بعث الأحرار.. مرسي الذي لم يمت

12

طباعة

مشاركة

أسطورة قديمة عن طائر يسمى "الفينيق"، تناقلتها الأمم، وانتشرت في القصص والحكايات، طائر جميل عاش ألف سنة محلقا في أرجاء العالم، قبل أن يموت بشرارة أحرقت عشه وقتلته -في رمزية للظلم والعذابات على الأرض-، وفي اليوم التالي يبزغ من رماد الطائر المحترق طائر "فينيق" صغير أكثر جمالا وروعة وأعذب وأندى صوتا، يطير صوب الشرق إلى أبواب الجنة يرافقه موكب مهيب من الطيور. استخدمت الأمم المتعاقبة رمزية "الفينيق" للتعبير عن كل حالة لا تموت ولا تنتهي، وكل حالة لها بعث متجدد نحو الخلود. 

من الأسطورة إلى الحقيقة، وشتان الفارق بين التمني ومعايشة الواقع القاسي الشديد، فجيل ثورة 25 يناير 2011، في الأساس مثَّل حلما بعيد المنال، وهو كذلك جيل حالم بطبيعته، استطاع أن يتحرك ويسقط واحدا من أعتى أنظمة الاستبداد في الشرق، ويطيح بحسني مبارك الذي جثم على كرسي الرئاسة ثلاثين حولا، بلا منازع ولا شريك.

ثورة 25 يناير، حركت المياه الراكدة في بحر السياسة المصرية الرتيبة، لكنها أيضا أيقظت ثعابين الدولة العميقة في جحورها، واستنفرتهم للحظة الخطر، بعد الشعور أن هناك في مصر أمة حقيقية تريد الإصلاح والتغيير.

محمد مرسي في ذاتيته تجاوز مجرد دور الممثل لجماعة الإخوان المسلمين، بل هو رمز ومناضل وطني نبت وسط حالة استمرت لعقود من الاشتباكات مع الأنظمة، ومع الرؤساء المتعاقبين لمصر، ليس في الميادين والشوارع بإبراز المواقف الغاضبة والمعارضة الدائمة فحسب، بل في البرلمان، والنقابات والمجالس المحلية والتشريعية، مرورا بالملاحقات الأمنية والاعتقالات، وصولا للمحاكمات العسكرية المتكررة.

مقارعات، ومعارك مستمرة، وانتصارات، وانكسارات، وانزواء، وتقدُّم، وكل مفردات المواجهات التاريخية الكبرى. تجلت في ثورة الشعب المصري الفريدة، وتحديدا يوم 24 يونيو/ حزيران 2012، عندما استطاع الدكتور محمد مرسي الفوز في الانتخابات الرئاسية، وعم الفرح ميدان التحرير في مركز العاصمة المصرية القاهرة وكافة ميادين مصر.

جاء الرئيس مرسي إلى الحكم، محكوما بخلفية من الصراع الأزلي، محملا بآمال عريضة لملايين المصريين الطامحين إلى التحرر الوطني، وتجاوز مرحلة قميئة من الحكم العسكري، وتأسيس دولة قوية تمتلك قرارها، وإرادتها.

وبالعودة إلى حديث أسطورة "الفينيق"، أحرقت دولة الجنرالات، وكمائن العسكر، الرئيس الشرعي المنتخب، يوم 3 يوليو/ تموز 2013، وزجت به في سجون مظلمة، وقضت على آمال الشعب المصري، ووأدت تجربته، ونكلت بالرمزية الشرعية للرئيس، وحاكمت الثورة في شخصه، ولسان الحال يقول (هذا رئيسكم، وهذه ثورتكم، فماذا أنتم فاعلون؟!). سبع سنين من النزاع المستمر، ورئيس أرادوا أن يجعلوه عبرة، ويسقطوا رمزيته، ويحولوه إلى مادة ساخرة هزلية، يتندرون بها في أحاديثهم العبثية.

لكن وفاته يوم 17 يونيو/ حزيران 2019، بعثته بعثا آخر، في ثوب مختلف، تجلى هذا في مدى الحزن الذي أصاب الشعوب العربية والإسلامية عليه، إذ تناقلوا كلماته، وتداولوا مآثره، وتذكروا مواقفه، وغدت سيرته متجاوزة لسيرة رئيس مُنقلَب عليه في سطور، بل قصة زعيم للتحرر الوطني تحاكي قصص عمر المختار، ونيلسون مانديلا. 

