أموال سوداء.. لماذا أعلن نظام الأسد المناطق المدمرة بدمشق جاهزة للإعمار؟

لندن - الاستقلال | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

يواصل النظام السوري خرق الدستور العامل به، عبر إصدار قوانين تنظيمية سكنية جديدة بأحياء مدمرة بمحيط العاصمة دمشق، مستغلا تشريد سكانها وتركهم لمنازلهم جراء آلته العسكرية.

ومن الواضح أن النظام السوري يمضي قدما في عملية التغيير الديموغرافي، من خلال إصدار قوانين تبيح له الاستيلاء على أملاك السوريين المهجرين، دون إبقاء الأحياء المدمرة على حالها لحين تحقيق الانتقال السياسي المتعثر.

إذ يسعى النظام السوري لخلق واقع اقتصادي واستثماري جديد بمحيط العاصمة على أنقاض البلدات المدمرة، وفق مراقبين.

مخطط تنظيمي

أعلنت محافظة دمشق في 28 يونيو/ حزيران 2022، صدور المخطط التنظيمي التفصيلي رقم (106) لتعديل الصفة العمرانية لـ6 مناطق تقع شرقي العاصمة هي (جوبر والقابون ومسجد أقصاب وعربين وزملكا وعين ترما).

ويشمل المخطط الجديد "تعديل الصفة العمرانية لتلك المناطق الستة من منطقة (B) حماية و(C) زراعية داخلية و(j) توسع سكني، إلى (i) مناطق قيد التنظيم، وفق الحدود المبينة على المصور ومنهاج الوجائب ونظام البناء الملحقين به لمنطقة جوبر".

ومنطقة جوبر ومحيطها خالية من السكان حاليا، نتيجة الدمار الكبير الذي لحق بها جراء القصف من قبل النظام السوري بمختلف أنواع الأسلحة إبان سيطرة المعارضة عليه قبل أن يستعيدها النظام في أبريل/ نيسان 2018.

وتمنع حواجز مليشيا الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد شقيق رئيس النظام بشار، دخول أهالي جوبر إلى حيهم منذ السيطرة عليه.

ووفقا لمدير التنظيم والتخطيط العمراني في محافظة دمشق، حسن طرابلسي، فإنه جرى الانتهاء من دراسة منطقة جوبر ومحيطها، والتي تبلغ مساحتها 304 هكتارات.

وكشف في حديث إذاعي في 28 يونيو، أن المخطط يأتي ضمن خطة "إعادة الإعمار"، لافتا إلى أن منطقة جوبر كانت بلدة قديمة وجزء منها زراعي وآخر يتضمن مخالفات، والآن أصبحت منطقة تنظيمية سكنية تحتوي جميع أنواع الخدمات، حسب زعمه.

وأوضح طرابلسي، أن رئيس النظام بشار الأسد، سيصدر المرسوم التنظيمي لمنطقة جوبر بعد 6 أشهر تقريبا، على الرغم من عجز حكومة الأسد من تحديد قيمة الأملاك العائدة للمهجرين في تلك المناطق.

وفي هذا الإطار، أكد المحامي السوري عبد الناصر حوشان لـ"الاستقلال"، أن سلطات النظام استندت في تعديل الصفة العمرانية بمنطقة جوبر إلى القانون (5) لعام 1982 الخاص بالتخطيط العمراني الذي يمنح الوحدة الإدارية بتنظيم المخططات التنظيمية للمناطق العقارية التابعة لها".

وأضاف: "مما يؤدي إلى حرمان مالكي العقارات المرخصة والتي قد لا يكون لحق بها أية أضرار أو لحقت بها أضرار بسيطة قابلة للترميم دون الحاجة الى إزالة البناء أو هدمه، وكذلك حرم مالكي العقارات من استخدام حقهم بالتسوية على مخالفات وحرمان مالكي العقارات الواقعة ضمن المخطط التنظيمي القديم من التصرف بعقاراتهم".

