد سابقا والتي تقوم على استئثار واشنطن بالغالبية العظمى منها.

أوروبا الناقمة على حرب اليمن وجريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي بعد تقرير كالامارد، تتجه سريعا صوب تقييد صفقاتها التسليحية إلى السعودية، على غرار ألمانيا التي مدّدت في مارس الماضي ولمدة 6 أشهر حظر تصدير السلاح للمملكة.وفي بريطانيا علّقت الحكومة منح عقود تسليح جديدة للسعودية خشية استخدامها في اليمن، إثر اعتبار محكمة الاستئناف في لندن صفقات الأسلحة تلك غير قانونية. القرار البريطاني فتح شهية منظمات حقوقية غير حكومية في فرنسا، حيث طالبت باريس بالاقتداء بلندن.