الرئيس محمد مرسي اختار المسار منذ البداية، واختار أن يكون رجل مبادئ، لا يلتزم بقاعدة السياسة القائمة على المناورات والتسليم بموازين القوى، والذرائعية الوصولية، وهذا طابع أصيل في تكوين الرجل.

وفي محاولة لفهم طبيعة تكوين الرجل ومنطلقاته، أتذكر حوارا دار بين أحد الأصدقاء والدكتور محمد مرسي فى أحد اللقاءات عام 2009، مع اندلاع حرب غزة حينها، وكان الدكتور مرسي حاضرا بصفته السياسية وقتها، وفي هذا التوقيت نفذت المقاومة في غزة عمليات نوعية مفاجئة ضد قوات الاحتلال، فأراد صديقي أن يخرج بتصريح من الدكتور محمد مرسي أن "غزة قد انتصرت"، ولكن الدكتور، وبرغم إيمانه بالإنجاز الذي حققته غزة، إلا أنه كانت لديه رسالة أخرى يريد إيصالها، فقال له: "غزة على حق" ثم صمت. بعدها قام الصديق بإعادة السؤال بأكثر من صيغة ليُخرج منه ما يطمئن قلبه بأن غزة بالفعل قد انتصرت في الحرب، ولكن الدكتور مرسي أصر على الاكتفاء بإجابته: "غزة على حق، بغض النظر عن انتصارها أو هزيمتها". 

انتهت قصة الصديق، وبقيت رسالة الرجل حاضرة في ذهن ووجدان كل من استمع لكلماته، وهي أن المسألة مسألة مبادئ، بغض النظر عن النتائج والنهايات، وبغض النظر عن موازين القوى، وبغض النظر عن من المنتصر، ومن المغلوب.

هذه المبادئ التي انحاز دوما لها، هي التي جعلته يموت في محبسه، رافضا كل دعوات الاستسلام والتراجع، أو التخلي عن شرعية الانتخابات التي أنتجتها ثورة يناير، حتى رفض رفضا قاطعا أن يكتب خطاب التماس إلى السيسي "الجنرال المنقلب" للسماح بعلاجه من الأمراض التي هاجمته نتيجة ظروف السجن شديدة القسوة على رجل يقارب الـ 70 عاما، ليدفن بليل دون جنازة تليق بمثله.

وربما تتقارب الحالة مع ما حدث لرئيس الوزراء التركي عدنان مندريس، الذي انقلب عليه الجيش التركي في 27 مايو/ أيار 1960، وقاموا بمحاكمته محاكمة صورية هزلية، ثم أعدموه، ودفنوه في جزيرة منعزلة تسمى "يصي أدا" دون جنازة، ودون الكشف عن مكان قبره حينها، وبعد سنوات أصبح مندريس رمزا عظيما في تركيا، وتم نقل رفاته إلى إسطنبول في موكب عظيم، وعندما زرت تركيا، وجدت أنه قد تم تغيير اسم واحد من أكبر شوارع إسطنبول باسم "عدنان مندريس"، بالإضافة إلى وجود مدارس، ومحطات مترو، وميادين، تحمل نفس الاسم، وهنا نتساءل أين مندريس الآن وأين قاتليه؟ لن تجدهم إلا ملعونين أينما ثقفوا في مزبلة من مزابل الزمن؛ فالتاريخ لا يمكن أن يُهزم، ورموز التحرر الوطني لا تموت بانتهاء حياتها. 

الرئيس محمد مرسي، كان قادرا على التراجع والتفاوض، ولا لوم عليه، لا سيما مع وجود تجربة سياسية رائدة في تركيا أيضا، لمهندس النهضة والحركة الإسلامية نجم الدين أربكان، الذي ارتأى في لحظة ما أن العسكر لا يمكن تحييدهم بالمواجهة، ولكن بالتماهي تارة، والضغط السياسي تارة، فإذا ما تحركت الدبابة، فضّل أربكان عدم الصدام، وهو ما حدث تماما في انقلاب "المذكرة العسكرية" عام 1997، عندما أرسل جنرالات الجيش إلى رئيس الوزراء نجم الدين أربكان يطلبون منه حل الحكومة، وبدأت بوادر تحرك عسكري، ليتراجع أربكان ويحل الحكومة، ويقول كلمته الشهيرة التي نقلها عنه مستشاره عمر قورقماز (سوف أتناول فنجان القهوة، وأشاهدهم وهم يفشلون)، وقد كان، حيث فشل العسكر في إدارة البلاد، وولدت من رحم تجربة أربكان، تجربة العدالة والتنمية، التي استطاعت تغيير وجه البلاد، بعد سنوات. 