ولفت المحامي إلى أنه "يجري تنفيذ المخطط وفقا للقانون (23) لعام 2015 الخاص بتنفيذ التخطيط وعمران المدن، والذي يسمح للوحدة الإدارية بتغيير وتعديل الصفة العمرانية للمناطق العقارية من مناطق حماية، ومناطق زراعية، ومناطق توسع سكني إلى مناطق تنظيم".

جملة مخاطر

وشدد حوشان على وجود "جملة من المخاطر" وراء هذا القرار، على رأسها أن "القانون (23) لعام 2015 يعطي الحق للجهة الإدارية اقتطاع 50 بالمئة من العقارات مجانا للمشيدات والمرافق العامة بدون تعويض".

وثانيا، "تنتقل حقوق المالكين من حقوق خاصة مفرزة إلى ملكية على الشيوع مما يحرم المالكين من الانتفاع بملكهم والذي تلعب فيه عوامل المكان ونوعية الوصف الشرعي للعقار وصفته (تجاري – سكني) دورا مهما في العرض والطلب الذي يؤثر على قيمة تلك الملكيات مع حرمانهم من السكن البديل".

وتضمن الإعلان من قبل محافظة دمشق حول تنظيم جوبر تحديد مهل قانونية للاعتراض على المخطط بمدة 30 يوما من تاريخ الإعلان.

وحول هذه الجزئية ألمح حوشان، إلى أن "هذه المهلة تعد من مدد السقوط التي توجب على المالكين وأصحاب الحقوق التقدم للجهة الإدارية المختصة بطلب خلال ثلاثين يوما ليبين فيه محل إقامته المختار ضمن الجهة الإدارية، مرفقا بالوثائق والمستندات المؤيدة لحقوقه".

واستدرك حوشان قائلا: "لكن من المعروف أن حي جوبر مثل أحياء اليرموك والتضامن والقابون وتشرين مناطق منكوبة ومدمرة بالكامل وسكانها إما شهداء، أو مهجرون، أو معتقلون، أو نازحون، أو لاجئون، أو مفقودون، لا يملكون وثائق الملكية التي إما بقيت تحت الأنقاض أو أتلفت نتيجة القصف أو ضاعت أثناء التهجير القسري، ولا يمكنهم تقديمها خلال المدة المحددة".

وزاد بالقول: "لا سيما أن ملكية تلك العقارات قد تحولت من ملكيات مباشرة إلى ملكيات مشتركة إما بالإرث أو بالشراء والبيع على الشيوع، وهذه تحتاج إلى تنظيم وثائق حصر إرث معقدة ومعاملات إفراز أو إزالة شيوع تحتاج إلى وقت طويل قد يمتد سنوات".

ورأى حوشان، أن "هذه الخطوة تأتي في إطار خطة نظام بشار الأسد الهادفة لتجريد السوريين من أملاكهم المنقولة وغير المنقولة سواء في مصارفه أو دوائره العقارية، حيث بدأ بقوانين مكافحة الإرهاب ثم القانون رقم (10) لعام 2018 الذي طال أملاك السوريين المسجلة في السجلات العقارية".

ومضى يقول: "ليأتي اليوم بحرمانهم من حقوق الانتفاع والإيجار والمزارعة وجنى المحاصيل وسلبها وتقديمها لشبيحته وعصاباته الإرهابية مكافأة لهم على جرائمهم التي ارتكبوها بحق الشعب السوري".

"سوريا جديدة"

وأكد المحامي حوشان، أن "هذا القرار مخالف لأحكام القانون المدني والقانون الدولي، وهو انتهاك صريح لنص المادة (15) من الدستور التي نصت على أنه لا تنزع الملكية الفردية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل وفقا للقانون، ولا تفرض المصادرة الخاصة إلا بحكم قضائي".

وكذلك القرار مخالف "لحقوق المالكين بالتصرف في هذه الملكيات المقرر في المادة (768) قانون مدني، الناص على أنه لمالك الشيء وحده في حدود القانون حق استعماله واستغلاله والتصرف فيه".

كما أن القرار يعد "انتهاكا صارخا لنص المادة (18) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تنص على أن لكل شخص الحق في التملك سواء وحده أو مع آخرين، لا يجوز حرمان أحد من ملكيته تعسفا"، وفق حوشان.

وسبق أن أكد الباحث في مركز "جسور" للدراسات، وائل علوان، لـ "الاستقلال"، في ديسمبر 2021 وجود "مشروع كبير للحرس الثوري الإيراني بشأن دمشق، بمساعدة مباشرة من وزارة داخلية النظام السوري".

إذ عمدت الوزارة إلى تجنيس أكثر من 20 ألفا من حاملي الجنسيات العراقية والأفغانية والباكستانية، لإعادة توطينهم في داريا بريف دمشق وبأحياء القابون وجوبر الدمشقيين وفي مناطق الغوطة الغربية.

كما أفاد تقرير لصحيفة "الغارديان" البريطانية، في 23 مارس/ آذار 2022، بأن النظام السوري يقوم بهدم الأحياء التي كانت تحت سيطرة المعارضة في دمشق بذريعة إزالة الألغام لتوفير مساحات لتشييد مبان راقية حديثة وحدائق نظيفة، من أجل بناء "سوريا جديدة".

واتبعت وزارة الدفاع التابعة للنظام السوري منذ عام 2018، تكتيكا بطيئا لتسويغ عمليات الهدم في محيط العاصمة دمشق، عبر الإعلان عن قيام وحدات الهندسة بعمليات "تفجير ذخائر وعبوات ناسفة من مخلفات الإرهابيين" هناك.

لكن الحقيقة أن تلك التفجيرات كانت تجري لطمس معالم الأحياء، وتسير ضمن مخطط هندسي مدروس لإعادة بناء تلك الأحياء ومنح "أمراء الحرب" استثمارات ومشاريع في قطاع العقارات بتلك المناطق لتحريك اقتصاد النظام المتهالك.

ملاذ ضريبي آمن

وفي هذا السياق، أوضح الباحث السوري مدير موقع "اقتصادي" يونس الكريم، لـ "الاستقلال"، أن "المخطط التنظيمي رقم (6) جاء مكملا للمخطط التنظيمي رقم (104) الذي ينظم المنطقة المحاذية له".

وقال إن "هذا المخطط لإعلان النظام السوري أنه يسير نحو إعادة الهندسة الديموغرافية لمحافظة دمشق، وأن شركة شام دمشق القابضة التابعة للمحافظة أصبحت المالك الأساسي للعاصمة، وهذا ينهي الجدال الدائر حول الوجود الإيراني في بعض الأماكن".

واستدرك قائلا: "النظام يقول إن تحول دمشق لملاذ ضريبي آمن نحو واجهة لغسيل الأموال شبيهة بدبي بالجانب المظلم لها والتي لها (أي دبي) استثمارات حقيقية ورائدة من جهة وكذلك لها جانب مظلم وأسود".

وشركة "دمشق الشام القابضة" سيئة السمعة، تأسست عام 2006 برأسمال 350 مليون دولار، وبمساهمة 71 رجل أعمال مقربين من رأس النظام.

وتعد الشركة المحرك الرئيس لمشاريع إعادة الإعمار التي يخطط لها النظام في دمشق، وهي خلاصة التزاوج بين القطاعين العام والخاص في سوريا ما بعد الحرب.

وكانت مهمة الشركة الإشراف الكامل على مداخل ومخارج البلد الاقتصادية، من صادرات وواردات وتجارة داخلية، بالإضافة إلى المشاريع الاستثمارية.

لكن الأسد أمام حاجته لجمع كل رجال الأعمال السوريين تحت لوائه، عمد عام 2007 إلى تأسيس شركة "سوريا القابضة"، وأصبحت بذلك الشركتان تقبضان على رقاب السوريين، وتمنع إقامة بعض المشاريع في البلد دون موافقتهما.