ولكن الرئيس محمد مرسي اختار الطريق الأصعب والأشق، حيث وجد أنه في مرحلة، تحتاج فيها الثورة إلى من يقر لها مبادئ وأسسا كي يختصر المصريون المسافات والأوقات نحو انتصار ثورتهم وتحقيق أهدافها بعدما يعون ويفهمون بوضوح طبيعة الصراع وحقيقة أبعاده، حينها حاول إرساء عقيدة سياسية وثورية مستقرة، تقوم على رفض التخلي عن الشرعية، التي جاءت بدماء آلاف الشهداء، وبثورة خالدة، وتقوم على رفض الحكم العسكري، الذي أفشلها، وقوض أركانها، وأن يخلق تاريخا جديدا، تتناقله الأجيال، عبر عنه بكلماته الخالدة في الخطاب الأخير عندما قال: "ليعلم أبناؤنا أن آباءهم وأجدادهم كانوا رجالاً، لا يقبلون الضيم ولا ينزلون أبداً على رأي الفسدة ولا يعطون الدنية أبداً من وطنهم أو شرعيتهم أو دينهم".

فمرسي اليوم وبعد ارتقائه ربما هو أشد خطرا على السيسي من وجوده في السجن، فدائما ما كان يمثل عقدة للجنرال المنقلب، بدت هذه العقدة في خطاباته المتكررة، التي حاول أن يؤكد فيها -بداع وبدون داع-  "لم نتآمر" و"لم نخن"... الخ، ووصل إلى قسمه أيمانا مغلظة في كثير من الأحيان، في نفس الوقت الذي ضرب على الرئيس مرسي بـ"أسوار ليس لها باب" من زجاج كاتم للصوت ليمنع وصول الرواية الأخرى للعالم؛ تلك الحالة التي فسرها المتابعون من علماء النفس وغيرهم أنه شعور دائم بعدم المصداقية، وشعور بالعقدة الدائمة من مرسي. ويؤكد ذلك التشخيص حجم الإمعان في محاولة التنكيل بالرجل حتى بعد عزله وسجنه.

السيسي واهم إن ظن أن قتل مرسي سيحل العقدة التي ملأت عليه نفسه، كما كان واهما من قبل حين ظن أن الدنيا ستخلو له حين ينقلب على الرئيس المنتخب ويضعه في السجن. وأكبر دليل على ذلك هو حالة "الذعر" و"الرعب" التي سيطرت على السيسي وأجهزته الأمنية بعد استشهاد الرجل، ظهر ذلك جليا في تغطية إعلامية مريضة مليئة بالحقد والخسة لمحاولة تخفيف حدة حالة الغضب الشعبي التي رافقت قتل الرجل. وظهر أيضا في تحويل القاهرة لثكنة عسكرية رعب من جثمان رجل استخدموا ضده كل أدوات الكذب، والتشويه، والتشهير، والبهتان على مدار 7 سنوات، وظهر ذلك فى إصدار تعليمات بمنع صلاة الغائب في المساجد، وأيضا في مشهد المدرعات التي اقتحمت قرية العدوة مسقط رأس مرسي لفض الجنازة الرمزية التي حاول إقامتها أهل القرية. 

السيسي الذي لم يواجه مرسي أبدا بعد انقلابه عليه، لأنه كان تذكار غدره وخيانته، وحنثه بالقسم الذي أقسمه كوزير دفاع أمام الرئيس، عليه أن يواجه مستقبلا ما تركه محمد مرسي من إرث أخلاقي وقيمي، ومبادئي لهذا الجيل، وللأجيال التي تليه، التي ستمضي على طريق الحرية والتحرر الوطني، والاستقلالية الكاملة. تماما كما قال الزعيم الليبي عمر المختار، قبل شنقه: "سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فإن حياتي ستكون أطول من حياةِ شانقي".

رحم الله الرئيس الشهيد، ورحم الإمام الشافعي الذي قال: "مات قوم وما ماتت مكارمهم.. وعاش قوم وهم في الناس أموات".