وعلى خلفية ما تقدم، فإنه بات جليا، وفق الباحث الاقتصادي يونس الكريم، أن "النظام السوري يريد أن يبتدئ إعمار محيط دمشق بالجانب المظلم وتحويلها إلى ملاذ ضريبي آمن بالاعتماد على البنى التحتية".

ويتأتى ذلك، وفق الكريم "من خلال إخراج السكان أصحاب العقارات من بيوتهم مقابل حصص سهمية بسيطة بالنسبة إلى الكتلة الإجمالية للعقار وفق تقييم محافظة دمشق التي سيطرت واستولت على الأراضي".

ومضى يقول: "إن تقييم سعر العقار حاليا لن يأتي بـ2 بالمئة من القيمة الإجمالية للمشروع وحتى إن وصل إلى 2 بالألف جيد، وبالتالي يجري السعي من النظام إلى نزع الملكية من الأهالي وهذا مخالف للدستور وللعرف التجاري".

الأموال السوداء

وذهب الكريم للقول: "إن الهدف الأساسي الذي يريده النظام السوري هو إطلاق إعادة إعمار لدمشق على الأقل بغض النظر عن العملية السياسية، وهذا مؤشر على أن العملية السياسية طويلة جدا وقد حدد النظام أهدافه بأنه لا تغيير في السياسة العامة".

وكذلك "النظام السوري يعمل على تغيير ديموغرافي لهذه المنطقة بمحيط دمشق التي كانت متضامنة مع الثورة السورية، وبالتالي إخراجهم يجعل من أي استفتاء حول الدستور والقوانين القادمة أمرا مربكا"، وفق الباحث.

ورأى الباحث الاقتصادي أن "النظام السوري يريد أن يتعمق أكثر بالمشهد الاقتصادي وتحويل دمشق لملاذ ضريبي آمن بحيث يجعل العاصمة محطا للأموال السوداء لرجال الأعمال المشبوهين".

فعلى سبيل المثال، يستطرد الكريم، "كثير من تجار المخدرات بدؤوا بالانتقال إلى سوريا واتخذوها منصة لنشاطهم، وستدخل هذه الأموال إلى البنوك، وبالتالي هي بحاجة إلى بنية تحتية متقدمة من مساكن وبنوك ووسائل تنقل، وخاصة أنه حاليا هناك ارتفاع كبير في أسعار العقارات في دمشق مقارنة بغيرها من المناطق".

وألمح الكريم إلى أنه "هناك رسالة يريد النظام السوري تمريرها بأنه لا صحة لوجود إيرانيين وروس كلاعبين فاعلين في المشهد الاقتصادي وأنهم هم من يتحكم به بل ليسوا سوى مستثمرين وهذا لا إشكال فيه".

وأردف خاتما: "وبالتالي هي رسالة من النظام للخليج العربي الذي يريد رجال أعمال في بعض دوله أن يتضامنوا مع دمشق، والقول إن الأخيرة باتت أبوابها مفتوحة، وأن من يريد وضع أمواله وإداراتها بعيدا عن الرقابة في بلده الأم فليأت إلى الشام".

تجدر الإشارة إلى أن بلدات شرقي دمشق التي يسعى النظام السوري لإعمارها تتقاطع مع مشروع "الطوق الأمني" جنوب العاصمة، الذي يشرف على تنفيذه الحرس الثوري الإيراني منذ مطلع عام 2017.

ويبدأ الطوق من معضمية الشام ودرايا ومخيم اليرموك أكبر تجمع لشتات الفلسطينيين قبل عام 2011 جنوبي دمشق مرورا بأحياء ملاصقة له وهي ببيلا ويلدا وبيت سحم، وصولا إلى بلدة السيدة زينب ذات الأهمية الدينية لدى الشيعة، وحتى مطار دمشق الدولي، بما يضمن عملية تغيير ديموغرافي تخنق العاصمة وتؤثر عليها اجتماعيا واقتصاديا.